سورة الحج مدنية وبعضها مكي، نزلت بعد سورة النور.
والحج/ من أعاجيب السور
لماذا؟ لأن فيها آيات نزلت في مكة وآيات نزلت في المدينة، آيات نزلت ليلاً وآيات نزلت نهاراً، آيات نزلت في الحضر وآيات نزلت في السفر. وليس هذا فحسب، بل أن السورة قد احتوت على ميزات أخرى، فهي السورة الوحيدة التي سميت باسم ركن من أركان الإسلام. ومن هنا تبرز قيمة الحج لأن الموضوع الأساسي للسورة - كما هو واضح - هو الحديث عن هذا الركن العظيم من أركان الإسلام.
♦هدف السورة
(الحج بمفهوم مختلف)
إذا قرأنا سورة الحج من أولها لوجدناها تتكلم عن يوم القيامة، من أول آية نرى التركيز على القيامة والبعث والنشور، إلى أن تنتقل الآيات إلى الجهاد في سبيل الله، ثم العبودية والخضوع الشديدين لله تبارك وتعالى، وأن الله تعالى يسجد له من في السماوات والأرض... فما علاقة هذه الأمور ببعضها؟ وما علاقتها بالحج؟
إن المسلم عندما يؤدي هذه العبادة العظيمة، أو يعيش مع الحجاج ويتخيل نفسه معهم، سيفهم مراد ربنا من السورة، لأن الحج عبادة لها دور أساسي في بناء الأمة. وكأن السورة تقول لقارئيها: حجوا حجة صحيحة، مثل حجة النبي صلى الله عليه وسلم، لتبنوا أنفسكم وتدربوها على معاني رائعة وأساسية، وبالتالي تكون هذه المعاني عاملاً أساسياً لبناء الأفراد والمجتمعات وبالتالي الأمة كلها...
♦تذكرة عملية
بدأت السورة بداية شديدة في تذكيرها بيوم القيامة. فمن أول آية نقرأ قوله تعالى: [يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ ٱلسَّاعَةِ شَىْء عَظِيمٌ] فما علاقة الحج بيوم القيامة؟
إن مناسك الحج في أغلبها تذكّرك بيوم القيامة، لذلك أطلب من الأخ القارئ، ولو لم تسنح له الفرصة بالذهاب إلى الحج، أن يعيش معنا لقطة من لقطات الحج: ونحن ننزل من عرفة، ذاهبين إلى مزدلفة لرمي الجمرات، والحر شديد، والزحام خانق، والانتظار طويل. كل البشر يتضرع إلى الله بالدعاء، وينادي: "لبيك اللهم لبيك"، ولباس الحج البسيط يذكّر بالكفن الذي يلبسه الموتى... كل هذا يذكّر بعري يوم القيامة، وزحمة وحر وعرق وشمس يوم القيامة.
♦الحج ومشاهد الآخرة
ثم تبدأ الآيات بعد ذلك في وصف أهوال ذلك اليوم كأنك تراها أمام عينيك:
[يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى ٱلنَّاسَ سُكَـٰرَىٰ وَمَا هُم بِسُكَـٰرَىٰ وَلَـٰكِنَّ عَذَابَ ٱلله شَدِيدٌ] (2).
♦ثم تنتقل الآيات إلى البعث، والخروج من القبور، عندما يخرج الناس من قبورهم والتراب يعلو وجوههم وأجسادهم، لذلك تذكرنا أن أصل الناس كلهم إنما هو من التراب [يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مّنَ ٱلْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَـٰكُمْ مّن تُرَابٍ...] (5).
♦وفي الحج أيضاً، عندما تنظر لنفسك بعد يومين من ارتداء ملابس الإحرام، ترى أنك أصبحت كتلة من التراب. والأكثر من ذلك، هو أن تحج كحجة النبي صلى الله عليه وسلم تماماً. فإذا نويت المبيت في مزدلفة، ترى الكثير من الناس تعباً لا بل ميتاً من التعب، كأنه ميت فعلاً. فإذا أتى وقت الفجر يستيقظ الناس كأنهم يبعثون من القبور:
♦الكل يلبس الثياب البيض
ويتحرك لرمي الجمرات... لذلك تأتي الآية 7 لتذكر بالبعث من القبور: [وَأَنَّ ٱلسَّاعَةَ ءاتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ ٱلله يَبْعَثُ مَن فِى ٱلْقُبُورِ] (7).
♦وهكذا نرى أول أثر من آثار الحج في تربية الأمة: تربيتها على اليوم الآخر والاستعداد له، بأن يعيش أفراد الأمة بعض لحظاته ومعالمه أثناء الحج.
♦مناسك الحج: غاية الطاعة لله تعالى
ثم تنتقل الآيات (26 - 37) إلى ذكر مناسك الحج المختلفة، لتأتي خلالها الآية المحورية: [ذٰلِكَ وَمَن يُعَظّمْ شَعَـٰئِرَ ٱلله فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى ٱلْقُلُوبِ] (32).
فما السر في هذه المناسك العظيمة التي شرعها لنا الله تعالى؟
إنك في خلال الحج، تنفذ أوامر وتعليمات محددة ومشددة من الله تعالى، إن لم تنفذّها بدقة تفسد الحج. فالمسلم في الحج يطوف سبع مرات حول حجر، ويسعى سبع مرات بين حجرين، ثم عند رمي الجمرات، فهو يرمي بحجر على حجر... فهو يطبّق مناسك عديدة قد لا يفهم الحكمة من ورائها، لكنه ينفذها فقط طاعة لله تعالى، واستسلاماً لأمره، وفي هذا قمة العبودية والطاعة لله تعالى، والتدريب على فريضة أخرى من فرائض الإسلام: الجهاد في سبيل الله.
♦الحج والجهاد
لذلك تأتي بعد آيات الحج مباشرة آيات الجهاد في سبيل الله: [إِنَّ ٱلله يُدَافِعُ عَنِ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ...] (38) ثم قوله تعالى: [أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَـٰتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ ٱلله عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ] (39).
يتبع👇🏼
كأن المعنى: أن الحج تدريب أساسي على الجهاد في سبيل الله، لأنه عبارة عن حركة شاقة وانتقال من مكان إلى آخر، والحاج - كالمجاهد تماماً - كثير الارتحال بين الأماكن والمناسك دون أن يعرف الاستقرار. باختصار، إن الحج هو من أسمى العبادات التي يترك فيها المسلم كثيراً من عاداته التي تعوّد عليها في بيته، ليبني نفسه ويعوّدها على الجدية واقتحام الصعاب.
♦الحج والخضوع لله
ومن روعة الحج أنه يجعلك تستشعر أن الكون كله عبد لله. ففي يوم عرفة تشعر أنك لست وحدك من يسجد لله في هذا الكون ويدعوه، بل تشعر أن الخيمة ساجدةٌ هي الأخرى، وأن الجبل نفسه ساجد، بل الكون كله، فتنضم أنت - أيها الإنسان الضعيف - إلى هذه المخلوقات وتشاركها في سجودها وخضوعها لله تعالى. وهذا ما نراه بوضوح في الآية 18:
[أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱلله يَسْجُدُ لَهُ مَن فِى ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَمَن فِى ٱلأَرْضِ وَٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ وَٱلنُّجُومُ وَٱلْجِبَالُ وَٱلشَّجَرُ وَٱلدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مّنَ ٱلنَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ ٱلْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ ٱلله فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ ٱلله يَفْعَلُ مَا يَشَاء].
♦حياة الأمة... بين سجدتين.
واللطيف أن أول سورة نزلت فيها سجدة مع بداية البعثة كانت سورة العلق، التي جاء فيها قوله تعالى: [كَلاَّ لاَ تُطِعْهُ وَٱسْجُدْ وَٱقْتَرِب]، بينما آخر سورة نزلت فيها سجدة كانت سورة الحج، التي نزلت مع نهاية البعثة، والتي ترى فيها قوله تعالى: [يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱرْكَعُواْ وَٱسْجُدُواْ وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ وَٱفْعَلُواْ ٱلْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] (77).
♦والفرق بين السجدتين يظهر النقلة العظيمة التي انتقلتها الأمة، من السجدة الأولى الموجهة للنبي صلى الله عليه وسلم وحده في سورة العلق، إلى السجدة الأخيرة التي وجهت للأمة كلها في سورة الحج. فهي نقلة نوعية في فترة محدودة، من النبي وحده في غار حراء، إلى أمة عابدة مجاهدة.. 🕋