الطرب الأصيل والطرب الدخيل
ليس الأصيل هو القديم ، وليس الدخيل هو الجديد ، وإنما الأصيل هو ما لامس الأصالة الإنسانية التي فطر الإنسان عليها منذ نشأته الأولى ، وعلامته أنه يلقى الإعجاب الأكبر من جميع أنواع الناس في مختلف أنحاء الأرض ، وفي كل الأزمنة ولكن بنسب متفاوتة ؛ ويكون هذا أشبه بالفن الخالد ، أما الدخيل فهو الذي يطرب الناس لأسباب أخرى لا ترتبط بالأصالة الإنسانية .
أكرمني كثيراً الجمهور النوعي المتميز الذي حضر محاضرتي ( الطرب الأصيل والطرب الدخيل ) في المركز الثقافي العربي بالمزة يوم الأربعاء 8 / 4 / 2015 ، وحين وصل الحديث إلى أم كلثوم قلت للجمهور إنني يوم أمس الثلاثاء حضرت في المركز الثقافي العربي في أبو رمانة . . . تحليلاً ممتعاً جداً للأستاذ وضاح رجب باشا لقصيدة الآهات ، وصف فيها السيدة أم كلثوم وصفاً بارعاً دقيقاً ، فقال عنها إنها تملك قدرة هائلة على التلوين وإيصال الأحاسيس . . . وإن لديها قوة بدنية كبيرة تجعل صوتها يندفع من الحجاب الحاجز ليصل إلى أكبر مسافة ممكنة ، فالميكروفون يبعد عنها متراً كاملاً . . . في حين أننا اليوم نكاد أن نعض الميكروفون ونحن نتكلم . . . وتحدث عن تدريباتها الكثيفة . . . فقد كانت قبل أن تقدم الأغنية للجمهور تقوم بالتدريب مائة مرة ، تقيم مائة بروفا قبل العرض ، ومن ميزاتها أيضاً أنها كانت تتمكن من الاستمرار في الإلقاء لمدة طويلة تصل أحياناً إلى أربع ساعات . . . وقال أيضاً إنه قد تم تحليل صوتها بشكل آلي ؛ فتبين أن صوتها يحمل نسبة نشاز تساوي واحداً بالألف . . . والأذن العادية لا تمايز النشاز إلا بمقدار تسعة بالألف . . . طبعاً البعض لا يميز نشازاً من نشاز . . .
فضلاً عن ذلك ، كان الملحن رياض السنباطي كلما أدت أمامه الأغنية يصحح لها ، فيقول يا سيدة أم كلثوم : ليس هكذا ، يبنغي أن نعيد . . . فتقول له : حاضر يا فندم . . .
لم تكن تقول له : أنا أم كلثوم ، لا أحد يعطيني تعليمات .
إلا أن أعظم جملةٍ سمعتها من الأستاذ وضاح رجب باشا في وصف أم كلثوم ، جملةٍ تختزل كلاماً كثيراً جداً . . . وكان من الممكن أن أقرأها فأكتفي بها لتعبر عن أضعاف ما أريد قوله في هذه المحاضرة . . . وهي : ( لو لم تكن أم كلثوم مستمعة عظيمة ؛ لما كانت مطربة عظيمة ) .
* * *
ثم فاجأني الجمهور بأمر جعلني أتوقف قليلاً عن الكلام . . . ثم قلت :
ليس المحاضر هو الذي يجب أن يكرم . . . أو أن يشار إليه . . . أو أن يُصفَّق له . . . إن أي إنسان بوسعه أن يحاضر ، هذه ليست براعة ، إنما البراعة الحقيقية تكمن في القدرة على الاستماع . . . إن صبر المستمع ولهفته ودقته في الإنصات هي أعظم بكثير من أية محاضرة مهما كان نوعها . . .
يقول ابن الرومي :
من لي بإنسانٍ إذا خاصمتُهُ
وجهِلتُ ، كان الحِلمُ ردَّ جوابهِ
وإذا طربتُ إلى المدامِ شربتُ
من أخلاقهِ ، وسكرتُ من آدابهِ
وتراه يصغي للحديث بسمعهِ
وبقلبه ، ولعلَّـهُ أدرى بــهِ
إن حُسنَ الاستماع ، مع الفهمِ ، والصبرِ على المحدِّث دونَ مقاطعة ، هو واحدٌ من آداب كثيرة ، وعادات حميدة نحتاج إلى إعادة إحيائها بينَنا ، وإلى أخذ أنفسِنا بها ، وتربيةِ أولادنا عليها .
إنما أسوق هذا الكلام لأنني أحسست الآن بالطرب فعلاً . . . أحسست بالطرب الأصيل لما تبثه في نفسي عيونكم المترقبة وآذانكم المنصتة وتواضعكم الجم ، وإني أصفق لكم وأنحني أمامكم تبجيلاً لهذا الإنصات الممتع الذي أشغفني فعلاً .
وكعادتي ختمت كلامي ببيتين من الطرب الأصيل للشاعر نفسه والمطربة نفسها ، وهما في معناهما يتماهيان قليلاً مع نظرية موت المطرب المبدع بسبب موت المتذوق الممتاز ، وموت الطباخ بسبب موت الذواق . . . إذ يقول الشاعر إنه لولا وجودك بجمالك وفتنتك لما أصابني الوجد . . . ولولا جبي لك لما ذقت طعم الهوى . . . يقول
يا فاتناً لولاه ما مسَّني وجدٌ ولا
طعمُ الهوى طابَ لي
هذا فؤادي فامتلِك أمرَهُ
واظلمه إن أحببت أو فاعدلِ
والوقع أن الحضور كان غنياً جداً بشخصيات فذة اطربتني فعلاً . . . منهم :
1 ــ الأستاذ لطفي الغميان .
2 ــ الأستاذ الشاعر نصر محسن ؛ رئيس المركز .
3 ــ الأستاذ المثقف الكبير طلحة حريب ؛ المرشد الثقافي في المركز .
4 ــ الأستاذ المستشار رشيد موعد .
5 ــ الأستاذ عارف موعد .
6 ــ الأستاذ الكبير وضاح رجب باشا ؛ الباحث الموسيقي الكبير، صاحب المحاضرات الموسيقية القيمة .
7 ــ السيدة الفاضلة أمل محاسن .
8 ــ الذكتور فراس سلمان . . . طبيب النسائية الناجح .
9 ــ الأستاذ الشاعر محمد الخطيب .
10 ــ السيدة المحامية المتألقة فاتنة تللو .
11 ــ المهندس الزراعي مازن السادات .
12 ــ الآنسة آية تللو .
13 ــ الآنسة رشا الملاح .
14 ــ الآنسة هدى البرزاوي .
15 ــ السيد رفيق تللو .
16 ــ الأستاذ الكبير صاحب القصص البديعة رضا الزيات .
وعدد آخر من الجمهور الكريم . . .
وبالطبع يرأس ذلك كله الإنسان العظيم الذي علمني ودربني وحباني من فضله وكرمه ما لا يكفيني أعماراً عديدة فوق عمري لأفيه حقه من رعايتي ؛ وهو أبي الغالي ( شاكر تللو ) . . . ومعه زوجتي الفاضلة الدكتورة سيناء الخطيب وأختي الآنسة سامية .
هؤلاء هم القلة القليلة الباقية التي ما زالت تحتفي بالطرب الأصيل .
لذلك فإن العدد هنا يقاس بالكيف ، وليس بالكم . . .
فرق كبير بين الحشود الكبيرة غير الواعية ، وبين القلة القليلة ذات الرأي الحصيف والذائقة النادرة .
الطرب الأصيل ثلاثة عناصر : كلمات شجية وألحان زاهية وإلقاء متميز . . .
واأسفاه اليوم على كلامٍ باهتٍ شحيحْ ، وموسيقا أشبه بالفحيحْ ، ومطربٍ صوتُهُ قبيح .