اشتباك
قصة قصيرة
بقلم ( محمد فتحي المقداد )*
لعلها المرة الأولى التي حصل فيه اشتباك، متزامن مع انصراف طالبات الثانوية من المدرسة، المقابلة للحاجز المتربع على ناصية الطريق المؤدي إلى بوابتها الرئيسة، الحاجز أصبح مصدر قلق وإزعاج لأهل البلدة عموماً، وسكّان الحي خاصة, لا سيّما أن حياتهم مرتبطة بالسوق لابتياع حاجياتهم اليومية، و المرور بهذه النقطة إجباري لا مفر منه.
عند الاقتراب من العسكري، تخفق القلوب باضطراب وخوف، الأيدي تتلمس الجيوب للتأكد من حمل الهويّة, ولكن ما بالك إذا كانت الهوية مكسورة، فهنا تضيق الأنفاس، و تهتز الثقة بالنفس خوفاً من افتراء العسكري عليهم، بأنهم كسروها لاستبدالهم بهوية الإمارات السلفيّة، حسب ما كانت تروّج له وسائل إعلام النظام.
الأيدي على الصدور، التراكض في جميع الاتجاهات، الالتصاق بالجدران، فئة من الطالبات حالفهن الحظ بالدخول للمحلات التجارية حيث كان بعضها مفتوح بابه.
شاب يقف خلف الطاولة، التوتر بادٍ على ملامحه، عيناه تدوران في رأسه برأرأةٍ تَشِي بالفزع المقلق، يفرك يديه ببعضهما، وهو يعضّ على شفته السفلى، كاد الدم ينفر منها وهو لا يدري بحاله، مجموعة من الطالبات دخلن فجأة لدكانه المتخصص ببيع المواد الغذائية.
فوجئ الشاب( خ ) بوجود الطالية ( ن ) مع المجموعة : يا إلهي هاهي أمامي بشحمها ولحمها، نورها كالقمر أضاء المحل، كم تمنيت مواجهتها وجها لوجه، ملأت عليّ حياتي، أحببتها فقط أنا، هي لا تدري بحبي لها، الخجل يمنعني من التصريح بمشاعري، ولكن ما العمل ..؟، وكيف لي أن أتصرف ..؟، الحيرة تقتلني، والمفاجأة تعقد لساني عن التفوّه ولو بكلمة.
صوت الرصاص صمّ الآذان، وسيطر على الموقف، فلا تسمع صوتاً إلاّ همساً، خوفاً وتحسُّبا، نصف ساعة من الزمن امتدت عليها فترة الاشتباك بلا توقفٍ، غريزة القطيع سيطرت على الجميع، وحدها العيون تتحرك، والألسنة جامدة منخرسة لا تقوى على الكلام ولو همساً.
طلقة طائشة ارتطمت ببوابة الدكان المغلة، أثارت هلعاً، مما أخرج البنات من حالة الصمت المطبق، إلى الصراخ الحاد، في الخوف ينقلب كل شيء إلى مَوَاتْ، وتهبط المعنويات لدرجة يكاد أن يكون القبر حاضراً متخيلاً أمام أعينهم، و تصبح الحياة لا شيء، والتشبث بها دافع للنجاة.
قدماه ترتجفان، قلبه يخفق بقوة جعلت القميص يتحرك على وقع قلبه، رغم ذلك يتشجع الشاب ( خ ) ليظهر شجاعته ورجولته المكبوتة أمام البنات، ليقول : اطمئنوا جاءت سليمة، ويمشي مجازفاً باتجاه الباب، يرفع الباب السحّاب للأعلى، يجثو على ركبتيه، أطلّ برأسه من الفتحة التي أحدثها، رأى الطريق خالية تماماً، إلاّ من شاب و أمه يلوذان في زاوية متواريةٍ مقابلةٍ لدكانه، قام من مكانه متجهاً للثلاّجة، أخرج منها زجاجة ماء، شرب منها، وناول أخرى للبنات الواقفات، وهو متأكد أن حلوق الجميع جفّت، كما حصل معه.
عاد لمكانه على الكرسي وراء الطاولة، تلاقت عيونه بعيونها، سرح بعيداً، غاب على الوجود، جرى حديث مُبهم لا يعرفه إلا ( خ و ن )، اتسعت حدقتا عينيه، فسالت منهما دموع قاسية رغماً عنه، راح يجففهما بمنديل أخرجه من جيبه، هي غضّت بصرها خَفَراً وحياء، وتوارت برأسها خلف رأس إحدى زميلاتها.
هدأت الزوبعة، وصفا الجوّ من الأزيز، هدأت القلوب بعد ارتجاف، الأصوات تعلو في الخارج، قام من مكانه رافعاً الباب للأعلى، أطلّ برأسه في اتجاهات مختلفة، خرج صوته متلعثماً : يبدو أن الأمور هدأت، هيّا توكّلوا على الله، فقد ذهب الخطر.
كما أن الشاب الذي برفقة أمه نادى بأعلى صوته : هيّا بنا نذهب بسرعة قبل أن يتجدد الاشتباك ثانية, الحمد لله على الجميع، أكيد لم يُصَبْ أحد بمكروهٍ، لا سمح الله.
اتكأ الشاب ( خ ) على زاوية الباب، وهو يرقب خطوات ( ن ) فقط من بين زميلاتها، حتى انعطفت إلى طريق فرعي يؤدي إلى بيتها. غرق في نسج خيالات بعيدة وقريبة، بنى عليها قصوراً من الأحلام، رنين الموبايل أخرجه من حالته على صوته أبيه ليطمئن عليه، و الاستفسار عمّا حصل.
عمّان
14 \ 5 \ 2015