ويذهب إلى الغابة حمالاً فأسه وزوادته ، وهو متوكل على الله
الكريم في نيل حاجته من الأخشاب والأشجار ، التي كان يبيعها
في السوق ، ثم يرجع إلى زوجته وولديه بالطعام والحلوى ،
فيأكلون ويمرحون ، ثم يخلدون إلى النوم وهم سعداء وراضون
كل الرضا .
ذات يوم وبينما الحطاب عبدالرحيم يحتطب ، إذا به يسمع
أنيناً خافتاً من بين النبات والأعشاب ، فلما اقترب من المصدر
وجد دبـاً صغيراً ، متكوّراً على نفسه يئنّ ويتوجع من شدة الألم ،
فدنا منه وانحنى عليه وتبيّن موضع الألم ، فوجده جرحاً بليغاً ،
فقال في نفســـه :
ـــ لا بدّ أن أحد الحيوانات المفترسة قد هاجمه وأحدث به
هذا الجرح الخطير .
ولم يتركه ، بل حمله معه إلى المنزل ، وهناك ضمدوا له جرحه
الذي كاد يقتله ، ومن ثم قدموا له الطعام ، فأكل الدب الصغير قدر
حاجته ، وبعد ذلك أسلم نفسه لعناية أصدقائه الجدد !! .
ومضت أيام عدة ، تماثل فيها الحيوان الصغير للشفاء وقد غدا صديقاً حميماً لإبني الحطاب ( أنس وكريمة ) ، اللذين أحبّاه
واعتنيا به عناية فائقة .
في تلك الأثناء كانت أم الدبّ تبحث عن ولدها الضائع في أنحاء
الغابة ،دون أن تجده ، فلما رآها الحطاب عبدالرحيم ، تعرض لها
بجسمه ، مما جعلها تشتمّ فيه رائحة وليدها المفقود ، فتبعته حتى
وصل إلى منزله ... ولم يُماطلها الحطاب الطيب ، بل أسرع وأخرج
لها ولدها الذي كان يلهو ويلعب مع صديقيه أنس وكريمة .. وما
أن رأى الدبّ الصغير أمه تقف أمامه ،حتى جرى نحوها بكل شوق
ولهفة ،فتلقته الدبّة الأم بدورها ببالغ الحب والحنان ! .
فهمت الدبّة الأم من ولدها الدبّ الصغير : أنه قد عاش في منزل
الحطاب المحسن أياما هانئة وسعيدة ، بصحبة ولديه الرفيقين ، بعدما أنقذه ــ أي الحطاب ــ من براثن الموت .
فأرادت الدبة الأم أن تكافئ الحطاب الطيب على صنيعه المشكور مع صغيرها ، فأخذت من منزله وعاء كبيراً، وذهبت به دون أن يعترضها أحد ! .
في صباح اليوم التالي جاءت الدبة الأم يصحبها ابنها الدب الصغير
،وكانت تحمل الوعاء الكبير، وقد ملأته عسلا صافياً شهياً لذيذاً ،
وقدمته إلى الحطاب عبد الرحيم شاكرة إياه على معروفه العظيم،
ثم ما لبثت أن تركتهم واختفت في سٌبل الغابة الكثيفة .
وبالرغم من شعور الحزن الذي خيم على أنس وكريمة لفراق الدب الصغير لهما ، إلا أنهما كانا سعيدين بعودته إلى حضن أمه .
أما وعاء العسل الغالي، فكم كانت فرحتهم عظيمة به ...!
فالعسل في ذلك الزمان كان عزيز المنال إلا على أصحاب الثراء والسلطان !! .
في أحد الأيام، وبعد مضي بضعة شهور على حادثة الدب الصغير ،
وبينما كان الحطاب عبدالرحيم منهمكاً في تقطيع الأخشاب كعادته،
إذ طلعت عليه ابنة (( وحشة الليل )) ، التي كانت تٌرعب الناس وتخيفهم في ذلك الحين .. فهي عند الناس بأنها تفتك بكل من يقع تحت يدها ، وكانت ابنة وحشة الليل تبكي بكاء الطفل الصغير ، الذي يخاف من العتمة !.. ولأن الحطاب عبدالرحيم يعلم علم اليقين
،الخطر الذي تشكله الوحشة الصغيرة ، على من يقترب منها ، فقد تردد في الإقبال على الوحشة الصغيرة الباكية ، وفكر في عدم الأقتراب لئلا يوقع نفسه وعائلته فيما لا تحمد عقباه .
ولكنه عندما نظر إليها من جديد رقّ قلبه لها ، ولم تطاوعه نفسه الكريمة أن يتركها وحيدة ، لتواجه الحيوانات المفترسة ، وأخيراٌ
اقترب منها وسألها قائلا :
ـــ لمَ أنت وحدكِ هنا يا صغيرة ؟ .
أجابت الغولة الصغيرة بتواضع :
ـــ لقد تركتني أمّي وحيدة في هذه المنطقة يا عمّ ! .. ولا أدري
إلى أين ذهبت ، وأنا لا أعرف ماذا أصنع ...؟!
تأثر الحطاب الطيب بما سمعه من الوحشة الصغيرة ، رثا لحالتها
المحزنة ، وقرّر أن يأخذها معه إلى المنزل الرغم من الخطر الداهم
الذي قد يُحدق به إن علمت الغولة وحشة الليل بمكان وجود
ابنتــها ؟! .
دخل الحطاب عبدالرحيم البيت وهو ممسك بالوحشة الصغيرة ،
وأقبل على زوجته وولديه ، وقال لهم :
ـــ هذه ابنة الغولة وحشة الليل ، إلتقيتها في الغابة هائمة على
وجهها وهي تبكي ، ولا تدري إلى أين تذهب ، فأمّها قد تركتها
وحدها ولا أحد يعلم إلى أين توجّهت، وإني أشفقتٌ على هذه الصغيرة من الوحوش المفترسة ، فجلبتها معي ! .
فقالت الزوجة بخوف :
ـــ ولكن يا عبدالرحيم ألم تُفكّر في أمّها وحشة الليل ، قد تأتينا
وتفتك بنا ! .. بل حتماً ستأتينا وتفتك بنا ، عندما تعلم بأن ابنتها
موجودة لدينا .. عندئذ لن ينفعنا شيء ولن يُنجدنا أحد !! .
قال الحطاب عبد الرحيم باطمئنان :
ـــ توكلي على الله يا زوجتي العزيزة ، لن يُصيبنا شرُّ بإذن الله
سنوصد بابنا ونُغلقه جيداً أثناء الليل ، وسيكون سلاحي جاهزاً
بيدي عند أي طارئ يُحدث ، فإطمئني .
قالت الزوجة بشيء من الراحة :
ـــ حسن ... ولكن ألا تخشى على ولدينا من هذه الغولة الصغيرة ،
التي قد تُهجمهما ، وربما ...
فقاطعها الحطاب عبدالرحيم قائلا :
ـــ لا تخشي شيئاً سنربطها إلى عمود البيت وبذلك لن نخاف
منها أذيّة ! .
وهكذا أيها الأصدقاء رُبطت الوحشة الصغيرة ، ابنة الغولة
وحشة الليل إلى عمود المنزل ، وكان الطفلان أنس وكريمة
يقضيان وقتهما في إطعامها وسقايتها ، وكان أبوهما الحطاب
عبدالرحيم لا يفكّ وثاقها إلا في وجوده ...
ومضت بضعة أيام والسعيدة تُحيط بمنزل الحطاب الطيب الكريم
والبركة والعناية الإلهية تحفّ بهم من كل حدَبٍ وصوْب ، حتى
كادوا أن ينسوا أمر وحشة الليل ، الغولة التي هم بإنتظار مجيئها
بين ساعة وأخرى ! .
كانت الريح تصفر في تلك الليلة المهولة ، التي اختفى عنها القمر
وراء حجاب من الغيوم الكثيفة ، وقد صار الليل حالكاً شديد الظلام .. في ذلك السواد البهيم مشت غولة ، كجثة مُخيفة ، كانت تتخبّط
بين أشجار الغابة ، وكأنها تبحث عن شيء ضائع أو شخص
تُريده أن يظهر ! .
هذه الجثة المخيفة والتي كانت تسير بين أرجاء الغابة بعصبية
ظاهرة ، لم تكن سوى وحشة الليل الرهيبة ، وهي تبحث عن ابنتها المُختفية ، دون أن تجد لها أثراً ..
فلما يئست من أن تجدها ، أطلقت صوتاً مُرعباً ، دوّى في جنبات
الغابة العريضة ،وطغى على صفير الريح الثائرة، فوصل صداه إلى
مسامع الحطاب عبدالرحيم وعائلته ، وهم في منزلهم .. وكذلك سمعت الوحشة الصغيرة صوت أمّها الغولة وحشة الليل ، الذي
كان في الحقيقة مُوجّهاً إليها ! .
وتكرّر الصوت الرهيب ، فعرفت الوحشة الصغيرة أن أمّها تُناديها
، فما كان منها إلا أن ردّت على النداء الآتي من جوف الغابة بنداء
مثله ،ولكنه أخفّ حدّة وأقلّ رهبة ، وسعت وحشة الليل صوت ابنتها وحددت الإتجاه الذي صدر منه ، وبسرعة البرق راحت تعدو
نحو بيت الحطاب عبدالرحيم ، الذي كان على أتمّ الأستعداد لمُجابهتها .
وقفت وحشة الليل الغولة المُرعبة خلف الباب المُغلق بإحكام ..
وأخذت تكلّم ابنتها قائلة :
ـــ هل أطعموك هؤلاء الناس أم جوّعوكِ ؟ .. هل أعزّوكِ أم
أذلّوكِ ؟ .. أجيبي يا ابنتي ... !
أجابت االوحشة الصغيرة قائلة :
ـــ كلا يا أمّي .. كلا .. بل أطعموني وأعزّوني وأحسنوا إلي
غاية الإحسان !! .
ومن عجب أن الغولة وحشة الليل لما سمعت هذا الكلام من ابنتها
أخذت تدعو للحطاب وعائلته بالخير واليُمن وحسن الثواب !! .
ومع ذلك فقد بقي الحطاب عبدالرحيم واقفاً لدى الباب ، حاملاً سلاحه وهو مُتربّص ، بينما زوجته تحتضن ولديها أنس وكريمة
، والخوف آخذ بمجامع قلبها .
طرقت وحشة الليل الباب بعنف حتى ينفتح وتدخل ، لكن الباب لم
يُفتح ! ... وتكلّمت الغولة الرهيبة فقالت :
ـــ افتح لي الباب أيها الحطاب الطيب فإني أريد أن أكافأكَ ! .
ردّ الحطاب عبدالرحيم عليها ساخراً :
ـــ وبماذا تُريدينَ مُكافأتي ؟! .. أبالفتك بنا وجعلنا طعاماً شهيّاً
لك ولإبنتك !! .
ـــ لا لا أيها الحطاب الكريم .. صدّقني لن أمسكم بسوء .
ولم يُصدقها الحطاب عبدالرحيم ، فهو يعلم أن لا عهود ولا مواثيق
للوحوش وأمثالهم ، مهما قدّموا من أدلّة وبراهين لدعم كلامهم .
وأخيراً أيقنت وحشة الليل بأن الحطاب لن يفتح لها الباب ، فقالت
بخيبة غير ظاهرة :
ـــ حسناً أيها الحطاب الحذر ، لا تفتح لي الباب ! .. ولكن خذ مني
هذا الشيء .
ـــ وما هو ؟ .
ـــ إنه دواء ناجح لمرض الرقبة المُتفشّي بين الناس ! .
( كان إلتهاب اللوزتين معروفاً في ذلك العصر بمرض الرقبة )
ومدّت الغولة يدها الضخمة ، ذات المخالب الفاتكة ، وأدخلت الدواء من كوّة الباب ، فتناوله الحطاب عبدالرحيم والسعادة
بادية عليه ، عند ذلك قالت له وحشة الليل بحكمة واتّزان :
ـــ لقد أعطيتك هذا الدواء لأنك أحسنت إلى ابنتي وآويتها في
بيتك ( فمن يعمل خيراً لا يجد إلا خيراً ) ! .
فقال الحطاب عبدالرحيم :
ـــ صدقتي يا وحشة الليل ! .. والآن أرجو منك الإبتعاد عن المنزل
كي أستطيع أن أخرج لكِ ابنتك .
وابتعدت الغولة وحشة الليل على كُره منها .. فلما أحس الحطاب
عبدالرحيم بذلك ، أسرع فأخرج لها ابنتها الوحشة الصغيرة ، ثم
عاد وأوصد الباب بإحكام ، وراح ينتظر ...
دنت وحشة الليل من المنزل بعد أن اطمئنّت على ابنتها وقالت :
ـــ لو أنك أيها الحطاب فتحت لي الباب لربما كنتُ قد فتكت بك ! ..
ولكن لا بأس لقد أعطيتك دواء سيجعلك سيداً بين الناس .. وبالمناسبة أيها الحطاب علمت أن ابن السلطان يعاني من مرض
الرقبة ، وهو في حالة سيئة ولم يستطع الأطباء مُعالجته فاذهب