قصة قصيرة: (17) سبعـة أيــام فقـــط !
قحطـان فؤاد الخطيب / العراق
تزين جدران المكتب التراثي، لرجل الأعمال الناجح، الكهل السبعيني، (س)، وأستاذ الجامعة سابقا، شهادات خبرة وأخرى علمية عليا لا حصر لها، صادرة عن جامعات عالمية مرموقة، يشار لها بالبنان، تحاذيها صور تذكارية منوعة الأحجام لعلماء وتجار وصناعيين محليين وإقليميين وعالميين تعامل معهم وعايشهم عبر عقود من الزمن.
تميز بأنه مفرط في الذكاء والثراء، لدرجة أن سقف حسابه المكشوف، في عدد من المصارف، زاد عن (..............) ألف دولار، فيما كانت حياته التجارية إيجابية وموفقة، في حين تميزت حياته الأسرية هي الأخرى بأكثر من استقرار وإلفه، رغم أنه تزوج متأخرا، إذ أنه كان يشاطر أبناءه الثلاثة وابنته الوحيدة لعبا ومرحا كل يوم، وكأنه مقرر تعليمي لا يجب أن يحيد عنه قط !
في بيته يستقر كل شيء بمكانه، كأنه ثكنة عسكرية، يحكمها الضبط والربط دون ثمة ضجيج أو صخب أو تسيب أو انفلات.... زوجته تعنى به كثيرا وبمقتنياتـه وبلوازمـه وبمتطلباته، فيما كانت كاتمة أسراره الوحيدة، تحتويه إذا ما انتابته سورة غضب أو انفعال، مزيلة عنه التوتر بابتسامة ساحرة فاتنة تنسيه همومه، إذ كانت مثالا يعتد به لنصف نموذجي آخر قل نظيره هذه الأيام !
في المقابل كان لا يشكو من أي مرض، سوى ما تفرضه عليه نواميس الشيخوخة من مسلمات لا يجادل فيها اثنان، وهو في هذا العمر الحرج ! كان يؤمن بالفحص الطبي الروتيني فقط، تحاشيا لأية مفاجئات غير محسوبة ! بوصلته كانت تؤشر أنه في هوس الطب الحديث ومعجزاته وإنجازاته بحيث ما برح يحسبه يعيد إكسير الحياة لفاقده مهما كــان المرض عضالا، ومهما تقدم به العمر!
ترددت على لسانه أكثر من مرة مصطلحات لأجهزة طبية متنوعة، لعل أبرزها كان (السونار) ......... حيث كان شديد الثقة والإعجاب به ، ناعتا إياه بالجهاز المؤتمن، صاحب المعجزات العديدة، جهاز لا يكذب، ولا يداهن، بل قل هو من يكشف الكاذب ! وله القابلية على اختراق رحم الأم الحامل مبينا جنس حملها من ذكر أو أنثى، في حين يمكنه الغوص تحت الماء لأعماق مذهلة بحثا عن أشياء غير مرئية، عن طريق إرسال موجات صوتية مع تحديد الوقت الذي يستغرقه رجوع الصدى بعد الاصطدام بالأشياء ! نعم، إعجاب مفرط به لا مثيل له !
خال أن كل شيء فوق هذه البسيطة يمكن حله بواسطة السونار والدولار ! وتوقع أن أهداف الطب في أوربا وأمريكا واليابان تتمحور حول إطالة العمر، وتجنيب الفرد مزالق الأمراض ومضاعفاتها ! هنا يبدو أنه جاء بنظرية يمجها العقل البشري، ويرفضها الإنسان السوي حين ناقش طبيبه الخاص قائلا........................
"لماذا لا تساعد العقاقير والأجهزة الناس في إطالة معدل أعمارهم وتجنيبهم الوفيات المبكرة ؟"!
" ألا تعرف أن موت الإنسان تتحكم به عوامل عديدة يعجز الطب، بكل منجزاته العملاقة، عن الحيلولة دون حدوثه ؟ "
" أنت، إذن، ذو إلمام بما أنفقت من أموال طائلة في أرقى مستشفيات العالم متجولا بين تحليلات مختبريه وسريريه متقدمة كي يعالج التلف لدي في ....... ، ولكنني أتيت إليك حصرا لعدم إلمامي بما تقوله هذه التقارير الطبية المشئومة. ويخامرني الشك أن ليس ثمة ما تحمد عقباه موجود بين دفتيها. أرجوك طمئني ماذا تقول ؟ أنا جد قلق هذه المرة "!
أصيب بالذهول عندما سمع من الطبيب المعالج أن حالته ميؤس منها آنذاك، وأمامه قضاء سبعة أيام فقط ينظم خلالها أموره قبل رحيله إلى الرفيق الأعلى!
" بكل بساطة تلخص المشهد قائلا : حالتك ميئوس منها !"
جن جنونه، وأرخى العنان لصوته الأجش كي يشق عنان السماء صارخا بهستيرية غير منضبطة .......:
"(حالتي ميئوس منها !!!) أمتأكد مما تقوله أيها الحكيم ؟ أيجوز هذا ؟ الملايين لم تسد الرمق، ولم تشف الغليل!!! لمن أتجه ؟ شـهادات الدكتوراه العديدة، والخبرة المعرفية المتراكمة، أضحت حبرا على ورق....!
لقد خذلت ..... !أرصدة المصارف جامدة لا حراك فيها ولا نبض .. أنت مخطئ، يا طبيبي العزيز، في نقل المعلومة لي ! أنا الذي ملأت رفوف المكتبات العالمية بالكتب والمجلدات وتقول لي "حالتي ميئوس منها" ! أنا الذي أغرقت الأسواق بالسلع النفيسة وتقول لي "حالتي ميئوس منها" ! أنا ........ أنا ........... أنا "!!
طفق المسكين يبكي، وكأنه طفل صغير لا يفقه ما يدور حوله .... أنه اليأس بعينه ! إنها ساعة الصفر ....ساعة المواجهة. اشتعل رأسه شيبا وهو يقرأ الكتب والصحف والمجلات والجذاذات بلا رحمة وبنهم منقطع النظير ! ألآن، بالكاد يتنفس متحسرا :
"أفنيت زهرة شبابي وأنا ألقي محاضرات على مدرجات جامعة ..............لشباب أصبحوا الآن قاب قوسين أو أدنى من الإحالة على المعاش إن لم أقل أنهم محالون فعلا ! ترقد مؤلفاتي التي تزيد عن (............) كتابا فوق رفوف المكتبات..... ، كما تشهد غرف الصناعة والتجارة في الدول ألثمان وغيرها على بصمتي العريضة فيها ! وأسفي لما آلت إليه الأمور ! ألا تشفع لي كل هذه المؤهلات ؟"!
"يشيب الشعر مع تقدم العمر وهذا ليس بعار أو بمرض، وكذلك تتدهور الصحة مع تقدم العمر، وتضمحل مناعة الإنسان وتتقلص، وهذه ثوابت . ولا يعتبر زملائي الأطباء ذلك مرضا بل ظاهرة طبيعية تتزامن مع الشيخوخة... فلم العجب؟!"
"إذن ....... سأموت ميتة الكلاب، وسوف ينتعش الدود بهذه الوليمة الدسمة .......! لا يهم إن كان المأكول جنرالا أو طبيبا أو مشعوذا أو أستاذا جامعيا مرموقا أو صناعيا ناجحا أو زبالا .....، الكل سيان.......، نعم، هي الأرض .....، منها أتينا وإليها نعود ! أنا لله وأنا إليه راجعون.