مناجاة
بين الشاعر عمر الخيام
والشاعر احمد رامي



مر من الزمن قرابة الف عام بين ذاك الذي عاشه الشاعر والفيلسوف
عمر الخيام وبين الذي عاشه الشاعر احمد رامي
ولكننا عندما نذكر عمر الخيام فان اسمه يقترن بشكل او باخر باسم الشاعر
المصري الكبير احمد رامي وانما الذي يربط الاثنين انما هي تلك الرباعيات
الخالدة والتي اصبحت واحدة من النوادر الشعريه التي يتحدث عنها وفيها
الناس في كل البلاد
الرباعيات في مذهب الشعر هي افضل القوالب للشاعر الفيلسوف الذي يريد
ان يعرض علينا مذهبه لا في بحث منهجي او تتابع منطقي بل في ومضات متالقه
ليس هناك لذة تفوق لذة الحيرة التي يلقيك الشاعر عمر الخيام في احضانها
او بين مخالبها ذلك لانها ليست ناجمة من انك تجد نفسك في فراغ من حوله
فراغ بل لانك في قلب دوامة تدور من حولك لا تعرف اولها ولا اخرها
تنم رباعيات الخيام انها لم تتشكل الا بعد ان استقر صاحبها على راي فلسفي
في الحياة نضج عنده اولا ثم تكامل وتبلور وان المحور المرسوم الذي تدور
عليه الرباعيات جميعها كل واحدة منها جزء من خصائص الكل يكشفه ويعرف به
الرباعيات هي حياة الشاعر عمر الخيام ولكنه لا يعرض علينا ايامها بالتتابع
بل يختار منها لحظاتها الفريدة
قد تقرا الرباعيات في ساعة ولكنك تحس انك عشت حياة الخيام طوال عمره
وفي تلك الرباعيات تجد ان الرباعية الواحدة تنبا عن اقبال شديد على الحياة
واكبار لها وتعلق بها وفي الوقت ذاته فهي تنبا عن الاستهانة بهذه الحياة
واحتقارها ولا تدري ان كانت هذه لذة روحية وتاخذك الحيرة وتتسائل
امتفائل انت ام متشائم امؤمن انت ام كافر
عاش الخيام عيشة الشاعر الحكيم اكثر ما نعى على الحياة واشد ما علقت
نفسه بما نال منها لذلك نرى فيها نزعة التشاؤم شائعة
ثم ينعى على الموت ويؤلمه ان الذي يرحل ليس له عودة ويعتقد ان الانسان
لن يعود اليها فيقول
علام اضاعة العمر في النوم وعدم انتهاز الفرص
وان سر الحياة ان تصحو وان تشرب
لا تهتم بامس او بغد نادم الكاس في مجلس الحبيب في ضوء القمر وعند السحر
وفي الغروب على نغم الناي وعلى ضفاف الغدير
كان الخيام راجح العقل ثاقب الذهن سمح البديهة حافل القريحة بديع الخيال حريصا
على استطلاع الحقيقة صبا بها مستهاما
وقد ثار في وجه السائد في عصره من فاسد العقائد وكان يرى ان اساس الكون
هو الاضطرار والجبر والقدر الازلي والقضاء الاعمى فلما وجد ان عبقريته وعلمه
لم يعدو ان زاده بصيرة بفساد العالم وخراب الكون واختلاف نظامه عند ذاك
قذف بتلك العبقرية وذاك العلم بين انقاض هذا الخراب العام والفساد الشامل
ثم جعل من تظاهره بتحبيذ الملاذ الحسية ذريعة وسلما الى تعاطيه في رباعياته
تلك المسائل العويصه الاله والقدر والروح والمادة والخير والشر
وان كثير من النقاد يميلون برايهم ان عمر الخيام لم يكن في شعره ذلك الشهواني
المادي الاباحي كما يدلنا ظاهر الفاظه وانما كان صوفيا يرمز للذات الالهية
بالفاظ الخمر والساقي والكاس وغيرها كما عند غيره من الشعراء الفرس
امثال حافظ الشيرازي وابن الفارص
ان الخيام في هذا المرح الشامل والعبثية اللامتناهية لم يسلم من الشك
الدائم في القضاء ولم يمسك عن السعي الى حل لغزه الخفي
حتى اذا ياس من كل شيئ نراه يرتمي في احضان الانس ويندفع الى شفة
الكاس فلم تسعفه الحكمة في ان يصل الى اسرار الوجود فنراه بعد ذلك
يصحو من تلك النشوة وتهدا اعصابه فيشعر بالخطيئة ويلتجا الى
اللة طالبا الرحمة والغفران


كان عمر الخيام يرسل هذه الرباعيات في خلوته ثم ينشدها لاصحابه في
المجالس فتحفظ وينتشر سحرها بين الناس ومن البديهي انه لم ينظمها
في دور واحد من ادوار حياته وانما نظمها بين الفينه والفينه حسب ما
اوحي اليه خاطره واملى عليه وجدانه
والخيام في نظمها بين متفائل ومتشائم قدري ومتصوف تقي ومستهتر
ولكنه اكثر ما يميل الى حد السخرية من الحياة
وفي اغلب الرباعيات نلمس روحا حائرة تبحث عن الهدوء والحقيقة


ظلت رباعيات الخيام غائبة في بطون الكتب وفي حنايا المكتبات حتى
وفق الاستاذ كويل الى العثور على اقدم نسخة خطية لها في مكتبة
بودليان في اكسفورد فنشر شيئا عنها وعن حياة شاعرها في مجلة
كلكتا عام 1858 ولم تكن تحوي سوى خمسة وسبعين رباعيه
وفي عام 1867 اخرج المسيو نيقولا ترجمان السفارة الفرنسية
في فارس ترجمة نثرية للرباعيات تشتمل على اربع وستون واربعمائة
رباعية نقلها عن نسخة طهران المطبوعة على الحجر
وبعدها توالت الترجمات الى لغات العالم ومنها العربية ومن تلك الترجمات
ترجمة احمد زكي ابو شادي
ترجمة محمد جميل العقيلي
ترجمة محمد السباعي
ترجمة الشاعر جميل صدقي الزهاوي
ترجمة احمد الصافي النجفي
ولكن تبقى ترجمة الشاعر احمد رامي للرباعيات من انفس واعظم الترجمات
حيث جاءت اكثر قربا واحساسا بنفس الشاعر عمر الخيام لا بل انها اي الترجمة
كادت ان تتفوق على الاصل في حسن صياغتها الادبية وبراعتها الشاعرية
وكان احمد رامي قد نشرها لاول مرة عام 1931
ولربما كان واحدا من اسباب انتشارها واستساغتها من قبل القراء العرب هو
ان ام كلثوم غنت بعض من مقاطعها
عندما اختارت ام كلثوم مقاطع من تلك الرباعيات اوكلت الى عبقري اللحن
العربي رياض السنباطي مهمة تلحينها
وقد حولها السنباطي من خلال اوتار عوده الى لحن رائع
لقد اختار السنباطي ان يلحن الرباعيات كما هي اي ان كل رباعية بلحن
مختلف ولا اريد ان اخوض هنا في تفاصيل اللحن والمقامات
تقول كلمات الاغنيه
كلمات:احمد رامي

ألحان:رياض السنباطي

سمــعت صـوتا هاتــفا فى السحـــر
نادى من الغــــيب غفاة البشر

هبوا املأوا كــأس المــــنى قبل أن
تملأ كأس العـــمر كف القدر


لا تشـــغل الـــــبال بماضى الزمان
ولا بـــــآت العيش قبل الأوان

واغنم من الحـــــاضـــر لــــــــذاته
فلـــيس فى طبع الليالى الأمان


غد بظـــهر الغـــيب والــــيوم لــى
وكم يخيب الظـن فى المقــــبل

ولســــــت بالغافـــل حـــــتى أرى
جمال دنـــــــياى ولا أجتـــــلى


القـــلب قـــد أضناه عشق الجــمال
والصدر قد ضاق بما لا يقــال

يـــــارب هل يرضـــيك هذا الظما
والماء يــــــنساب أمامى زلال


أولى بهذا القـــلب أن يخفــــــــــق
وفى ضـــرام الحب أن يحرق

ما أضيع الـــيوم الذى مـــر بــــى
من غير أن أهوى وأن أعـشق


أفـــق خفـــيف الــظل هذا السـحر
نادى دع الـــــــنوم وناغ الوتر

فــــما أطـــال الـنوم عـــــمرا ولا
قصر فى الأعمار طول السهر


فـــــكم تــوالى اللــــيل بعد النهـار
وطال بالأنــــــــجم هذا المدار

فامش الهـــوينا ان هـــــــذا الثرى
من أعين ساحـــــرة الإحورار


لا توحش النــــفس بخوف الظنون
واغنم من الحاضر أمن اليقين

فقد تســـاوى فى الثرى راحل غدا
وماض من الوف الســـــــنين


أطفىء لظى القلب بشهد الرضاب
فإنما الايـــــــام مثل السحاب

وعــــيشنا طيف خيال فنل حظك
مــــــنه قبل فوت الشــــــباب

لبست ثوب العيش لم استشـــــــر
وحــــــرت فيه بين شتى الفكر

وسوف انــــضو الثوب عنى ولم
ادرك لمــــــاذا جئت اين المفر


يا من يحـــــــار الفهم فى قدرتك
وتطلب النفس حمى طاعـــتك

اســــكرنى الإثـــــــــــــم ولكننى
صـــحوت بالآمال فى رحمتك


إن لم أكن اخلصـــت فى طاعتك
فإننى أطمع فى رحمــــــــــتك

وانمــــــــــا يشـــــفع لى اننى قد
عـــــشت لا أشرك فى وحدتك

تخفى عن الـــــناس سنى طلعتك
وكل ما فى الـكون من صنعتك

فأنت محـــلاه وأنت الــــــــــذى
تـــرى بديــع الصنع فى آيــتك


إن تفصل القطــــــرة من بحرها
ففى مــــــــــــداه منتهى أمرها

تقاربت يارب ما بيننــــــــــــــــا
مسافة البعد على قــــــــــدرها


ياعالم الأســـــــرار علم الـــيقين
ياكاشف الضر عن البائسيــــن

ياقابل الأعـــــذار عدنا الى ظلك
فاقـــــــبل توبـــــة التائبيــــــن
ان كلمات احمد رامي ولحن السنباطي وصوت ام كلثوم سينقلنا الى العالم الذي
عاش في الشاعر عمر الخيام باحاسيسه وخلجاته
اما عن الشاعر عمر الخيام
فهو غياث الدين عمر لبو الفتح بن ابراهيم الخيام المولود في نيسابور عاصمة خراسان
في بلاد فارس عام 1040 في عهد السلطان ارطخول اول ملوك السلاجقة
وذاعت شهرته في عهد السلطان ملك شاه وتوفي في عام 1123 في عهد السلطان
سنجر في مدينة نيسابور وما زال قبره في مدفن الحيرة بمشهد علي
وله مختصرات في الطبيعيات ورسالة في الوجود ورسالة في الكون والتكليف
وكان عالما في الفقه واللغة والتاريخ
والان لنستمع الى اللحن الخالد الى اغنية رباعيات الخيام

منقولة من ايميلي