التجديد الوزني عند الشاعر عمر البهاء الأميري /د.عمر خلّوف


على الرغم من أنني لم أسْتَوفِ مطالعة الأعمال الكاملة للشاعر عمر بهاء الأميري رحمه الله تعالى، ولكنني عطفاً على ما أمكنني الاطلاع عليه، وليس بالقليل، وجدت لديه ميلاً واضحاً إلى التجديد الوزني؛ والكتابةِ على ما يُخالف العروض الخليلي. يتجلّى ذلك على سبيل المثال في استخدامه مشطورات البحور التي لا يُشطّرها الخليل.
كقوله من مشطور البسيط (مع الله ص120):



أدعوكَ يا ربّ من روحي ووجداني
أدعوكَ من قلبِ آلامي وأشجانـي
أدعوكَ منْ غورِ إسلامي وإيمانـي
أدعوكَ أدعوكَ يا ذا المَنِّ والشـانِ
مستعجِلاً كشْفَ ضرٍّ مسَّ إخواني


وكقوله من مشطور الخفيف (مع الله ص97):



أيُّ سرٍّ يُوْدِيْ بدنيـا حـدودي
كلّما هِمْتُ في تَجَلّي سجـودي
كيفَ تَذْرُوْ "سبحانَ ربي" قيودي
كيفَ تجتازُ بِـيْ وراءَ السـدودِ
كيفَ تسموْ بفطْرَتِيْ ووجـودي
عن مَفاهيـمِ كَوْنِـيَ المعهـودِ


وله مثلها في ديوان: (أذان القرآن، ص146):


يا إلهيْ .. علاّمَ جَهرِيْ وسـرّي
يا شهيداً وِزْريْ .. وقرآنَ فجْري
يا سميعاً في خَفْقِ قلبِـيَ ذِكْـري
وبقلْبِ الهمومِ حَمْديْ وشُكْري
أنتَ قدَّرْتَ في غُيوبِكَ قَـدْري
وقَسَمْتَ الجَنَى.. وقسّمْتَ عُمْري
يا إلهي، فكـنْ مُسَـدِّدَ أمْـري
واكفِني الهمَّ، وامْحُ عُسْريْ بِيُسْرِ


وهو من قلائل الشعراء الذين استخدموا وزن الرمل مثمناً (مع الله، ص 78):


يا مَعانِيْ اللهِ في نفسيْ وروحيْ وضميري
حلّقي بِيْ وارتقي فوقَ سماواتِ الأثيـرِ
أشرقي وهّاجةً في غَورِ قلبِيْ ووجودي
والْبَثي وَضّاءةً في ليلِ عمريْ وأنيـري
وتجلِّي لِجبالِ الهَمِّ تجثوْ فوقَ صـدري
فلقد أرهَقَ صدريْ حَمْلُ هَمٍّ مستطيـرِ
فإذا ما جُعِلَتْ دَكّـاً أَعِينينـيْ بعـزمٍ
أنا لا أرغبُ أنْ أُصعَقَ في ساحِ القديـرِ
غايةُ القصْدِ ومَنْ أقصِـدُهُ ربٌّ كبيـرٌ
جَذْبةٌ تُنْعِمُني بالقُرْبِ مـن ربٍّ كبيـرِ


وهو من نوادر الشعراء الذين كتبوا على الوزن الرجزي: (مستفعلن مستفعلن فعْلن)، الذي لا يَرِدُ عادةً إلاّ عجُزاً للبحر السريع، وقد جاء به الأميري صدراً وعجزاً (قلبٌ ورب، ص99):


ذنبُكَ يا إنسانُ قدْ يُغْفَـرْلا تُتْبعِ الخُسْرانَ بالأخسَـرْ
ولا تقلْ: جَبْرٌ ، فما ذنبيْ؟ومَحِّصِ الأمْرَ.. فمَنْ أجبَرْ؟
هيهاتَ أنْ يُلزِمَ بالسُّـوأَىناهٍ عنِ الفحشاءِ والمنكـرْ!
بالعدْلِ بالإحسـانِ أمّـارٌبالبـرِّ بالأمثَـلِ بالأطهـرْ
فثُبْ، وتُبْ، ولُذْ برحمـانٍمنْ كلّ ذنْبٍ عَفوُهُ أكبـرْ


ومثلها في ديوان (مع الله، ص88) مقفّاة الصدور، مقفّاةَ الأعجاز:


الليلُ فـي ظُلْمتِـهِ داجَـىوالفجْرُ في إشراقِهِ أفصَـحْ
فكانَ للألبـابِ مِعْراجـاأسرَى بها نحوَ السّنا الأوضَحْ
أشرَقَ في الأبصارِ مِنْهاجـافالنفسُ منْ إيمانِها تنضَـحْ
والقلبُ في خَفْقَتِـهِ ناجَـىوالصّدْرُ في أنفاسِـهِ سبّـحْ


ومن أغرب (وأبدع) ما وجدته للأميري رحمه الله قصيدة فريدة في بابها، فريدة في معانيها، لم يُتَحْ لي سواها في قديم أو جديد، على كثرة اطّلاعي على مثل هذه المستجدات الوزنية، ذلك أنها تجري على وزن أراهُ مُشَقَّقاً من الضرب الثاني لبحر المنسرح، بزيادة سبب تام إلى عروضه وضربه هكذا:


مستفعلن مفعولاتُ مفعولاتنمستفعلن مفعولاتُ مفعولاتن


وذلك بتطبيق هذه الزيادة على (الصدر) و(العجز) معاً.
يقول فيها (مع الله ص83):



حَواسُ جسميْ إلى التُّـرابِ تُنْمَـى
وأفْقُ رُوحِيْ مِنَ السَّمـاءِ أسْمَـى
مَلَلْتُ كَوْناً حُـدودُهُ لِـيْ حَبْـسٌ
كأنّني عـنْ وراءِ كَوْنِـيْ أعْمَـى
في النومِ روحي إلى السماءِ تسـري
وحينَ أصحو في الأرضِ أُلْفِيْ الجسْما
يكادُ حَدْسيْ يَحُـلُّ هـذا المُعْمَـى
لكنّ عقلـيْ يضيـقُ عنـهُ فَهْمـا
يا ربِّ هَبْ لـيْ هدايـةً تُنجينـي
أحطْتَ ربي بكـلِّ شـيءٍ علْمـا


لكنه لم يستطع السيطرةَ التامة على هذا الوزن، فاختلطت لديه عدة إيقاعات متقاربة، ندّ عنها سمعه، والتي يصعب على الأذن أن تشعر بالفروق الدقيقة بينها، إلاّ لمتمرس.
فبغض النظر عن الزحافات الجائزة لِـ(مستفعلن) و(مفعولاتُ)، الحشويتين، فقد جاءت ثلاثة شطور؛ (هي: الأول والثاني والخامس) على العَروض والضرب: (مَفْعُلاتن= فاعلاتن) أي بحذف الواو من (مفعولاتن)، فتداخل الوزن مع مقصر البسيط: (مستفعلن فاعلن متَفْعِلاتنْ)، ومنه قول ابن الفرَس الغرناطي:



يا مَنْ أُغالِبُـهُ والشـوقُ أغلَـبْ
وأرتجي وصْلَهُ، والنجْـمُ أقـرَبْ
سدَدْتَ بابَ الرَّضا عن كلِّ مَطْلَبْ


وكانت كلمة (المُعْمَى) في صدر البيت الرابع قد ضُبِطَتْ بفتح العين وتشديد الميم (الْمُعَمّى)، مما جعلَ (عروضَه) على (مستفعلاتن)! ولذلك آثرتُ ضبطَها بسكون العين، وفتح الميم دون تشديد، لتنسجمَ مع وزننا المقترَح (مفعولاتن).
كما ضُبِطتْ الياء من قوله: (حدودُهُ لي حَبْسٌ) وقوله: (عن وراء كوني أعمى) في البيت الثاني بالفتح، فانتقل وزن العروض والضرب إلى (مفْتَعَلاتن)، وقد ضبطتُهما بالإسكان، لينسجم وزن البيت مع وزن القصيدة المقترح.
وكنت في بحثي المخطوط عن (بحر المنسرح)، قد كشفتُ عن عدد من القصائد على الضرب (مفعولانْ) أرجو أن ترى النور قريباً.
د.عمر خلوف-الرياض



واستخدم الأميري القالب الرجزي:



مستفعلن مستفعلن مفعولنمستفعلن مستفعلن مفعولن


وهو قالب جميل، غير خليلي، مثل له أبو الحسن العروضي بقول الشاعر:



دَنَوتُ منهُ فنـأى وصّـدّاولِنْتُ في القولِ له فاشتـدّا
وكانَ هذا في البَدِيِّ منـهُمزْحاً، فلمّا امتدّ صارَ جِدّا
لبِئسَ ما جازَى بوَصلٍ هجْراًمُجازياً بالقرْبِ منـهُ بُعْـدا


ونظراً لخروجه على الأوزان الخليلية التي حددها الخليل فقد اعتبره العروضي (تلبيساً) من الشاعر على الناس (!)، لأنه كما يظن كان يجب أن تكون جميع شطوره مقفّاة، لتكون من مشطور السريع.
وذكره الشنتريني في شواذ الرجز، واستشهد له بقول الشاعر:



مَهامِهٌ أعلامُها همودُوماؤها في وِرْدِهِ بعيدُ


ولم أجد له من الشواهد الصحيحة سوى بيت فريد، أورده الجاحظ مثالاً على التنافر:



وقبرُ حربٍ بمكانٍ قفـرٍوليس قربَ قبر حرْبٍ قبرُ


وقد زاد استخدامه لدى المعاصرين كنزار قباني، وأبي سلمى، والأميري، وغيرهم.
يقول عمر البهاء الأميري (ملتزماً قافية في الصدور وأخرى في الأعجاز) (مع الله 90):



يا بدْرُ هلْ شهدْتَ أهلَ بـدْرِتحفّهـمْ مَلائـكُ الرحـمـنِ
في موكبٍ منَ السّنا والطّهْـرِقلوبُهـمْ تُشـرِقُ بالإيمـانِ
كلّـلَ هاماتهـمُ بالنـصْـرِفَناؤُهـمْ بالأحَـدِ الدّيّـانِ
يستَبِقونَ الموتَ دونَ صبْـرِلِيَنشقوا مـنْ أرَجِ الجِنـانِ
والعصْرِ، همْ هُدًى لكُلّ عصْرِومَثَلٌ حـيٌّ مـنَ القـرآنِ


وله مثلها (ص 95-96).