قل للمليحة ..


( مقالات ملفقة ( 31\2 )
بقلم ( محمد فتحي المقداد )


قُلْ للمليحةِ في الخِمَارِ الأســوَدِ = مـــاذا فعلــتِ بناســكٍ مـُتَـعَـبِّـدِ
هذه القصيدة الجميلة كانت ستبقى حبيسة بطون الكتبٍ، ولا يعلم أحد عنها شيئاً، إلا من باحث أو شاعر أو أديب متخصص أو هاوٍ لقراءة الأدب وتراثه، لولا المطرب صباح فخري الذي أنشدها بفخامة صوته المحبب للقلوب، و يُحْكى أن أحد التًجّار، شَكَى إلى صديقه الشاعر ، سوء أحواله المادية بسبب كساد تجارته في أغطية الرؤوس ( الخُمُرْ )، وعُزُوفُ النساء في المدينة عن اللون الأسود الذي كان رائجاُ في زمن مضى، فانبرى الشاعر لإنقاذ صديقه من الإفلاس، فنظم هذه القصيدة، و سرعان ما تناقلتها الألسن حتى بادرت النسوة بالتهافت لشراء الخُمُر السوداء، لمّا عرَفْنَ فضيلتها وجمالها الفتّان، حتى خالَتْ كل واحدة منهنّ أن القصيدة قِيلَتْ فيها، فالمرأة المليحة حسنةُ المظهرِ و السَّمْت، وإذا مَلُحَ الشيء يكون قد حَسُنَ، و إذا اسْتَمْلَحه أي عدّهُ مليحاً، وجمع المليح مِلاحٌ و أملاحٌ، وتعتبر هذه الأغنية من التراث، و لا يفوتني ذِكْرَ قومٍ من أجدادنا أهل حوران من تُجّار الملح، و كانوا يقومون على قوافل الإبل مسافرين عبر بادية الشام إلى منطقة ( سكاكا و الجوف ) في شمال الجزيرة العربية, و تجارة الملح لا يزال الطلب عليها لأنها من ضرورات الحياة على هذا الكوكب، و في أيام الدولة العثمانية كانت هذه التجارة معفية من الجمارك و المُكوس، وكان يطلق على الملح اسم ( طُزْ ) فما إن تصل قافلة الملح جوار الحاجز الجمركي، حتى تنطلق كلمة طُز من رعاة القافلة، لكن دلالة هذه الكلمة أخذت في وقتنا منحىً آخر وصارت للدلالة على اللامبالاة بالأشياء وعواقبها. وأطلق اسم مليحان على الإبل.
أما قرية ( مُوَيْلَحْ ) فهي من قرى فلسطين، وقد هاجر منها جدّ الأديب و
الناقد و الصحفي المصري ( ابراهيم المويلحي )، وهو من أعلام القرن
التاسع عشر( 1846 – 1906 ) و أشهر مؤلفاته ( حديث عيسى بن هشام )، كما أن هناك قرية في جنوب سورية في محافظة السويداء اسمها (مَلًحْ ) ، وفي بلاد الشام كثيراً ما نلحظ أسماء العائلات المنسوبة إلى المهنة التي كانوا يمارسونها، ومن ذلك عائلة الملاّح الطرابُلَسيّة في شمال لبنان، ومنها خرج العلاّمة الشيخ نديم الملاّح، وهو من رجالات تاريخ الدولة الأردنية أيام الملك المؤسس، وعلى يديه تخرّج خيرة رجالاتها.
كما أن مرعي باشا الملاح (1856 ـ 1930) كان من الرعيل الأول الذي اضطلع بدور أساسي في النهضة العلمية التي شهدتها بلاد الشام في العصر الحديث وخاصة في حلب،، ثم انتظم في وظائف الدولة وارتقى في مناصبها الرفيعة في مختلف العهود التي عايشها (العثماني و الفيصلي والانتدابي) إلى أن سمي أخيراً (حاكم دولة حلب العام) في الفترة (1924 ـ 1926). ‏وقد شهدت حلب إبان سنوات حكمه لها نشاطاً علمياً وثقافياً كبيراً تجلى بتأسيس كل من ‏دار الكتب الوطنية، وجمعية العاديات و المدرسة الخِسْرَوِّية، و أول مدرسة تجهيزية في دير الزور تابعة لحلب، وله الكثير من الأعمال التي تشهد له في حلب وغيرها.
والملاّح أيضاً هو صاحب السفينة، حتى صار مصطلح الملاحة يستخدم في مجالات السفر البحري والجوّي، وأصبح الملاّح هو قائد السفينة أو الطيارة، إلى أن انتهت التقنيات الحديثة إلى الملاّح الآلي. وإذا ما توجهتُ في يوم عطلة أسبوعية للبحر الميّت، فإنه يترتب عليّ النُّزُول من الكرك إلى البحر إلى عمق يقارب الـ 400متر تحت سطح البحر المتوسط. ويعتبر البحر الميت وجهة سياحية للعلاج، لما تحتوي مياهه على الأملاح العديدة، وسميّ ميتاً لأن لا يمكن أن تعيش فيه الأحياء البحرية، ولأن كثافة الأملاح فيه تسعة أمثال البحار الأخرى. وقد قامت عليه صناعة البوتاس، وبعض المواد الكيماوية.
و المِلْحُ يستخدم كمادة حافظة للمأكولات، واستخدامه باعتدال في الأطعمة ولا تكاد تخلو مائدة من المِمْلَحَة وهي أداة يوضع فيه الملح، لمن يرغب الزيادة منه. وإذا ما نسيَتْ ربة البيت و أمْلَحَتْ الطعام فقد يفسد ولا يُستساغ طعمهُ، ومن عادات العرب الأكل عند بعضهم ويسمونها ( المُمَالحَة)، حتى أن الرضاع يعدُّ من المُمَالَحَة. ويقال في الأمثال عن ناكثِ عهدٍ وغدّارٍ : ( خان العيش والملح )، وكذلك يقال : ( الكذبُ ملحُ الرِّجَالْ وعيب على إللي يصدق ) ومتى كان الكذب فضيلة في عرف الناس الأسوياء ؟، وهذا من الانحرافات المتداولة اجتماعياً، بينما ( الخوف مِلْحُ الأرض ) لمن عرف حدّه فوقف عنده. ومن السَبِّ و الشّتْمِ لشخص ما، يقولون : ( ابن المليحة ..) و إذا كان الكلام طريفاً ومُعبِّراً عن أشياء فهو المُلْحَة، والمُلْحَة أيضاً في الألوان ( بياض الشعر يخالطه السواد ) ومن هنا جاء وصف الكبش أو التيسٌ بالأملح، وإذا كانت البئر أو عين الماء مليحٌ أي أن ماؤه مِلْحٌ.
ومن هنا يتقرر أنه لا استقامة للحياة على وجه الأرض إلا بالملح لما فيه النفع للكثير من مصالح البشر، و كل شيء زاد عن حدّه نقص، فالتحذير من الملح و السكر الزائد عن الحاجة يسبب ارتفاع الضغط والسكري، ولهذا كانت حكمة الخالق أن تكون البحار مَلِحَةً لحفظ الكائنات الحية فيها، ولولا مُلوحَتِها لأنتنت وقتلت كل أنواع الحياة البحرية.