السبر والتقسيم في القرآن الكريم
السبر لغة: الاختبار تقول سبرتُ كذا إذا اختبرته.
والتقسيم لغة : التفرقة والتجزئة.
السبر والتقسيم عند أهل الأصول هو:
"حصر الأوصاف التي يُتصور صلاحيتها للتعليل في الأصل ثم إبطال ما لا يصلح منها فيتعين الباقي".
وذكر السيوطي في مباحث بدائع القرآن وهو النوع الثامن والخمسون في الإتقان، وهذا نص ما ذكره حول التقسيم:
"التقسيم: هواستيفاء أقسام الشيء الموجودة ،لا الممكنة عقلًا ، نحو {هو الذي يريكم البرق خوفًا وطمعًا} إذ ليس في رؤية البرق إلا الخوف من الصواعق والطمع في الأمطار ولا ثالث لهذين القسمين.
وقول {فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات} فإن العالم لا يخلومن هذه الأقسام الثلاثة: إما عاص ظالم لنفسه وإما سابق مبادر للخيرات وإما متوسط بينهما مقتصد فيها.
ونظيرها {وكنتم أزواجًا ثلاثة. فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة. وأصحاب المشأمة. والسابقون السابقون} وكذا قوله تعالى: { له ما بين أيدينا وما بين خلفنا وبين ذلك} استوفى أقسام الزمان ولا رابع لها.
وقوله {والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع} استوفي أقسام الخلق في المشي.
وقوله {الذين يذكرون الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم} استوفى جميع هيئات الذاكر
وقوله {يهب لمن يشاء إناثًا ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكرانًا وإناثًا ويجعل من يشاء عقيمًا} استوفي جميع أحوال المتزوجين ولا خامس لها." اهـ
وقال الشنقيطي في أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن، عند قوله تعالى: {أَطَّلَعَ ٱلْغَيْبَ أَمِ ٱتَّخَذَ عِندَ ٱلرَّحْمَـٰنِ عَهْداً كَلاَّ}.
" اعلم أن الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة رد على العاص بن وائل السهمي قوله: إنه يؤتى يوم القيامة مالا وولداً، بالدليل المعروف عند الجدليين بالتقسيم والترديد، وعند الأصوليين بالسير والتقسيم. وعند المنطقيين بالشرطي المنفصل.
وضابط هذا الدليل العظيم أنه متركب من أصلين:
أحدهما ـ حصر أوصاف المحل بطريق من طرق الحصر، وهو المعبر عنه بالتقسيم عند الأصوليين والجدليين، وبالشرطي المنفصل عند المنطقيين.
والثاني ـ هو اختيار تلك الأوصاف المحصورة، وإبطال ما هو باطل منها وإبقاء ما هو صحيح منها كما سترى إيضاحه إن شاء الله تعالى, وهذا الأخير هو المعبر عنه عند الأصوليين «بالسبر»، وعند الجدليين «بالترديد»، وعند المنطقيين، بالاستثناء في الشرطي المنفصل.
والتقسيم الصحيح في هذه الآية الكريمة يحصر أوصاف المحل في ثلاثة، والسبر الصحيح يبطل اثنين منها ويصحح الثالث. وبذلك يتمم إلقام العاص بن وائل الحجر في دعواه: أنه توتى يوم القيامة مالاً وولداً.
أما وجه حصر أوصاف المحل في ثلاثة فهو أنا نقول: قولك إنك تؤتى مالاً وولداً يوم القيامة لا يخلو مستندك فيه من واحد من ثلاثة أشياء:
الأول ـ أن تكون اطلعت على الغيب، وعلمت أن إيتاءك المال والولد يوم القيامة مما كتبه الله في اللوح المحفوظ.
والثاني ـ أن يكون الله إعطاك عهداً بذلك، فإنه إن أعطاك عهداً لن يخلفه.
الثالث ـ أن تكون قلت ذلك افتراءً على الله من غير عهد ولا اطلاع غيب.
وقد ذكر تعالى القسمين الأولين في قوله: {أَطَّلَعَ ٱلْغَيْبَ أَمِ ٱتَّخَذَ عِندَ ٱلرَّحْمَـٰنِ عَهْداً} مبطلاً لهما بأداة الإنكار. ولا شك أن كلا هذين القسمين باطل. لأن العاص المذكور لم يطلع الغيب. ولم يتخذ عند الرحمن عهداً. فتعين القسم الثالث وهو أنه قال ذلك افتراءً على الله ".اهـ