عبد الرحيم محمود في ذكراه المئوية
صورة العاشق والإنسان
د. يوسف حطيني
أليس من واجبنا في الذكرى المئوية لمولد شاعرنا الشهيد عبد الرحيم محمود أن نحتفي به، بما يليق بشاعر حمل السيف والقلم، ومزج دمه بمداد قصائده؟؟
هذه الدراسة التي تعدّ إسهاماً متواضعاً في لفت النظر إلى هذه المناسبة هي الجزء الأخير من كتيب صغير للفتيان، طبعته لي مؤسسة الثقافة الفلسطينية بدمشق، وهي تركّز على جانب لم يُلتفت إليه كثيراً في شعر الشاعر الشهيد.
* * * *
ثمة جوانب لم يتم الالتفات إليها كثيراً في شعر عبد الرحيم محمود، إذ تمّ التركيز على الموضوعات ذات الصلة بالموضوع الوطني، على حساب موضوعات لا تقلّ أهميّة من مثل الشعر الاجتماعي الذي يهتمُّ بترسيخ قيم المجتمع والحثّ على تحقيق العدالة الاجتماعية، إضافة إلى الشعر الغزلي والإنساني والتأملي الذي يجنح بالشاعر نحو الرومانسية.
يوجد لدى الشاعر عبد الرحيم محمود أرق اجتماعي، فهو يعطي في شعره أهمية كبرى للعمال، ويدافع عن قضاياهم، ويعدُّ نفسه جزءاً من حركتهم الدائبة، ويمدح ابتعادهم عن أولئك الذين يقولون ما لا يفعلون، فهو يقول مثلاً:
نحن المصـادر والمـوارد / وسلاحنا فتل السواعدْ
إن اسمنا العمـال لا نلهـ / ـو بلغـوٍ عن مقاصدْ
لسنا كمن يهذي على الـ / أعواد بالخطب الرواعدْ
وكان يكرّر فكرة مفادها أنّ العامل يكدُّ ويعرق، في حين أنّ الآخرين يجنون جهده، ويجمعون ثرواتهم من استغلاله، لذلك يذكّر العامل دائماً بالمفارقات الناتجة عن المقارنة بين جهده وحياته الشقية، فيقول في واحدة من قصائده:
هذي القصور وأنتَ را / فعُ سمكِها، هل هُـنَّ لَكْ؟
والدوح أنتَ زرعـتهُ / من حـولها، هـل ظلّلكْ؟
والنورُ من يدِكَ الصّنا / عِ، فما حياتك في الحلَكْ؟
ويقول في قصيدة أخرى:
عصيرهمُ من جنى راحتيكَ / وخمرُكَ من بؤسك الدائمِ
وتعجنُ خبزهمُ بالدمـوعِ / وتأكلُ مـن فضلةِ الآدِمِ
وتنسجُ ما يلبَس المترفـون / ولستَ بذي ملبسٍ ناعمِ
وربما يستبدّ الغضب بالشاعر من جرّاء استمرار صور هذه المفارقة، فيدعو العامل إلى الثورة بمن يحرمه حقه في الحياة الرغيدة التي يستحقها، فيقول:
اُُحصُدْ بمنجـلك الرقابَ / إذا حـرمْنَكَ مـن مرادكْ
واطرق بمطرقك الرؤوسَ / إذا تمـادتْ في عـنـادِكْ
أنتَ الذي زرعَ الحيـاةَ / فمن شريكُكَ في حصادِكْ؟
إنّ مثل هذا التصوّر الذي ينطلق فيما نعتقد من إخلاص الشاعر لموقعه الطبقي، يجعله ينظر إلى الأرزاق التي يدعي غاصبوها بأنها قسمة الله نظرة تعيد الأمور إلى نصابها، وتكشف ما فعله الباغون بأرزاق الناس، فهو يقول:
بغى في قسمة الأرزاق ناسٌ / وقالوا هكذا قسم الإلهُ
لقد وصفوا الإله بشرّ ظلمٍ / بما كذبوا، تنزّه في علاهُ
مثل هذا الفهم لطبيعة العلاقة بين المستغِلين والمستغَلين يجعله واحداً من شعراء الأدب الاجتماعي الثوري الذي قام في مواجهة الأدب الإصلاحي الذي كان أحمد شوقي أبرز أعلامه، إذ كان يطلب من العمال أن يستقيموا، وأن يطلبوا حقوقهم برفق، حتى تبقى أبواب الرزق مفتوحة أمامهم، يقول شوقي:
أيّها العُمَّال أفنوا العُمـر كدّاً واكتسـابا
واعمُروا الأرض فلولا سعيكم أمست يبابا
اُطلبوا الحقَّ برفقٍ واجعـلوا الواجـب دابا
واستقيمـوا يفتـحِ اللهُ لكـم بـاباً فبابا
* * *
إنَّ سمة التمرّد التي بدت في شعر الشاعر الوطني والاجتماعي تتسرّب أيضاً إلى شعره الغزلي، إذ قلّما يقتصر غزله على الإعجاب بالجمال، والمعاني التقليدية، من مثل قوله:
يا غزالاً صدّني، ما أجملَكْ / مبدعُ الأكوان ربّي عدّلَكْ
فيك معنى كلّ حُسنٍ رائعٍ / عرَف الجنّة من قَد قبَّلَكْ
إذ تبدو قصيدة الغزل عنده مثل ثورة صغيرة تقوم في قلبه، وتضجر من تلك المعشوقة التي تظنُّ أنَّها الوحيدة التي تتربع على عرش قلوب الرجال، فهو يقول مثلاً:
خالتنيَ الميّـت مِـن صـدّها / والعائـش الدَّهـرَ مُعنَّى عليلْ
قالت: قتيلي أنت، قلت: اعلمي / أن قد صحا الساهي وحيَّ القتيلْ
ملت إلى غـيري، وإني امـرؤ / إن مالت الروح فعنـها أميـلْ
قالت: فسحري لم يزل فاعـلاً / قُـلت: فهاتي عليـه الدليـلْ
مخلوقـة أنت.. فلا تـكـبري / مثـلك بين الناس ألفـا مثيـلْ
من هنا فإنَّ ردّه على الأنثى المترددة، أو الأنثى المغترة بجمالها، يكون في استصغار شأنها، وفي البحث عن حبّ جديد، يعيد له إحساسه بكبريائه، كأن يقول:
اغضضي أو صعّري خدّك لي / وخذي غـيريَ عشّـاقاً جِدادا
واهجريني.. وابعدي عنّي فلا / أرهبُ الفجر، ولا أخشى البعادا
وتناسي كيف شـدنا عُشَّنا / قد هدمنا ما بنى الحبُّ وشـادا
وهو عاشق متمرد، مثلما هو ثائر متمرد، لذلك يرفض استغفار المعشوقة الغادرة، التي جاءت لتنكأ جرحاً قديماً في قلبه، لأنها تستدعي باستغفارها آلام الجراح التي تركتها في قلبه ذات يوم. وها هو ذا يخاطبها قائلاً:
دعيني فقد أيقظتِ ما بي من الأسى / وهيّجتِ جرح الحبّ في قلبيَ الدامي
غـدرتِ، وجئت الآن تستغفرينني / لنقضـك عهد الحبِّ من بعد إبرامِ
لقد ضـلَّ عقلي فيك حيناً وها أنا / عرفتُ سبيل الحبّ من بعد تهيامي
* * *
وقد أبدعَ الشاعر الشهيد أيّما إبداع في تناول الموضوعات الإنسانية، وقد أعطى هذه الموضوعات التي تقوم على التأمل أبعاداً فلسفية ورومانسية، ومن ذلك رثاؤه الفريد للحمال الأعمى الذي وجده ميتاً على أحد أرصفة حيفا وبجانبه سَلَّتُهُ وحبله، فهو ضحية للاستغلال الذي لم يرحمه في حياته وفي مماته:
قد عشتَ في الناس غريباً وها / قد متَّ بين الناس موت الغريب
والناس، مذ كانوا، ذوو قسوة / وليـس للبائـس فيهم نصيب
لو كنت في حبلك شـنّاقهم / لولولوا حزناً وشقّوا الجيـوب
مثل هذا الاستغلال الذي جعل الحمال يعيش غريباً ويموت غريباً مكّن الشاعر من أن يفهم خيار أبي العلاء باعتزال الناس الذي لم يكتفِ بمحبسه القسري: العمى، بل جاوز ذلك إلى محبس اختياري يأمن فيه مشاهد البؤس والظلم. يقول عبد الرحيم في قصيدة بعنوان رهين المحبسين:
أعمى وشاهدَ في الوجو / د مشـاهـداً هـزّت يقينَهْ
ما المَلْكُ يستلبُ الضعا / فَ لآلـئاً زانـتْ جـبينـَهْ
والزوجُ يغدُرُ زوجَـهُ / والخِـدنُ لا يرعـى خـدينَهْ
أوليسَ في هذا لذي الـ / ـوجدان ما يُشجي شُجونَهْ؟
هذا الاغتراب الذي لمسه الشاعر في حياة ذوي الوجدان قاده إلى الحديث عن هذا الإحساس الفريد الذي يعاني وطأته، في قصيدة لم يلتفت إليها الكثيرون على الرغم من أنها تعدّ من عيون الشعر العربي، تلك القصيدة التي تقدّم فلسفة الشاعر بهية ناصعة في مواجهة عالَمٍ ظلوم غشوم، فيقول:
هل غير سيلٍ من دم دافقِ / يروي غليل الساخط الحانق؟
أم غير لألاء الظُّبا والقنا / يزيل من قلبي دجى الغاسقِ؟
كرهتُ ذا العالم هل مأبقٌ / في عـالم آخـر للآبـقِ؟
ضاقت بي الدنيا، وإني بها / أضِيقُ، يا لي من فتى ضائقِ
روحي عبء مثقل عاتقي / أيّانَ ألقي العبء عن عاتقي
تغلو على الناس ولـكنني / أبيعـها للنّـاس بالدانـقِ
فالشاعر بعد أن يقاسي ظلم هذا العالَم الآبق يبحث عن خلاصه الفردي الفلسفي، مثلما بحث عن خلاصه الجماعي في قصائده الوطنية، فينتظر الموت انتظار المشتاق، حتى لا يرى الفاسق، وقد اعتلى بين قومه، والكاذب، وقد نال في الحياة مشتهاه:
متى أراني بتُّ طـيَّ الثرى / يسحقني بالكلكل الساحقِ؟
وأغمضُ العينين عن عالمٍ / لا يعتلي فيـه سوى الفاسق
يحظى به الكذّاب بالمشتهى / والتعسُ للمخلص والصادقِ
ويطلق الشاعر أمنية كانت محتَبسةً في صدره، متمنياً أن يتغيّر منطق الحياة الذي يفرضه الظالمون على المظلومين، وينتفي فيه العدل، حالماً بأن يأتي يوم يحقُّ فيه الحقّ، فيسمو ذوو الأخلاق بأخلاقهم، ويهوي أصحاب الباطل في أسفل سافلين:
يا منطقاً لم يُرْوَ عن عاقلٍ / العَيُّ خـير منـه للناطـقِ
قد مُحِقَ العدلُ فلا عادلٌ / أما لهذي الناس من ماحقِ؟
متى أرى الحقَّ وأصحابه / يعلـون من أدنى إلى شاهقِ؟
وأُبصِر البُطْلَ وأربـابه / يهوون من أعلى إلى ساحقِ
فإذا عاد الحقّ إلى أهله، وإذا تحققت العدالة، وإذا صهر العبيد قيود ذلهم، فإنَّ ذلك هو العيد الحقيقي لدى الشاعر الذي امتزجت معاناته بمعاناة الناس جميعاً، فها هو ذا يقول:
إذا رقَّ إحساسنا في الوجودِ / وفاضت نفوسٌ لنا شاعره
إذا ما صـهرنا قيود العبيد / بنارٍ من القوة القـاهـره
إذا ما نعـمنا بلقيـا المنى / وقـوتِ رغـائبنا الحائره
إذا كـان هـذا فثمة عيدٌ / وتلك مظـاهره الساحره
كلمة أخيرة:
لقد استطاع الشاعر الشهيد، من خلال حياة قصيرة، امتدت نحو خمسة وثلاثين عاماً أن يقدّم للقارئ العربي ديواناً شعرياً متميّزاً، يجد فيه قصائد تحيل على أعظم شعراء العربية ، وقصائد أخرى تقترب من لغة الناس اقتراباً مثيراً ، مستخدماً الأوزان الفخمة الجليلة، والأوزان الخفيفة الراقصة، فكان بذلك شاعراً شديد الغنى والتنوع، وإن اختصار استشهاده، وشعره ببيتين مشهورين (سأحمل روحي على راحتي/ وألقي بها في مهاوي الردى.... فإما حياة تسرّ الصديق/ وإما ممات يغيظ العدا) فيه ظلم شديد للشاعر وللأدب العربي، على حدّ سواء.