http://www.alittihad.ae/details.php?...2&article=full
تاريخ النشر: الخميس 28 يونيو 2012
من يدرس الشعر النبطي، ويتعرف على مباحثه الشعرية والفنية، ويقف عليه عن كثب يجد أنه شعر عربي النزعة والطابع، وأنه شعر يمتاز بفصاحة المفردة رغم افتقاره لمظهر الإعراب الذي يوضح أشكال الحركات الإعرابية الطارئة على أواخر الكلمات، حيث إن الشعر النبطي يفتقر لهذه الظاهرة، لكنه في المقابل لا يفارق العرب فيما كانوا يقولون من كلام، وفيما يضعون من قياسات وصيغ أسلوبية.
ومن يقرأ في كتب اللغويين العرب، كالأصمعي وأبي عمرو بن العلاء والمبرد وغيرهما من العلماء اللغويين العرب، يجد أنهم كانوا يسمون اللهجة في عرفنا الحالي باللغة، ويطلقون على ما نسميه نحن باللغة مصطلح اللسان، إذ وصف الخالق سبحانه وتعالى القرآن الكريم بأنه جاء بلسان عربي مبين، وعليه فإن اللغة تعتبر فرعا من فروع اللسان كلغة حِمير، ولغة تميم، ولغة قريش، ولغة قضاعة، ولغة خزاعة، وغيرها من لغات العرب الأخرى، والتي نسميها نحن هذه الأيام باللهجات، كلهجة مطير، ولهجة عنزة، ولهجة الظفير، ولهجة عتيبة، ولهجة شمر، وغيرها من لهجات القبائل العربية الأخرى، علاوة على بعض اللهجات في الدول والمناطق العربية المتعددة إذ أننا نصف أوجه الاختلاف الحاصل بين اللهجات باللهجة المصرية أو العُمانية أو المغربية أو الإماراتية أو الأردنية، وهكذا الحال مع بقية لهجات الدول العربية الأخرى.
أصول وفروع
لم يكن الشاعر النبطي القديم بمعزل عن أصوله العربية في التعامل مع ضروب الكلام، حيث كان الشاعر النبطي يستخدم اللغة التي كان يتحدث بها العرب القدماء، وهذه الحال تكاد تكون واضحة وجلية كلما ابتعدنا في التحرك بالزمن إلى الوراء، وذلك بسبب عدم اختلاط ابن البادية العربية بالأجانب والأغراب من غير العرب، كما هو حاصل الآن في أيامنا، إذ يقول الشاعر محمد الدهمان في مدح عبدالكريم الجربا:
بيوت المحمد مدهل الضيف والجار
وملجا لمن كثرت عليه البلاوي
لازم يجي بالبيت هاتش وخطار
وخلايق ما ينعرف له غاوي
أي “خلايق” لا تُعرف لها لهجات، كناية عن تزايد الضيوف والوافدين على مضيف الشيخ عبدالكريم الجربا، وهذا الاستخدام وإن دل على أن معناه اللهجة، فمن الإمكان أن يكون له فهم آخر، أي أنه كناية عن تزاحم الأفراد من كل الأجناس كالعربي والكردي والتركي والفارسي، خاصة وأن الشيخ الجربا كان مقيماً في العراق، ومن الإمكان أن يرد هذا القصد أيضاً، غير أن الشاعر سند الحشار يدعم قول الدهمان بشكل أكثر توضيحاً وأشد إيضاحاً، حيث يقول في مدح قبيلته وهي قبيلة الظفير:
من فعل طلقين اللغا بالملاقاة
اللي وقع بنحورهم للذلافي
أي “طلقين” الكلام واللهجة، وهم الذين لا يخالط كلامهم كلام غيرهم، ولا يتداخل مع كلامهم كلام الأعاجم والأغرب، وهو كناية عن صفاء اللهجة وعدم تداخلها مع لهجات الآخرين.
إن هذا الاستخدام الدلالي للمفردة كونه نابعاً من أصولها العربية الموغلة في التاريخ والضارب في جذورها في الماضي البعيد، وهذا الاستخدام اللغوي مردّه أن الفروع تستقي منابعها اللغوية من الأصول التي تفرعت منها هذي الأصول، وهذا الاستخدام ما هو إلا استخدام إشاري، إذ أن المعنى يشير إلى معناه اللغوي القديم، غير أن الشاعر سند الحشار يأتينا بمفردة لغوية أخرى يؤكد من خلالها الشاعر مدى ارتباط الشعر النبطي بالشعر العربي الفصيح، عندما قال:
لعيون من قرنه على المتن تشقاه
مكحولة العينين سودا جدايل
إذ أن مفردة “القرن” التي اختفت من تداول الناس وحلت محلها كلمة مرادفة لها في المعنى وهي “الجديلة” حيث استخدمها الشاعر وفق التصور العربي العام، ولم يخرج بهذا الاستخدام عما كانت عليه العرب في كلامها، وذلك عندما قال قيس بن الملوح:
بربك هل ضممت إليك ليلى
قبيل الصبح أو قبلت فاها
وهل رفت عليك قرون ليلى
رفيف الاقحوانة في نداها
إذ أن الاستخدام واحد والمدلول واحد، لكن الكلام الأول عربي فصيح غير معرب بينما كان الكلام الثاني كلاماً عربياً فصيحاً معرباً.
رحلة جنوبية
لو التفتنا إلى جنوب الجزيرة العربية وتركنا الشمال العربي لصادفنا الشاعر حمد بن علي المدحوش واصفاً تقلبات الزمان وتبدل الأحوال، وهو يقول:
دنيا تقلب مثل لعب القمارا
تسقيك من عقب الحلاوات لمرار
فهذا الاستخدام لكلمة “لمرار” أي الأمرار، والذي نراه منتشراً عند شعراء الجنوب العربي من شبه الجزيرة العربية، إذ يتوافق هذا الاستخدام مع بعض القراءات القرآنية كما هو الحال عند نافع وأبي عمرو، وهما من أصحاب القراءات السبع المعروفة عند المسلمين للقرآن الكريم، وذلك في قوله تعالى في سورة الشعراء ـ الآية 176، حيث يقول سبحانه: “كذبت أصحاب الأيكة المرسلين”، إذ تُقرأ الأيكة بـ “ليكة” وهذه الحالة عامة عند الشيخين، حيث يقرآن الألف والهمزة المحققة بالإهمال، وليس في هذه الآية الكريمة فقط، بل كل كلمة تحتوي على (أل) التعريف التي قبل الهمزة، وهذه القراءة من لغات العرب المعروفة، وهذه اللهجة واضحة ومنتشرة عند بعض القبائل العربية المعاصرة في زماننا أيضاً. غير أن الشاعر النبطي لم يكن واقفاً عند هذا الحد، أي أنه كان يستعمل من الكلمات ما كان عليه أسلافه الأقدمون من عرب صدر الإسلام أو الجاهلية، فقد كان الشاعر النبطي يقيس ويضبط الكلمات ويختار الصيغ الأسلوبية التي كانت عليها العرب، حيث كان الشعر النبطي القديم يُخضع الكلام الأعجمي غير العربي لمقاييس لغته ويطوعه وفق ما ترتضيه لغته العربية، ووفق ما يتوافق معها من مقاييس وصيغ ولم يكن أسيراً للكلام الأجنبي القادم إليه، يتقبله بلا حول ولا قوة كما يفعل شعراء هذا الزمان، حيث يقول فجحان الفراوي:
جبت الحصان وجبت هدبا وريفه
صم الحوافر من مراكيب الابواش
فقد طوع الفراوي مفردة “باشا” التركية وفق لغته العربية رغم وقوعه في ذلك الزمان تحت ظل الخلافة العثمانية، فالمتأمل في كلمة “باشا” التي نجد أن المؤنث منها “باشة” والعرب من أهل البادية كانوا يسمون بناتهم على هذا الاسم، فلو أردنا جمع المؤنث من هذه الكلمات لقلنا “باشات” ولو أردنا جمع المذكر من “باشا” لقلنا “أبواش” ولو أردنا تقريب هذا الفهم نجد أن كلمة “باشا” على نفس وزن “جفن” باعتبار أن الألف المطلقة بعد الشين زائدة في اللغة، إذ أنها مع التأنيث تُحذف، فلو كانت أصلية لحذفت، وفق هذا التصور، فجمع جفن ـ أجفان، وجمع جفنة ـ جفنات، وعلى هذا الأساس فإن الشاعر فجحان الفراوي قد أنزل هذه الكلمة الأعجمية هذا المنزال وأدخلها ضمن هذا القالب العربي وكأنه دارس لمباحث علم الصرف ومقاييس اللغة، وهو في الحقيقة تعلم هذه الأشياء سليقة، وهنا قد يقول قائل، وربما أن هذا الكلام طفرة لغوية جاءت بها الصدف، وكانت خاضعة لتداعيات القافية، وللإجابة على هذا التساؤل سنذهب به إلى شاعر متأخر عاش الحضارة ومات قبل أكثر من ثلاثين سنة، لكنه لم يفقد سليقته العربية النقية، وهو الشاعر عبدالله اللويحان الذي قال عندما زار مصر زمن الحكم الملكي، وقبل قيام الجمهورية:
لامتّ في شارع فؤاد ادفنوني
ياطا على قبري بناتٍ مزايين
ما عاد اصدق يوم شافت عيوني
بنات من نسل البُوَش والسلاطين
فالمتأمل في كلام اللويحان يجد أنه قد جمع “باشا” على “بُوَش” بضم الباء وفتح الواو، وهو في هذا الاستعمال لم يكن في منأى عما كانت عليه العرب في صرفها اللغوي وفي مقاييسها العربية، كما أن كلا الشاعرين لم يخرج عن القياس الصرفي العربي، رغم أن الأول جمع “باشا” على “أبواش” بينما الآخر على “بُوَش” علماً بأن الرجلين لم يلتقيا وإنما بينهما سنوات كثيرة فصلت الأول عن الثاني، إلا أن السليقة واحدة والفطرة واحدة رغم اختلاف الشخوص وتباعد الشقة الزمنية بين الطرفين، فكلمة جفن تُجمع على “أجفان” أو على “جُفَن” وكذلك “باشا” تجمع على “أبواش ـ بُوَش” وكأن الأول قد أخبر الثاني بما عليه أن يفعل مع الكلام الأعجمي الغريب على اللغة، أو كان الثاني قد فهم ما كان يفعله الأول.
لو تأملنا الشعراء الخمسة الدهمان والحشار والمدحوس والفراوي واللويحان وحاولنا النظر إليهم بشكل جماعي لرأينا أنهم أشبه بفصحاء الأعراب الذين كان يلتقي بهم الكسائي أو لخليل أو الأصمعي أو أبو عبيدة معمر الثقفي، الذين ينطلقون من سليقة عربية صافية لا تعرف التشويش ويُخضعون كل كلام غريب على لغتهم لمقاييس هذه اللغة، إما أنهم ينطلقون من انطلاقات أسلافهم العرب القدماء في الاستعمال اللغوي، أو يُخضعون كل كلمة أجنبية لمقاييس الصرف العربي الذي تعارف عليه العرب في صحرائهم وعايشوه واقعاً عملياً ومارسوه في أحاديثهم اليومية.
محمد مهاوش الظفيري
باحث سعودي، وقد ألقيت هذه الورقة في ندوة أقامها بيت الشعر في أبوظبي
http://www.arood.com/vb/showthread.p...6720#post56720