منتديات فرسان الثقافة - Powered by vBulletin

banner
صفحة 1 من 3 123 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 10 من 27

العرض المتطور

  1. #1

    عصافيرٌ في سجن جنين

    (11)
    "كارولين" ذات الشعر الأشقر
    بدأ التحقيق يوم الاثنين 20/5/ مبكراً، كانوا أربعة وحوش، يرأسهم اليهودي أبو ربيع، الذي لم يكن سؤاله في ذلك اليوم عن السلاح، ولا عن المجموعات المسلحة، ولا عن التنظيم، كان السؤال في ذلك اليوم عن مندوبة الصليب الأحمر الدولي "كارولين"، كان السؤال المتكرر: ماذا قدمت لك "كارولين" من خدمات؟
    وكان جوابي الذي لم يتغير، هي غريبة، وتشعر أننا أهلها، هي صديقتنا، تأتي إلى بيتنا، تأكل طعامنا، وتنام وسط أطفالي الخمسة، وتحتضنهم، وتجد معهم نفسها.
    ظل المحقق يسأل عن العلاقة مع "كارولين"، بل تجاوز في سؤاله الخدمات التي قدمتها، وصار يسأل ساخراً عن العلاقة الخاصة مع صاحبة الشعر الأشقر! ماذا فعلت معها؟
    ولما ظل جوابي كما هو، قام أبو ربيع ووضع الكيس على رأسي، ورفع الكلبشات حتى منتصف ذارعي، وفجأة وجدت نفسي مطروحاً أرضاً، لا أستطيع تحريك ساقي المقيدتين بقبضات المحقققين، وشعرت بثقل جسد اليهودي أبو ربيع فوق صدري، وهو يطبق بالبشكير المبلل على أنفاسي، حاولت الإفلات من قبضته القوية التي كتمت أنفاسي، حاولت حتى شعرت أنني أموت، فشهقت، ونفضت رأسي بقوة، وتمكنت من أخذ جرعة هواء.
    وقتها شعرت أن جسدي وجسد "أبو عنتر" يضغطان على الكلبشة التي تضغط على ذراعي، وقتها شعرت بالوجع، وشعرت أن حذاء أحدهم يضغط بقوة أسفل الخصيتين.
    استجمع أبو ربيع قوته ثانية، ووضع البشكير المبلل على أنفي، وضغط بكلتا يديه القويتين، فحبس أنفاسي ثانية، حتى إذا أوشكت على الموت، وانتهى أمري، شهقت شهقة الموت، وتفضت رأسي، واختطفت جرعة هواء.
    لم أكن أحس بالحذاء الذي يضغط أسفل الخصيتين إلا في لحظة التقاط الأنفاس، كان همي الوحيد في تلك اللحظات اختطاف جرعة هواء، أحرك رأسي بكل قوة، وأحاول فتح فمي متحدياً قوة ذراعي أبو ربيع، كي أجرع لهوة هواء، قبل أن يعاود الضغط ثانية، لم أكن أشعر بالوجع الشديد الذي يسري في جسدي جراء الضغط على أسفل الخصيتين إلا في اللحظة التي أنجح فيها بالتقاط الأنفاس.
    الوقت لحظات التعذيب لا يقاس بالساعة، ولا يحسب بالدقائق، الوقت لحظات التعذيب يقاس بالقدرة على التحمل، وكان قراري تحمل العذاب، فالمحقق لا يريدني ميتاً، يريد أن يصل بي إلى حافة الموت كما قال، ليعيدني إلى الحياة ثانية.
    عندما ذبلت قدرتي، وأوشكت على الموت، رفع المحققون الكيس عن رأسي، وأقعدوني، وأعادوا علي السؤال نفسه، ماذا قدمت لك "كارولين" من خدمات؟
    وظل جوابي كما هو لا يتغير، حتى إذا ارتاح المحققون، وأراحوا جسدي من العذاب، انقضوا ثانية بالأسلوب السابق نفسه.
    أقعدوني ستة مرات، أو سبعة مرات، لا أذكر، ولكنني أذكر تلك اللحظات ما بين جولة تعذيب وأخرى، حين كان يجلس اليهودي أبو ربيع على الطاولة، ويحرك رجليه، ويغني: كارولين كارولين، فيرد عليه اليهودي المدعو أبو رشدي، وهو يلامس شعر رأسه مع حركة انسياب حتى كتفيه، ويغني: أم الشعر الأشقر.
    كنت مغمساً بالوجع، ولا تهمني رقصاتهم، وضحكاتهم التي أدركت هدفها، فقد كنت مهموماً بالحزن على مندوبة الصليب الأحمر "كارولين"، وماذا فعل معها هؤلاء المتوحشون؟
    لقد كان منسوب الوطنية والإنسانية لدي في تلك الفترة مرتفعاً جداً، حتى إذا جاء المساء، كنت أجلس في المسلخ، أنظر من ثقب الكيس، مفتشاً عن صديقي أبو شاويش، وأدق له على الأرض، كي تحدث بالإشارات دون أن يفهم أينا الآخر.
    يتبع


    (12)
    وللتاريخ ذاكرةٌ، وللصليب الأحمر زيارةٌ
    اليوم الذي لم تشبهه الأيام تحت التعذيب كان يوم الثلاثاء 21/5، ففي ذلك اليوم زارني ثلاثة من مندوبي الصليب الأحمر، ولما كنت أعرف بعضهم قبل السجن، فقد كان اللقاء حنوناً إلى حد بكاء مندوبة الصليب الأحمر، فقد رأت بأم أعينها إنساناً لا يشبه الذي عرفته من قبل!
    سألتها عن صديقتها "كاولين" قبل أن تسألني عن أحوالي، فقالت: لقد سافرت في اليوم التالي لاعتقالك مباشرة.
    ثم سألت مندوبي الصليب الأحمر: ماذا جرى للأسرى في السجون الإسرائيلية، فقالوا: الأمس تم الإفراج عن 1200 أسير ضمن صفقة تبادل الأسرى.
    لم أشعر بعد ذلك بما يجري حولي، طرت إلى عالم آخر من الفرح، كان قلبي يرقص طرباً، لقد صرت حمامة تطوف شوارع فلسطين، وترش عطر الحرية، فقد كنت من القلائل الذين يعرفون أن في ذلك اليوم سيتم تنفيذ صفقة تبادل الأسرى.
    كان موعد تنفيذ صفقة تبادل الأسرى سري جداً، فقد وصلني من عمان بتاريخ 30/4/1985 رسالتان عاجلتان، وسريتان جداً، كان يتوجب أن تصل الرسالة الأولى إلى سجن عسقلان، وأن تصل الرسالة الثانية إلى سجن نفحة، والرسالتان تحتويان على تفاصيل صفقة تبادل الأسرى، التي كان يجب أن تتم يوم الاثنين 20/5/1985.
    بعد تفكير طويل، ذهبت يوم الخميس 1/5/1985 إلى بيت المرأة الفاضلة أم رأفت النجار من خان يونس، وكانت تربطني بالعائلة علاقة طيبة، فأنا أستاذ لابنها وابنتها، وأحمل للأسرة تقديراً خاصاً، فأم رأفت لها أسيران، الأول في سجن نفحة، والثاني في سجن عسقلان، وكان يوم الجمعة موعد زيارة السجون، لقد أعطيتها الرسالتين، وأوصيتها بضرورة إيصالها للسجناء، وأكدت لها أن هاتين الرسالتين تختلفان عن كل الرسائل السابقة.
    في مساء يوم الجمعة 2/5/ وقبل اعتقالي بأربعة أيام، اتصلت أم رأفت هاتفياً، وأكدت لي أن الأمانة قد وصلت لأصحابها.
    ما أن غادر ممثلو الصليب الأحمر حتى كنت في المسلخ، والكيس في رأسي، ولكنني في هذه المرة لا أفتش عن ثقب الكيس، فقد آثرت أن أطلق العنان لخيالي، وأغمض عيني على نهر الدموع الذي راح يجري حتى تساقط على ثياب السجن.
    في تلك اللحظة الشيقة أخذني السجان إلى غرفة التحقيق، وما أن رفع المحقق الكيس عن رأسي حتى شاهد الدموع، فهلل فرحاً، ورقص طرباً، وقال: فايز أبو شمالة يبكي، يا حرام، مسكين، وأضاف: خلص نفسك من العذاب، واعترف، وانتهى الأمر.
    نظرت إلى المحقق باحتقار، ولم أجب عليه، لقد كنت أحلق بعيداً، لقد كنت خارج غرف التحقيق، في عالم الحرية والانتصار، وتركت للمحقق جسداً لا أشعر بما يلاقيه من عذاب.
    يتبع


    (13)
    "كارولين" عاشقة فلسطين
    ظل السؤال الذي يردده المحقق 22/5 هو: ماذا قدمت لكم "كارولين" من خدمة، وظل جوابي بعد أن تأكدت من سفرها إلى الخارج: لا شيء، فكيف أتهم فتاة أحبت الفلسطينيين، واقتنعت بعدالة قضيتهم؟ ماذا أقول عن عاشقة فتحت قلبها، واعترفت أمامنا بأنها قد وقعت في حب سجين سياسي فلسطيني، التقت به أثناء زيارتها للسجون الإسرائيلية، وهي تحرص على زيارة السجن الذي يتواجد فيه؛ كي تزوره، وتلتقي معه؟.
    رغم أن الحب مشاعر إنسانية تفرض علينا احترامها، وعدم الطعن في مصداقيتها، وأحياناً تفرض علينا هذه المشاعر السامية أن نواسي العاشق، ونداري معه، إلا أنني سألت مندوبة الصليب الأحمر "كارولين": عن مصير هذا الحب؟ وما النتيجة التي تنتظرينها من حب سجين محكوم بالمؤبد؟
    قالت والأمل يقفز من عينيها: قريباً سيتحرر الأسرى، ويمكن أن نتزوج، إلا إذا رأى فتيات فلسطينيات أجمل مني، وخطفن قلبه، وأضافت: هو الآن يراني أجمل فتاة على وجه الأرض؛ لأنه لا يرى نساء غيري، ولكن حين تنفتح أمامه مجالات الرؤيا، ربما يتغير!.
    هذا الكلام العاقل الصادق قلته للأسير اللبناني سمير القنطار ـ الأسير الذي كان السبب في الحرب الإسرائيلية على لبنان سنة 2006 ـ قلت لسمير القنطار مطلع سنة 1992، في سجن نفحة الصحراوي: إن الحب في السجن حب غير مكتمل الأركان، إنه حبٌ فجٌ، لأنه حب يقوم على الشفقة من طرف والضعف من طرف آخر، ولما كان الحب كائناً حياً، يتنفس القناعة المشتركة، والإحساس المشترك، فإن تبدل الواقع كفيل بأن يقتل الحب، ويبدل المشاعر.
    لم يصدق سمير القنطار حديثي في ذلك الوقت، فقد كان غارقاً في حب فتاة فلسطينية من عكا اسمها "كفاح كيال"، وكان قد وقع الحب بينهما بعد إضراب سجن نفحة عن الطعام الذي حدث في شهر 6/1991، لقد استمر الإضراب تسعة عشر يوماً، لم يدخل خلالها جوف الأسرى إلا الماء والملح، وبعد أن انتهى الإضراب، تم عزل الأسير سمير القنطار إلى سجن بئر السبع لمدة ستة أشهر، هنالك ترددت على زيارته فتاة فلسطينية من عكا اسمها كفاح كيال، لقد كانت الوحيدة التي تزوره كل أسبوعين مرة، حتى صارت جزءاً من أيامه.
    حين عاد سمير القنطار إلى سجن نفحة، بادرني بالحديث عن سر يؤرقه، وعن مشاعر حب سكنت فؤاده تجاه كفاح كيال، الفتاة التي تحرص على زيارته، وهو حائر في مكاشفتها، أو طي صفحات قلبه على سطور الحب.
    أوصيت سمير أن يكتم هذا الحب، وأن لا يتحدث لأي أسير غيري بهذا الشأن، ورويت له قصة مندوبة الصليب الأحمر "كارولين" التي عشقت أسيراً، وكانت من الذكاء بحيث أنها قدرت تبدل مشاعره في حالة تحرره من الأسر، ولكن اعتقالي قبل أيام من تحرر الأسرى، وسفرها إلى الخارج على عجل، قد أفسد عليها الحب.
    أنا موقنٌ أن الحب مجنونٌ، إذا تلبس اثنين غم على الأعين، وفجر في صحراء الشوق بينهما نهراً دافقاً من الحنان، لا يكبحه عقل، ولا يردعه واقع مرير، وهذا ما حدث مع الأسير اللبناني سمير القنطار الذي كان يأتيني مباشرة بعد كل زيارة، ليحدثني عن حبه للفتاة، ويطفئ بالحديث لظى الشوق، كان يحدثني عن عشقه لكفاح الكيال، وعن تخوفه بأن يكون واهماً.
    وقتها شجعته على أن يكتب لها رسالة سرية، يبثها حبه، وينتظر ردها في الزيارة القادمة، وذلك ما حصل، فقد ردت عليه بالإيجاب، وصار الحب بينهما صريحاً.
    بعد فترة من الزمن، جاء سمير القنطار يستشيرني بالزواج من فتاته، خشية افتضاح أمر حبه، وقد شاركنا الاستشارة بعد فترة في هذا الشأن الأسير جبر وشاح، وكان قد عاد إلى سجن نفحة من عزل طويل في سجن بئر السبع، وقد استعد جبر وشاح أن يرسل أباه إلى عكا ليخطب الفتاة من أهلها، لصير بعد ذلك الحل الشرعي لمشكلة شاب درزي وفتاة مسلمة، لتبدأ مع إدارة السجن معركة كتب كتاب سجين محكوم بالمؤبد على فتاة خارج السجن.
    وبعد التهديد باللجوء إلى المحكمة العليا، وافقت إدارة سجن نفحة على كتب الكتاب في حفل صغير داخل السجن تحضره العروسة والعريس وخمسة أفراد من خارج السجن، ويحضره خمسة سجناء، أبلغ أسماءهم سمير القنطار إلى الإدارة، وهم: جبر وشاح، وسليم الزريعي، ورياض الملاعبي، ومسعود الراعي أبو الصاعد، وفايز أبو شمالة.
    لا أعرف كيف جرت أمور كتب الكتاب في سجن نفحة، فقبل يوم من عقد القران، تم ترحيلي إلى سجن عسقلان، مروراً بسجن الرملة، هنالك تابعت من خلال الصحافة العبرية، ومن خلال الإذاعة العبرية وقائع المظاهرات التي انطلقت في تل أبيب ضد هذا الزواج، فقد قادت المظاهرات "سميدار هرن" زوجة عالم الذرة الإسرائيلي، الذي قتل في العملية الاستشهادية التي نفذها سمير القنطار سنة 1979،
    لقد قالت تلك المرأة للصحافة العبرية: بعد أن سمعت إطلاق النار، هربت مع طفلتي، واختفيت تحت الدرج، أنا وجارتنا، وبعد فترة من الزمن، دار الاشتباك بين الجيش وبين الخاطفين، فصرخت طفلتي، خفت أن يكتشف أمرنا، فحاولت أن أسكت طفلتي؛ وضعت يدي على فمها، ولم أدر أنني قد كتمت نفسها، وخنقتها بيدي حتى ماتت.
    حتى اليوم أنا لا أعرف الأسباب التي حالت دون زواج سمير القنطار من كفاح الكيال، فقد تزوج سمير من الإعلامية اللبنانية زينب برجاوي سنة 2009، وكسبت بعد ذلك كفاح الكيال قضية خلع ضده في المحاكم الفلسطينية، وصار بينهما مناكفات منشورة عبر وسائل الإعلام.
    يتبع


    (14)
    أنا وأبي وشهر رمضان في التحقيق
    في ليل يوم الخميس الموافق 22/ 5/1985، رفع السجان عن رأسي الكيس، وأخذني حيث يتواجد الطعام، فأكلت، وأنا مستغرب من هذه الوجبة الليلية، لم أكن أعرف أن شهر رمضان قد جاء، وأن هذا وقت السحور، وأن ستة عشر يوماً قد مرت على وأنا تحت التعذيب لا أعرف ليلها من نهارها.
    وكانت المفاجأة حين أخذني السجان مرة ثانية إلى مكان الطعام بعد شروق الشمس، ورفع الكيس عن رأسي، وفك قيودي، فأكلت؟
    قلت في نفسي: ما أروع شهر رمضان في التحقيق! لقد أكلت في ذلك اليوم من رمضان حتى الضحى مرتين، إنه شهر رمضان الذي سيجلب المزيد من الوجبات، هذا شيء رائع، وأنا جائع، وأخوض معركة بجسدي الذي يجب أن يظل قوياً صامداً.
    في ضحى ذلك اليوم كنت أجلس في المسلخ مقيداً، أرقب من ثقب الكيس ما يجري من حولي، دون أن يطلبني أحد للتحقيق، وهذا ما سمح لي أن أطفئ لمبة الدماغ، وأغمض عيني، بعض الوقت، لأصحو على دقات بالعصا على بلاط المسلخ، نظرت جهة الصوت، فجزعت، إنه والدي بشحمه ولحمه وبطوله وعرضه، إنه يدخل إلى غرفة التحقيق.
    يا للهول، هل سيعذبونه؟ لقد توقعت أن أسمع صفعاً وضرباً وما شابه ذلك، كنت أرقب اللحظة، بينما الصمت يبسط ذراعيه على المكان لفترة من القلق.
    كان منظري مفزعاً ومقززاً حين أدخلني السجان إلى غرفة التحقيق، كان أبي يجلس مهموماً على كرسي، فلما رآني، سأل عن أحوالي، وقال: إذا كان الاعتراف يخلصك من هذه الحالة، فاعترف فقط بما قمت به.
    كان ردي السريع: أنا بخير يا مختار، ولا شيء عندي أعترف عليه.
    لقد أوجعت كلماتي المحققين، فانهالوا علي ضرباً وصفعاً، وأخرجوني من الغرفة بسرعة.
    لقد أوصلت الرسالة التي أريد، وأفشلت مخطط المحققين في التأثير السلبي على نفسي بتواجد أبي في غرف التحقيق.
    سمعت بعد سنين أن والدي قد استدعى مجموعة من الوجهاء والمخاتير، وأبلغهم بأنه مطلوب للمخابرات في غزة، وطالبهم بعدم تركه وحيداً إن لم يرجع إليهم حتى المساء، ولما حاول البعض طمأنته، لأنه رجل كبير في السن، ومختار، وما شابه ذلك من كلام، قال لهم: ما أقل عقولكم! المخابرات الإسرائيلية التي حبست أحمد ياسين وهو مقعد، ستخجل من حبسي!!
    وقد عرفت بعد عدة شهور أن والدي قد عاد إلى البيت في نفس اليوم، ليظل جسدي مقيداً في المسلخ، في الوقت الذي سافرت فيه روحي إلى مخيم خان يونس، فقد هزت رؤية أبي عواطفي، فسكنت مع نفسي لحظات من الوجد، لم أصح منها إلا حين جاء السجان، وأخذني إلى مكان الطعام، فأكلت وقت الظهيرة للمرة الثالثة.
    بعد آذان المغرب، بدء السجان في إطعام الصائمين، كان يفك قيود أحد السجناء، ويأخذه لتناول طعام الإفطار، فإذا انتهى من الأكل، يضع القيود في يديه ثانية، ويجلسه في المسلخ، ليبدأ في فك قيود سجين آخر وهكذا، حتى أفطر بعض السجناء بعد منتصف الليل.
    أما أنا، فلم يصلني الدور، لقد وضع السجان شريطاً لاصقاً على ظهري، وكتب عليه شيئاً ما، فصرت مميزاً عن باقي السجناء، وطويت بالجوع حتى ضحى يوم الجمعة الموافق 23/5، حين طلب المحقق من السجان أن يخرجني من المسلخ، لأجد نفسي مقيداً تحت ضوء الشمس في يوم قائظ، انتظر عربة الترحيلات، ورياح الخماسين تعصف من حولي.
    يتبع



    (15)
    في سجن جنين غرفة نومٍ وسجائر
    كنت معصوب العينيين ومقيداً من الخلف حين صعدت إلى عربة الترحيلات، وكان علي الانبطاح على بطني فوق أرضية العربة، وتحمل حرارة الجو في ذلك اليوم، وتحمل النار التي تشع من المحرك، وتلفح وجهي، كنت أحرك نفسي يميناً ويساراً قدر المستطاع، كي أخفف متفادياً للحريق الذيي يشتعل بجسدي، لقد اكتشفت في تلك اللحظة جسداً ملقى بجواري على أرضية العربة، فبادرته بذكر اسمي، وسألته: من أنت؟
    قال: أنا جمال أبو عامر، فسألته: هل أنت ابن الأستاذ عامر أبو عامر، فأجاب: نعم، وانتهى الحديث بيننا، ولاسيما أن كلاً منا غارق في أوجاعه، وخائف من المجهول، لقد أشفقت عليه مثلما أشفقت على نفسي من هذه الرحلة الغامضة.
    في هذا الجو الخانق المخيف لا أعرف أين أنزل المحققون جمال أبو عامر، ولكنني عرفت بعد ساعات طويلة من السفر أنني موجود في زنازين سجن جنين، شمال الضفة الغربية، وقد رفع السجان الكيس عن رأسي، وفك قيودي، وأعطاني بطانية ومكنسة، وقال لي: نظف هذا المرحاض، ستقيم هنا في هذا المكان.
    كان عرض المرحاض متراً واحداً، وكان طوله مترين، وفيه حفرة لقضاء الحاجة، لم يكن فيه كرسي، وكان علي أن أنظفه جيداً طالما صار غرفة نومي الإجبارية، لقد قمت بفرد البطانية كي تغطي ثقب المرحاض، وتمددت بعد أن أغلق السجان الباب، وبعد أن أعطاني أربع سجائر، هي نصيبي اليومي، وأشعل لي إحداها، لقد كنت جائعاً وتعباً ومرهقاً وقلقاً، ولم أشعر بقذارة المكان بمقدار ما شعرت أنني بحاجة لأن أمدد ظهري، وأغيب عن الوجود في نوم عميق.
    عند فجر يوم السبت 24/5 أيقظني السجان من النوم الهانئ، وطلب مني أخذ البطانية والخروج من المرحاض، ومرافقته حتى درج السجن، هنالك فتح بوابة مخزن صغير تحت الدرج، وطلب مني حشر نفسي في الداخل، ففعلت، وأغلق علي البوابة، لأجد نفسي في ظلام دامس مع مجموعة من الكراتين المغلقة، فقعدت علي كرتونه.
    دقائق، كانت يدي تفتش في الكراتين، فعثرت فيها على علب سجائر، ودون تفكير، رحت أحشو جيوب ملابس السجن بعلب السجائر، وانتظرت قرابة ساعتين حين عاد السجان، وفتح بوابة المخزن، وأخذني إلى المرحاض ذاته ثانية، وطلب مني تنظيفه، فقد صار غرفة نومي كل الوقت الذي لا يقضي فيه المقيمين في زنازين سجن جنين حاجتهم.
    ولما كان السجناء في زنازين سجن جنين يقضون حاجتهم في المرحاض مرتين في اليوم، فقد تكرر أخذي للمخزن ثانية بعد العصر، ولكنني في هذه المرة دخلت المخزن بعد أن طلبت من السجان أن يشعل لي سيجارة، فقد كنت مدمناً على التدخين في ذلك الوقت.
    حين عاد السجان بعد ساعتين، وفتح باب المخزن، اندهش، وصرخ حين رأي غيمة من دخان السجائر تغطي المكان، فقال: يا مجنون، كيف لم تختنق في داخل المخزن.
    في صباح يوم الأحد 25/ 5 بعد مبيت ليلتين في المرحاض، أدخلني السجان إلى غرفة فيها سجناء عرب، لقد أدركت من اللحظة الأولى أنها غرفة العصافير، غرفة للعملاء.
    ملاحظة: جمال أبو عامر ( أبو الصادق) يسكن حي الأمل في خان يونس، كان محسوباً على تنظيم الجبهة الشعبية في ذلك الزمان، وهو اليوم من قيادي حركة حماس، أتمنى عليه أن يدخل صفحتي، ويضيف ما لديه من ذاكرة.

    يتبع







    (16)
    عصافيرٌ في سجن جنين
    كان صباح يوم الأحد 25/5 في سجن جنين عابساً، لقد شاهدت بأم عيني الإحباط واليأس الذي يغطي وجوه العصافير، أجساد متهاوية، عيون زائغة، ونفوس محطمة، وصمت يصفع وجه الأشياء في الغرفة، وكلٌ منهم غارق في هواجسه وأحزانه.
    لقد أدركت من اللحظة الأولى أن كل هؤلاء الذين حولي هم عملاء، شوهت نفوسهم المخابرات الإسرائيلية، وأيقنت أن أمامي فرصة جيدة لتوصيل رسالتي للمحققين الإسرائيليين من خلالهم، والتأكيد لهم بأنني بريء من كل تهمة، وعليه قررت من البداية أن أضحك وأمزح وأتحدث معهم عن التحقيق، وعن غباء المحقق الذي يتهمني بما لا أعلم، وقررت أن أستغل كل لحظة متاحة للأكل والنوم استعدادا ًلقادم الأيام.
    في الليل، تعمد أحد العصافير أن يوقظني من النوم بحجة الشخير، لقد تعمد أن يوقظني في اللحظة التي كان فيها بعضهم يسن السكاكين، فسألته: ما هذا؟ لماذا يسنون السكاكين؟
    قال: في الغرفة أحد العملاء، سيتم التحقيق معه، فإن تبين أنه عميل، سيذبحونه!
    لم يهزني سن السكاكين، كنت واثقاً من نفسي، ومن المخابرات الإسرائيلية التي تريدني سالماً، فعدت فوراً للنوم، ولم أبد أي اهتمام بما يجري من حولي.
    كرر العميل محاولته ثانية، ولكن دون جدوى، لقد أدرك أنني غير مكترث لسن السكاكين، ولا ألتفت لحركات العملاء وهمساتهم المريبة.
    في صباح اليوم التالي خرجت مع نزلاء الغرفة إلى باحة السجن، وكانت فرصة كي أحرك مفاصلي، وإشبع رغبتي بالحديث عن كل شيء ما عدا المقاومة، حتى جاء نزيل غرفة أخرى، تعرف علي، ورافقني في المشي، وفتح نقاشاً سياسياً، كان متحدثاً لبقاً، شجعني لمجاراته في الحديث في الشئون العامة التي لا علاقة لها بأي عمل مقاوم.
    لقد عرف ذلك الشخص نفسه باسم "حمدي فراج"، لقد انتبهت للاسم، فهذا اسم كاتب في صحيفة الفجر الفلسطينية التي كانت تصدر من القدس في ذلك الزمان.
    سألته: هل أنت الكاتب حمدي فراج؟ فقال: نعم، أنا هو!
    بعد أن عدت إلى الغرفة بفترة قصيرة، فتح الباب ودخل السجين نفسه الذي سمى نفسه "حمدي فراج"، كان يبدو غاضباً، فاستقبلته بابتسامة، وأجلسته بجواري، وأنا فرح بلقاء إنسان مثقف، ووجه بشوش، ومحاور يحسن الحديث، ويتحدى السجان، ويشتم إسرائيل.
    دقائق، وهمس ذلك الشخص في أذني: احذر، هذه الغرفة للعملاء، إياك أن تقع.
    قلت له: لاشيء عندي كي أتحدث فيه، كل تهمتي هي الحديث في السياسة.
    لم يعد ذلك الشخص لتحذيري، لقد عبر اليوم كله وكلانا نتحدث في الشئون الحياتية العامة، وفي السياسة، حتى صباح اليوم التالي؛ حين سمعت مكبر الصوت في السجن ينادي: حمدي فراج، حمدي فراج مطلوب للترحيل.
    لقد حزنت حين رأيته يلملم أغراضه، ويستعد للرحيل، ويهمس في اذني: انتبه، كل من في الغرفة عملاء، خليك بطل، وإن كنت في حاجة لمساعدة، فقل لي قبل الترحيل.
    قلت له بكل ثقة: ليس عندي أي شيء، كل ما لدي هو عدة رسائل سرية، وصلتني من عمان، وهي في مكان آمن في البيت.
    بعد خروج المدعو "حمدي فراج" من الغرفة بدقائق، جاء السجان، ووضع القيود في يدي، وأخذني إلى غرفة كان ينتظرني فيها المحقق أبو ربيع، ومحقق آخر اسمه أبو مفيد، كانا مبتسمين فرحين، أما أنا، فقد سقط قلبي من المفاجأة، لقد وقعت من حيث لا احتسب.
    يتبع

  2. #2
    (9)
    ضحك هستيري في المسلخ
    التحقيق في السجون الإسرائيلية لا يسير على وتيرة واحدة، العذاب لا يأخذ منحىً تصاعدياً باستمرار، فقد تمر على الضحية فترة من الوقت بلا عذاب، يحاول خلالها المحقق ترتيب خطواته، ودراسة ما توفر لديه من معلومات، واتخاذ الإجراءات التي تتناسب والحالة، وهدف المحقق الدائم هو إغلاق الملف بشكل سليم، ليصير قضية أمام المحاكم الإسرائيلية.
    لقد جاءني في صباح يوم الجمعة 17/5، محقق صغير السن، كان شاباً يهودياً لطيفاً، يطلق على نفسه اسم "مايكل"، رفع ذلك الشاب الغطاء عن رأسي، وتحدث إلي بهدوء، وحاول أن يغريني بالخلاص من العذاب، وحاول أن يقنعني بأن لا فائدة من الانكار، قال لي: طالما كانت النتيجة مضمونة، فعليك أن توفر على نفسك العذاب. وكان يردد على مسامعي بين فترة وأخرى المثل العربي القائل: "ميت عين تبكي ولا عين أمي تبكي".
    لقد حاول ذلك اليهودي أن يثير الخوف لدي من الذي سيحدث بعد أيام، كان يقول لي: هل ترضى أن يأتي أبوك إلى هنا، وهو رجل كبير؟ هل تقبل أن يهان أبوك بسببك، ويحشر مع اللصوص في زنزانة؟ هل تقبل على شرفك أن يحضروا زوجتك إلى هنا؟ هل ترتضى لزوجتك أن تترك أولادها، لتقعد في السجن مع العاهرات!
    بعد ساعتين من الحديث الناعم خرج المحقق "مايكل" دون نتيجة، ليدخل بعده المحققان أبو عنتر وأبو رشدي، وهما يصرخان: كوم، كوم، وطلبا مني الوقوف ووجهي على الحائط، ولكن دون غطاء للرأس، وذلك كي يكون ارتطام رأسي بالحائط أكثر وجعاً، ولاسيما أن الاثنين تعاونا على ضرب رأسي بالحائط، قبل أن يتركاني لفترة أدقق في تفاصيل الحائط.
    كم كان مرعباً ذلك الحائط! إنه لوحة تعذيب زمنية، فيها من الشواهد ما يشيب له الصغير، لقد رأيت خصل شعر تلتصق بالحائط، ورأيت بقايا دمٍ سال يوماً على الحائط، ورأيت جلدة رأس إنسان تلتصق بالحائط، كان المنظر رهيباً، ويشهد على الوحشية والعنف، وأظن أن رفع الكيس عن رأسي كان القصد منه مشاهدة لوحة التعذيب الجدارية هذه، التي تزلزل كيان من يراها بالخوف، وهو يتوقع ما قد يمر على جسده من عذاب.
    لم يطل زمن وقوفي على الحائط، فبعد ظهر يوم الجمعة اخرجني السجان من غرفة التحقيق، بعد أن وضع الكيس في رأسي، وأجلسني مقيداً من الخلف وسط السجناء.
    وما أطول يوم السبت في التحقيق! ما أطول الوقت حين يصير الإنسان كومة من اللحم المركون بلا سؤال ولا جواب، وأنا لا أحب الانتظار، ضاق خلقي، فقد تعودت على الحركة والحدث والانفعال حتى ولو كان تعذيباً، لا أحب السكون، كانت روحي بحاجة إلى التمرد، فصرت أحدث ضجيجاً في المسلخ التحقيق، وأصرخ، وأنادي، وألعن، لقد دخلت مرحلة التحدي، وكسرت حاجز الصمت الرهيب! فماذا بإمكان السجان أن يفعل بي أكثر مما فعل؟
    كان يوم السبت 18/5 بداية التمرد، فصرت أقف، وأدني ذراعي المربوطتان من الخلف حتى يقتربا من الأرض، ثم إدخل ساقي في المسافة الفاصلة بين الذراعين، لتصير القيود في معصمي من الأمام وليس من خلف ظهري، وفي هذا راحة كبيرة.
    لقد اكتشفت أن المحقق الإسرائيلي لا يعتمد نمطاً تقليدياً في التعذيب، المحقق يبتدع الجديد المناسب لكل حالة، ويمزج بين العنف واللين، المحقق لا يترك جسد الضحية في العذاب على مدار الساعة، فجسد الإنسان يألف العذاب إن كان متواصلاً، العذاب كالمرض يتأقلم معه الإنسان، بل قد يستعجل الإنسان جرعة العذاب إن تأخرت عليه، وقتها تصير اللكمات والضربات لا توجع الجسد بمقدار ما تستفز خلاياه للدفاع، لذلك يحرص المحقق على أن لا يظل جسد الضحية مشدوداً، المحقق الذكي يترك جسد الضحية يتراخى عدة أيام، ليتذوق طعم الراحة، حتى إذا عاد إليه التعذيب ثانية، يكون أقل قدرة على التحمل والصمود، المحقق يترك الضحية يتوقع العذاب، ليرتجف خوفاً قبل أن يقع.
    في ليلة الأحد خيم الهدوء على المسلخ، وتراخى السجناء في قيودهم، ذبل بعضهم تحت الكيس، ونام بعضهم وهو جالس، وهذه ما أزعج السجان الذي صرخ على جميع السجناء في المسلخ، قفوا، جميعكم هيا، جميعكم اقفزوا، اقفزوا.
    بدأنا جميعنا بالقفز، وبدأت أثير صخباً في الصالة كي أخفف عن السجناء، لقد وظفت حركة القفز لتنشيط الدماغ، وصرت أكرر بصوت مرتفع: هب، هب، هيا، اقفز، اقفز!!!
    لاحظت من ثقب الكيس أن سجيناً آخر يبادلني نفس الحركات، وينظر مثلي من ثقب الكيس، ويردد معي بصوت أجش، هيا، هيا، هيا، فما كان مني إلا أن قلت له: هيا، دبكة، وحدة ونص، وبدأنا ندبك في المسلخ وحدة ونص، وهو يراقبني وأنا أراقبه، وكلانا فرح بهذه الحركة المسلية، فقد طفح خزان الوجع في صدورنا، وجاء موعد إفراغه، وإعادة شحنة بموجة من الضحك الهستيري، نعم، ضحكنا في المسلخ بصخب أزعج السجان، فطلب منا الجلوس.
    أيها القارئ العزيز،
    حين أنشر تجربتي في التحقيق لا أنشد إثارتك، ولا أدعي البطولة، فالبطولة موقف يحتكم إلى درجة وعي الإنسان للحالة التي يعيشها، ولا أسعى لكسب ودك، ولا أرغب في تسليتك، ولا اطلب منك دمعة حزن، ولا انتظر ثناءً، ولا أخشى ملامة، فلا مطمح لي بكل ما يلهث إليه الآخرون، فقد تجاوزت في تجربتي مرحلة الخوف والطمع.
    أنشر تجربتي في التحقيق بدقة وصدق وأمانة كي يستفيد منها من لم يبدأ المعركة بعد.
    يتبع


    (10)
    أيها القارئ العزيز،
    حين أنشر تجربتي في التحقيق لا أنشد إثارتك، ولا أدعي البطولة، فالبطولة موقف يحتكم إلى درجة وعي الإنسان للحالة التي يعيشها، ولا أسعى لكسب ودك، ولا أرغب في تسليتك، ولا أطلب منك دمعة حزن، ولا انتظر ثناءً، ولا أخشى ملامة، فلا مطمح لي بكل ما يلهث إليه الآخرون، فقد تجاوزت في تجربتي مرحلة الخوف والطمع.
    أنشر تجربتي في التحقيق بدقة وصدق وأمانة كي يستفيد منها من لم يبدأ المعركة بعد.

    اكتشفت عميلا ًفي المسلخ
    ما أن تسهو عيني قليلاً وأنا قاعد في المسلخ، حتى أفيق، لأوجه نظري إلى ذلك السجين الذي بادلني حركات التمرد، لقد أحببته دون أن أعرفه، وكنت كلما ضاقت علي اللحظة في المسلخ، أستأنس فيه، وأدق له بالشبشب على الأرض، فينتبه إلي، ويبادلني الحركة ذاتها، لقد صرنا أصدقاء دون أن أتبين ملامح وجهه، ودون أن أعرف اسمه.
    كان ينظر إلي من ثقب الكيس، ويكتب بأصبعه على الأرض، وكنت أنظر إليه من ثقب الكيس، وأكتب له بأصبعي على الأرض، ولكنني لا أفهم ما يكتب، وهو لا يدرك ما أقصد، لقد كنا نمارس الحياة، ونتغلب على الصمت في تلك اللحظات الصعبة.
    في صباح يوم الأحد 19/5/ عاد المحققون من الإجازة، وبدأ الضجيج المخيف في المسلخ، وراحت أبواب الحديد تفتح وتغلق على نفاثات الخوف، وكانت خطوات المحققين وهم يتنقلون بين غرف التحقيق تدق في قلوب المنتظرين. ماذا يخبئ لنا هذا اليوم من مصائب؟ ومن الذي سيجرجرونه إلى غرفة التحقيق أولاً؟ من يخلصنا من هذا العذابـ؟
    في هذه الأجواء المعبأة بالفزع، سمعت صوتاً يقول: "أيوه، أنا محمد عبد العزيز أبو شاويش"، التفت جهة الصوت، فعرفت إنه صديقي الذي يبادلني في المسلخ طوال الليل حديث الحركات، إنه يقلدني، ويستعمل طريقتي في الرد على السجان، حين كان يسألني عن اسمي، فأقول: فايز صلاح حسين أبو شمالة من قرية بيت دراس.
    محمد أبو شاويش كان صديقي في التحقيق، وظل صديقي في السجن، وهو صديقي حتى اليوم، ويسكن في مخيم النصيرات.
    بعد دقائق من معرفة اسم صديقي، صرت أسمع صراخه، وأتخيل نفسي بعد دقائق في مكانه، إنها لحظات فزع حين يسكن صوت العذاب أذنيك، فرغم شعوري بالفخر بعد بمرور ثلاثة عشر يوماً دون أدنى اعتراف، ورغم ازدياد ثقتي بنفسي مع الأيام، ورغم تنامي إرادتي في الصمود، إلا أن سماع صوت أنين المعذبين في غرف التحقيق يوجع النفس أكثر من العيش تحت العذاب، لقد قررت في تلك اللحظات أن أحتفظ بسري مهما عذبوا جسدي، لقد قررت ألا أعطي مكافأة لمن يعذبني، لن أعترف بسري.
    لم يطل انتظاري للعذاب، دقائق وكنت تحت المقصلة، ودارت المعركة بين جسد منهك بالقلق وبين أيدي قساة قتلة من اليهود الحاقدين.
    قبل العصر كنت أجلس في المسلخ ثانية، يملؤني الشعور بالفرح، وأنا أثبت عيني على ثقب الكيس، كي أراقب ما يجري، فلم يزعجني في تلك اللحظات إلا صراخ المحققين في غرفة التحقيق على أحد السجناء، كان صوت الصفعات والضربات المبرحة يخترق آذاننا، وكانت استغاثة السجين تحاصر أرواحنا، فمن هو هذا البطل الذي يعذب حتى الآن؟ فتشت بين السجناء، فارتحت حين رأيت صديقي محمد أبو شاويش، يجلس تحت الكيس أمامي.
    ظل نظري منصب على الغرفة التي يخرج منها الصوت، كنت أتمنى رؤية ذلك البطل الصامد تحت التعذيب، فكانت المفاجأة حين جاء الخادم بالقهوة، وفتح باب الغرفة، وقبل أن يغلقها بسرعة، رأيت شخصاً عربياً بلباس السجن، يجلس مبتسماً على كرسي، ورأيت المحقق اليهودي يضرب الطاولة بحركات تمثيلية، ويشتم ويسب كذباً بصوت مرتفع.
    إنها تمثيلية إذن، فمن هو هذا العميل الذي يمثل دور البطل؟
    ظللت أراقب الغرفة حتى فتح بابها، ليخرج منها المحقق، وهو يجر العميل، كان مقيداً، والكيس على رأسه.
    وحين مر من أمامي، مددت رجلي بشكل متعمد، فسقط وارتطم وجهه بالأرض، فتأكدت من ملامحه جيداً، بعد أن رفع السجان عن رأسة الكيس ليتأكد من سلامته.
    أما أنا، فقد تلقيت صفعات وركلات لا تعد ولا تحصى!
    بعد عدة شهور، وأثناء وجودي في الزنازين، كنت أبصبص من تحت باب الزنزانة، فرأيت ملامح العميل التي حفظتها غيباً، لقد تأكدت منه أثناء خروجه من الزنزانة عشرين إلى الحمامات، لأبدأ من تلك اللحظة في إرسال الأمسيات له، والحديث معه كبطل، حتى اطمئن لي، فتعرفت على اسمه، إنه من سكان حي الأمل في خان يونس.
    يتبع

  3. #3
    (17)
    سكران في التحقيق
    من اللحظة الأولى أدركت أنني في ورطة كبرى، حتى قبل أن أقف بين يدي ثلاثة متوحشين جاءوا خصيصاً من سجن غزة إلى سجن سجين، ليبدءوا السؤال: هل كنت فاكر نفسك أشطر من المخابرات الإسرائيلية؟ هل ستنكر بعد الآن؟ أين الرسائل السرية يا فايز؟
    كان على دماغي أن يعمل بسرعة البرق، كيف أرد على هؤلاء؟ ماذا أقول؟ هل اعترف لهم بوجود الرسائل لدي، وأتخلص من عذاب شديد، ولاسيما أن الرسائل خاوية، وتخلو من أي أسرار، فهي تحتوي على معلومات ثقافية وتحاليل سياسية، ولن يتضرر منها أحدٌ؟
    وسألت نفسي بسرعة: لو اعترفت لهم بالرسائل، وتحملت عقوبة خطأي سنة في السجن على أقصى تقدير، فماذا أقول لهم لو سألوا: من الذي جلب الرسائل من عمان إلى غزة؟
    لم يطل صمتي، ولم أتردد، لقد قررت الانكار، وتحمل تبعية ذلك، وكان ردي السريع على المحققين: لقد حاولت أن أظهر نفسي بطلاً أمام ذلك السجين، لا أكثر ولا أقل.
    لم يستمع المحققون لدفاعي عن نفسي، لقد أمسك "أبو ربيع" بالكيس، وألبسه في رأسي، ولملم أطرافه السفلية في قبضته، وضيق الخناق على عنقي، وراح يهز رأسي المحشور بالكيس يميناً وشمالاً، في تلك اللحظات كان المدعو "أبو مفيد" يمسك بحلمة صدري الأيمن، وكان "أبو رشدي" يمسك بحلمة صدري الأيسر، وبدءا يوجهان الضربات القوية أسفل صدري، لقد شعرت بأصابع المجرمين تنتزعان حلمتي صدري، لتشتعل مكانهما النيران.
    عند مساء يوم الاثنين 26/5، شعرت أنني سأنهار، وأسقط على الأرض، من شدة العذاب، لقد ارتجت الدنيا من حولي، وأحسست أن جلدة ذقني، وهو المكان الأقرب لقبضة يده المحقق على الكيس، أحسست أن جلدة ذقني قد ذابت من الحركة المتواصلة السريعة.
    بعد سنين، حين التقيت بالشيخ أحمد ياسين في مستشفى سجن الرملة سنة 1989، وكان الشيخ تحت التعذيب في تلك الفترة، وتدهورت حالته الصحية، وجرى نقله لليلة واحدة إلى المستشفى السجن، لقد كان سريره قرب سريري، وكان كلانا مقعداً، لا نقوى على الحركة.
    بعد أن تعرف علي الشيخ، واطمئن لي، طلب مني أن أغلق القميص على صدره.
    تحاملت على نفسي، واقتربت منه ولاحظت أن حلمتي صدر الشيخ أحمد ياسين رحمه الله قد اختفتا، وحل محلهما بقعتي دم، في مشهد ذكرني بما حل بي في سجن جنين.
    عند مساء يوم الاثنين 26/5 بان التعب على المحققين، لقد انتهت فترة خدمتهم، فغادر اثنين منهم سجن جنين، وهم يتوعدون باللقاء معي هنالك في سجن غزة، ولم يسهر معي في تلك الليلة إلا المحقق أبو ربيع، الذي كان منهكاً، فجلس على الكرسي طوال الليل، يبادلني أطراف الحديث، ويتجرأ في بعض الأوقات على اللكز والركل بكل ما تبقى له من قوة.
    في الليل، سادت فترة من الصمت، كنت خلالها فرحاً، فقد تجاوزت حاجز الخوف، واحتملت موجة العذاب المكثف، وارتحت للهدوو، فالمحقق أبو ربيع لا يحدثني، ولا يفعل شيئاً، حتى هيئ إلي أن الغرفة خالية، فقرضت الكيس، وبصبصت من خلال الثقب، فلم أبصر إلا مكتباً وكرسياً خاوياً، وأبصرت ملفاً مفتوحاً تملؤه الأوراق.
    بسرعة البرق أنزلت يدي المقيدتين من خلف ظهري، ووضعتها من الأمام، ونزعت الكيس عن رأسي، ونظرت في الملف المتواجد على المكتب، لعل وعسى أعرف شيئاً عن ملفي الشخصي، لكنها أوراق باللغة العبرية؛ وكنت لا أفهم منها شيئاً في ذلك الوقت.
    في تلك اللحظات من الانفراد وسوس لي الشيطان أن أمزق الملف، وقبل أن أمد يدي إليه، أبصرت علبة سجائر وقداحة على زاوية المكتب، فخطر في بالي حرق الملف بالكامل، إنه تفكير جنوني أنقذني منه المحقق أبو ربيع الذي دخل الغرفة، وأنا على هذه الحالة، وقال جملة حفظتها عن ظهر غيب، قال: "أتا سكران". فقلت له: أنا لا أشرب، ولا أسكر.
    استدعي المحقق الحراس، وطلب منهم تقييد أرجلي، ووضع يدي مقيدتين وراء ظهري، ووضع الكيس على رأسي، واستعان بمحقق آخر من سجن جنين، كي يساعده في العمل.
    ظل أبو ربيع وصديقه يضربان رأسي بالشبشب طوال الليل حتى صباح يوم الثلاثاء، حين جاء السجان، وأنزلني عن الدرج، لأصعد إلى عربة الترحيلات إلى سجن غزة، ممزق الصدر، منتفخ الرأس، تنزف الدماء من ذقني.
    لقد عرفت فيما بعد ان جملة "أتا سكران" باللغة العبرية تعني: أنت فضولي.


    أشير إلى تعليق الأخ جمال أبو عامر المنشور في صفحتي، تعقيباً على ذكر اسمه في الحلقة (15) في سجن جنين غرفة نوم وسجائر.
    Jamal Amer






    لقد صدقت أخي فايز و أذكر رحلة العودة من سجون الضفة الغربية إلى غزة عبر سيارة فورد ترانزيت و مما أذكره عندما كنا سويا مشبوحين في حمامات المسلخ في سجن غزة و كانت لحظات صعبة لكنها أبقت آثارها من الصلابة و التحدي لدى مرتاديها ... لكن طبعا ?بد من تصحيح معلومة و هو ما يتعلق بقولك أني كنت محسوبا على الجبهة الشعبية و الأمر فيه لبس فأنا لم أكن أبدا من الجبهة و كل ما في الأمر أنه كان صديقي الشخصي و هو سمير سلامة رحمه الله منتميا للجبهة و طلب مني مساعدته في مهمة قتل عميل من خان يونس و ? داعي لذكر اسمه حفاظا على مشاعر عائلته ... المهم في الأمر وافقت على مساعدته لأسباب و دوافع وطنية مني .. لكن الأخوة في الجبهة الشعبية في السجن أرادوا مني أن ألتزم لديهم و قد رفضت ذلك رفضا باتا و بينت لهم أنني أنتمي للتيار الإسلامي و لا مجال للإلتزام بالجبهة و كانت مواجهات و مشاكل مع التنظيم حتى أقروا بحقي و بخياراتي بعد عدة شهور و لذلك لزم التوضيح . و أشكر الأخ د. فايز أبو شمالة على سرده لمذكراته المفيدة .

  4. #4
    (18)
    الموت في التحقيق غرقاً
    لم أهتم بوجع الرحلة من سجن جنين إلى سجن غزة، لم أتوجع من حرارة حديد السيارة الذي أحرق جسدي، ولم أهتم كثيراً بالجوع الذي ينهش أحشائي، فالطعام ترف في مثل حالتي، رغم أنني لم أذق شيئاً منذ يوم الأحد.
    لقد كان بالي مشغولاً بما ينتظرني في مسلخ غزة، فماذا سيفعل بي هؤلاء المحققون؟ وهل سيصدقون أنني بريء بعد أن صار في يدهم الدليل؟ إلى متى سأصمد؟ إلى متى سأحتمل هذا العذاب؟ لماذا لا أعترف وأزيح عن صدري الحزن، ولاسيما أنني في قبضة اليهود، ولن يسمحوا لقوة على وجه الأرض بالتدخل لمساعدتي.
    ثم أقول لنفسي: لن أعترف، فالاعتراف عن الرسائل سيجر إلى اعتراف عن الشخص الذي أوصل لي الرسائل، والمحقق اليهودي مثل ضبع جائع، سيهيج لرائحة المعلومات، وسيطلب مني المزيد والمزيد، وكل حرف ينفتح عنه فمي فيه خراب لبيوت.
    طالت الطريق من سجن جنين إلى سجن غزة، وأنا في صراع عنيف بين الاعتراف وعدم الاعتراف، طالت الطريق حتى وصلت سجن غزة بعد العصر، وبدل أن يجلسني المحقق في المسلخ، ويعطيني بعض الطعام، أخذني السجان مباشرة إلى الحمام، وربطني هنالك بالمواسير.
    أدركت أن ليلي طويل بين عذاب جسدي وعذاب نفسي، حتى إذا جاء صباح الأربعاء 28/5 أدركت مأساتي في ذلك اليوم، حين وجدت نفسي وحيداً مقيداً في غرفة التحقيق وأمامي كل من "أبو عنتر"، و"أبو ربيع"، وأبو رشدي، و"أبو الوليد" ومحقق آخر اسمه "أبو رمزي".
    كنت أقف وسط المحققين مثل ثور تشحذ له سكاكين الذبح، كان بصري يتجه بفزع إلى المحقق "أبو ربيع"، الذي أمسك كيساً من النايلون المقوى، وفتحه بيديه، وانتظر حتى صب فيه ابو عنتر كمية من الماء، عندها رفع أبو ربيع الكيس ليضع رأسي فيه، ولكنني زغت بحركة سريعة، وقد ساعدني طولي على ذلك، فأفشلت العملية.
    بعد ذلك صعد أبو ربيع على الطاولة، وفي يده الكيس، وراح أبو عنتر يصب الماء، ليدفعني باقي المحققين قريباً من الطاولة.
    وفي لحظة كلمح البصر، وضع أبو ربيع الكيس الممتلئ بالماء فوق رأسي، وكي لا تسيل المياه من الكيس، أحكم أبو ربيع قبضته أسفل الكيس عند عنقي، فصرت غريقاً!
    أنا الآن أغرق في البحر، أنا أموت غرقاً، أحاول أن ألتقط أنفاسي، ولكن دون جدوى، أنا أغرق، أحاول فأشرب من الماء الموجود في الكيس، حتى نجحت بأخذ شهقة هواء.
    رفع المحقق أبو ربيع الكيس عن رأسي، بعد أن سال ما ظل فيه من ماء على كتفي، وقال ساخراً: هل ستعترف؟ قلت: لا شيء عندي!
    عاود أبو ربيع المحاولة مرة ثانية، وعاود المحاولة مرة ثالثة، وهكذا ظل أبو ربيع يعاود استنساخ الموت غرقاً باحتراف شديد.
    في تلك اللحظات خطر في بالي شاطئ بحر خان يونس، لقد أنقذت من الغرق عشرات الأولاد والبنات والنساء والرجال، كنت مزروعاً على الشاطئ كل ساعات النهار، وكأن الله سخرني في تلك الأيام لأنقذ من يغرق، فمن ينقذني اليوم؟ ما أصعب الموت غرقاً!
    بين كل موجة من الغرق وأخرى، كان أبو ربيع يردد على مسامعي كلاماً مخيفاً، كان يقول: لا نريدك ميتاً، سأوصلك إلى حافة الموت، وأعيدك ثانية إلى الحياة، أنا الذي يحي ويميت، ستموت ألف مرة، ولكن ستظل حياً! ومتى أردت لك الموت، ستموت.
    وبين موجة تعذيب وأخرى أقول لنفسي: إلى متى أنت صامد؟ كم مرة ستحتمل الموت غرقاً؟ هل أنا عنيد إلى هذا الحد، أم أنني غبي؟ أم أنني خائف من نتائج الاعتراف؟
    كنت أقف وسط المحققين مبلل الصدر والكتفين، وكان نهار ذلك اليوم قد انتصف، حين اقترب مني المدعو "أبو رمزي" وراح يطوف من حولي، ويدندن بألحان عبرية، حتى إذا سرحت مع حركاته، أطبق فجأة بأصبعيه على حنجرتي، فجحظت عيناي، وتدلى لساني، لقد مت!.
    لا أعرف متى رجعت من الموت، ولكنني صحوت وأنا ممدد على الأرض، لا أقوى على بلع ريقي، وجسدي يرتجف، وحولي يرقص خمسة محققين يهود.
    منذ ذلك التاريخ وحتى يومنا هذا يعاودني وجع الحنجرة في شهر مايو من كل عام!!.
    أخذ المحققون قسطاً من الراحة، وعادوا بعد ظهر ذلك اليوم لممارسة مهنتهم، فطرحوني أرضاً، كانت وذراعي مقيدتان من الخلف، كان أبو عنتر يقف على بطني، وكان أبو الوليد يضغط على الخصيتين، وركب أبو ربيع على صدري، وراح يكتم أنفاسي ببشكير مبلل بالماء.
    كنت أحاول أن أفتح فمي لأخطف جرعة هواء، وكان أبو ربيع يغلق فمي بكلتا يديه ليكتم أنفاسي، وأنا أحرك رأسي لأفتح فمي، بينا يضغط أبو ربيع بقوة يديه ليغلق فمي، في الوقت الذي كان فيه أبو رشدي يثبت رأسي بقدميه، بعد عدة محاولات من فتح فمي، وقعت شفتي السفلى بين أسناني، ليضغط أبو ربيع بكل قوته، لقد تمزقت شفتي بأسناني، وسال الدم.
    وعند المساء كنت مربوطاً بالمواسير تعباً جائعاً مرتبكاً وأرتجف من البرد.
    يتبع

  5. #5
    (19)
    بيض مقشر في التحقيق
    ما أطول الليل على الأسير! بل ما أصعب الليل على المقيد بالمواسير، ولا يعرف ما حل بجسده، لقد كنت أمد لساني إلى شفتي أتحسس الجرح، فأتوجع، كنت أحس أن شفتي قد تضخمت، وأن نصف وجهي الأيمن يلتهب ناراً، لقد ازداد الوجع مع حرارة جسدي العالية.
    حتى إذا جاء صباح يوم الخميس 29/5 كنت في مواجهة المحققين ثانية، ليتكرر التعذيب غرقاً بالقدر نفسه الذي حصل يوم أمس، فصار الغرق والخنق والضغط على الخصيتين أمراً مألوفاً، ولكنني كنت حذراً من أبو رمزي، فلم أمكنه من حنجرتي.
    عند الظهيرة انتبه المحققون إلى وضعي الصحي، وراحوا يصفون حالتي بالسيئة، ويرقبون انتفاخ وجهي، حتى أن المحقق أبو رشدي خرج من الغرفة وعاد وقد أحضر معه مرآة، ووضعها أمامي كي أرى وجهي. يا للهول، لم أعرف من هو الشخص الذي رأيته في المرآة، هذا ليس أنا، إنه مخلوق آخر على هيئة مسخ، وجه منتفخ من الجهة اليمني، ووجه عادي من الجهة اليسرى، وشفة ممزقة تتدلي كشفة بعير، وذقن طويلة من الجانبين، وناحلة من الأمام بفعل حركة الهز، وعيون غائرة مملؤة بالقذى، هذا ليس أنا، لقد ارتعبت من منظري المتوحش، ولم أجد جواباً حين قال لي المحقق، ألا ترى أن وجهك يشبه وجه القرد.
    الغريب في الأمر أن المحقق أبو عنتر قام بتصويري وأنا على هذه الحالة، ولا أعرف حتى اليوم ما الهدف من تلك الصورة!
    حاول المحققون في ذلك اليوم التأثير علي من خلال الكلام، حتى أن أحدهم قال لي: أنت مجنون، لدينا في المسلخ عشرون موقوفاً، حتى الصباح يكون جميعهم قد اعترف، ونزل إلى الزنازين، ولم يبق عندنا أكثر من عشرين يوماً إلا أنت وثلاثة مجانين مثلك، اعترف وارحم نفسك، انظر لحالك، وماذا حل بك، فحرارة جسمك مرتفعة، ووضعك الصحي يستوجب طبيباً، لقد أخرجني المحقق من الغرفة، وطلب مني أن أعد الموقوفين في المسلخ، كي أتأكد أنهم عشرون، وذلك قبل أن يأخذني إلى طبيب السجن.
    فحصني طبيب السجن بعناية، وأشهد أن الطبيب اليهودي قد شخص حالتي بشكل صحيح، وأكد أن الالتهابات ناتجة عن تلوث جرح الشفة، وهذا هو السبب في ارتفاع الحرارة، وكتب الطبيب لي ثلاثة أنواع من المضادات الحيوية، ثلاث مرات في اليوم.
    لقد رأيت الدواء في يد المحقق، وانتظرت أن يعطيني إياه، وهو قال: هذا هو العلاج الذي كتبه لك الدكتور، عليك أن تأخذ الان ثلاثة اقراص، ولكن الشرط هو أن تعترف.
    كان ردي السريع: لا شيء عندي!
    فما كان من المحقق إلا أن لقى بالعلاج في سلة الزبالة، وهو ينادى على السجان أبو جميل، ويطلب منه أن يقيدني بالمواسير.

    كنت مقيداً في المواسير حين اقترب موعد الإفطار في رمضان، كنت تعباً وجائعاً وأرتجف لحرارة جسدي المرتفعة، ولم أكن قادراً على تحريك رأسي، كي أثقب الكيس، وأشاهد ما يجري حولي، كنت في غيبوبة عن الواقع، مهموم، مشغول بنفسي، عندما جاء اثنين من أطفالي، وهما إبتسام وبسام، وأمسك كل واحد منهما بيد، ووقفا صامتين بالقرب مني.
    قلت للصغيرين في ذلك الوقت: أنا بخير، هل رأيتم؟ أنا بخير، هيا اخرجا من المكان، كي تستقلا سيارة على وجه السرعة، خشية أن تتوقف حركة المواصلات مع الإفطار.
    ظل الطفلان صامتان، ولا يتحركان، ولا يستمعان لكلامي.
    عندها قلت لبسام ابن سبع سنوات، خذ أختك إبتسام ابنه الخمس سنوات، واسمع الكلام، خذها، وعودا إلى البيت بسرعة، فالمواصلات في هذه الساعة من غزة حتى خان يونس صعبة، وإن تأخرتما فلن تجدا مواصلات، هيا يا بسام، هيا يا إبتسام.
    وحين لم يستجيبا لي: صرخت عليهما بصوت عالٍ: اذهبا بسرعة، هيا، هيا يا أولاد.
    صحوت من حالة الهلوسة على صوت السجان، يقول لي: شكت.
    لقد تضاعف وجعي في ليلة الجمعة 30/5، وقرصني الجوع، وارتجف جسدي مع الحرارة، كانت ليلة شاحبة، لولا أن الحارس في تلك الليلة كان شخصاً جديداً، جاءني ورفع الكيس عن رأسي، وشاهد منظري، فظهر عليه التأفف والشفقة، وسألني: ما تهمتك؟
    قلت له: أعمل مدرساً، ومتهم بالحديث للطلاب في السياسية، هذه تهمتي.
    قال: هل أكلت، فقلت: لا
    وضع السجان الكيس على رأسي، وغاب قليلاً، ولما عاد، كان في يده بيضة مقشرة ومسلوقة، وقال لي بالحرف الواحد: افتح فمك يا طويل،
    فتحت فمي، فقذف السجان البيضة المقشرة من بعيد، فقد كان منظري منفراً.
    بعد قليل، عاد السجان، وفي يده بيضة أخرى، وقال: افتح فمك يا طويل، وقذف البيضة، فالتهمتها في الحال، فقد كنت محروماً من الطعام أربعة أيام.
    لقد أعجبت السجان لعبة البيض، فكررها عدة مرات.
    يتبع

  6. #6
    الحلقات الثمانيةالاولى:

    • أيها القارئ العزيز،حين أنشر تجربتي في التحقيق لا أنشد إثارتك، ولا أدعي البطولة، فالبطولة موقف يحتكم إلى درجة وعي الإنسان للحالة التي يعيشها، ولا أسعى لكسب ودك، ولا أرغب في تسليتك، ولا اطلب منك دمعة حزن، ولا انتظر ثناءً، ولا أخشى ملامة، فلا مطمح لي بكل ما يلهث إليه الآخرون، فقد تجاوزت في تجربتي مرحلة الخوف والطمع. أنشر تجربتي في التحقيق بدقة وصدق وأمانة كي يستفيد منها من لم يبدأ المعركة بعد. (1)عندما وقعت في فخ المخابرات الصهيونيةد. فايز أبو شمالةعلى غير العادة، لاحظت تحرك مجموعة من الجنود الإسرائيليين شرق بئر الوكالة في مخيم خان يونس، كان منظر الجنود يوحي بأنهم ينتشرون بهدف محاصرة المنطقة التي يتواجد فيها بيتي، تعالت دقات قلبي، وزاد انفعالي، وحسبت أنني المطلوب لهذا الجيش، ولاسيما أن المخابرات الإسرائيلية قد اعتقلت قبل عدة أيام بعضاً ممن عملت معهم عسكرياً .كانت الساعة الحادية عشر ليلاً حين صعدت على سطح أحد بيوت الأقارب في المخيم، ورحت أراقب تحرك الجنود بحذر شديد. فقد كان من عاداتي ألا أدخل البيت قبل الثانية فجراً، فقد كنت أخشى ما أخشاه أن يفاجئني رجل المخابرات وأنا نائم، لذلك حرصت أن أظل في كل ليلة خارج البيت حتى الثانية بعد منتصف الليل، لأضع رأسي على الوسادة، وأنام مثل الذئب الذي تراقب أذنه كل حركة، حتى صرت خبيراً بمحركات السيارات؛ أميز بين صوت سيارة المرسيددس من صوت سيارة النقل من صوت عربة الجيب العسكري.ظل الصمت يلف المنطقة ثلاث ساعات، وكأن لا شيء غير مألوف في ليل مخيم خان يونس، حتى خيل إلي أن الجنود قد انسحبوا دون أن أشعر، ولكنني لم اطمئن رغم الهدوء الذي يلف بيتي، فقد أوصيت أمي أن تشعل الضوء في ساحة البيت إذا جاء يوماً الجنود الإسرائيليون. عند الساعة الثانية فجراً تنفست الصعداء، فقد بدأ الجنود الإسرائيليون المحاصرون للمنطقة بالانسحاب، وبدأت العربات المجنزرة المتواجدة في شارع البحر مقابل مركز التغذية بالتحرك في اتجاه الغرب، بشكل يؤكد أنهم يئسوا في إلقاء القبض على ضالتهم.لمزيد من الحذر، انتظرت في مكمني حتى الساعة الثالثة فجراً يوم الثلاثاء 8/5/ قبل ثلاثين عاماً، انتظرت ساعة وأنا في غاية الاطمئنان بأن القوات الإسرائيلية قد انسحبت من المكان، لأبدأ عند الساعة الثالثة فجراً التسلل إلى بيتي، بهدف تجهيز نفسي ببعض الأشياء، والتوجه بسيارتي "فيات 128" مباشرة إلى شاطئ بحر رفح، والنزول إلى الماء، والسباحة غرباً عدة كيلو مترات، بعيداً عن عين المراقبة البحرية الإسرائيلية، ومن ثم التوجه جنوباً، لأخرج قبل انبلاج الفجر على الشواطئ المصرية، فقد كنت أعددت خطتي مسبقاً، ودرست المكان جيداً، وكنت أتمتع بقوة جسدية خارقة، وكانت لدي قدرات مذهلة للسباحة في كل الظروف، وقد اكتملت لدي في تلك الليلة التي حاصرها الجنود الإسرائيليون القناعة بضرورة عدم تسليم نفسي مهما كلف الأمر.كان لبيتي أربعة أبواب تطل على أربع جهات، ولكنني في تلك الليلة اخترت الطريق التي تأتي على البيت من وسط المخيم الغربي، وكانت تمر عبر زقاق بعرض مترين، فيه باب من الخشب يفضي إلى مطبخ البيت.كنت أرتدي جلابية بلا شباح داخلي، وكان في جيبي ليرة إسرائيلية واحدة، وعلبة سجائر تبقى منها سيجارة واحدة، وقداحة، وكانت خطواتي للبيت واثقة سريعة جريئة لا تلوي على أي شيء يحول دون تنفيذ خطتي، كنت أنوي إلقاء نظرة وداع على أطفالي الخمسة وقتئذٍ، والمغادرة بسرعة، ولم يخطر في بالي أنني قد وقعت في الكمين وسط عشرات البنادق المصوبة بخشونة على رأسي، والتي تشكشك من حولي، مع صوت باللغة العبرية يقول لي: تعمود، تريم يديم لماله، رفعت يدي إلى أعلى وقد أدركت أنني قد وقعت في الفخ، فقد كان انسحاب الجنود قبل ساعة مجرد خدعة يهودية، وكانت مغادرة المجنزرات للمكان خدعة مخابرات.قادتني البنادق الإسرائيلية المصوبة حتى غرفة نومي، كي أحضر بطاقة الهوية، وحين تأكد الضابط من الاسم، قال لي: وقع على شهادة بأن الجنود الإسرائيليين لم يأخذوا من بيتك أي شيء. رفضت التوقيع، إيذاناً ببدء المواجهة التي لم تنته بعد.وقتها لف أحد الضباط يدي خلف ظهري، ووضع فيها كلبشة بلاستك مقوى، ووضع على عيني غطاء، وقادني الجنود إلى المجنزرة التي كانت تنتظر عند نهاية المخيم الغربي، لتبدأ من تلك الليلة رحلة ميلاد شخصيتي الجديدة في السجون الإسرائيلية.
      (2)اليوم الأول في التحقيقكانت السيارة العسكرية التي اختطفتني تطوي المسافة سريعاً بين مدينة خان يونس ومدينة غزة حيث السجن المركزي، وكان عقلي يطوي المسافات بين جوابي المقنع وسؤال رجل المخابرات القاطع، فبماذا أجيب رجل التحقيق؟ وما النتيجة التي ستترتب على كل جواب؟ لقد قررت من اللحظة الأولى أنني لا أعرف شيئاً، ولا علاقة لي بأحد، وأنني أتحدث في السياسة، وأحرض طلابي على المقاومة، ولكنني لا أقاوم. ومع ذلك، تمنيت في تلك اللحظة أن تصطدم السيارة العسكرية بلغم أرضي يفجرها، وتتفجر وأنا فيها، حتى لا أصل إلى سجن غزة المركزي، فما أقسى تلك اللحظة التي يقع فيها الإنسان أسيراً، يغمض عينه على المجهول ويفتحها على القيود، والتوتر، والخوف، والحيرة، والفشل، والظن السيء بالآخرين حتى الشك.مع الفجر وصلت إلى غرف التحقيق، استقبلني ضابط إسرائيلي صارم الملامح، طلب مني على الفور نزع ملابسي، وأرتداء لباس التحقيق الذي يشبه لباس عمال النظافة، إنه قطعة واحدة من القماس بمقاس صغير، وأنا رجل طويل، فكان يتوجب علي أن أحشر أكتافي في هذا الثوب بصعوبة بعد أن حشرت ساقي، ليضع السجان بعد ذلك القيود في معصمي من خلف ظهري، ويغطي رأسي بكيس من القماش المقوى، ويقودني إلى الطابق الثاني، حيث ينتظرني رجل التحقيق المناوب، الذي اكتفى بالتعرف علي، فسأل عن اسمي، وعملي، وعمري، ثم طلب مني الاعتراف له بكل شيء، وإلا فإن طاقم التحقيق ينتظرك في الصباح .وجاء الصباح، وجاء رجل التحقيق المكلف بملفي، كان ضخم الجثة، قوي العضلات، غبي القسمات، ولا يتقن إلا فن الصفع على الأذن، واللكم في البطن، والصراخ، والركوب على صدري، وممارسة العنف بتلذذ وغطرسة واستفزاز، وكان يسمي نفسه "أبو عنتر".كنت عنيداً جداً في ذلك الوقت، وكان من طبعي التحدي، واعترف اليوم أن استخدام العنف المباشر ضدي في التحقيق من اليوم الأول كان سبباً في تعزيز قراري بعدم الاعتراف، لقد أدركت أن في الانكار انتقام من هذا المحقق الغبي، وأيقنت أن الرد سيكون في حبس المعلومة، والاحتفاظ بسري في صدري حتى ولو قطعوا من لحمي.
      (3)أربعة أيام في التحقيقالتحقيق الإسرائيلي سياسة، يتبادل فيه المسئولون عن التحقيق الأدوار، فبعد أن أدرك المحقق اليهودي المدعو "أبو عنتر" أنه عجز بالقوة عن انتزاع أي اعتراف، تراجع إلى الخلف قليلاً، وصار يتقدم للتحقيق معي شاب يهودي مهذب ذكي دمث، يسمي نفسه "مايكل"، كان هدف "مايكل" التأثير النفسي، وانتزاع الاعتراف بالطرق السلمية، فكان يطيل الحديث معي بالسياسية، ويناقش معي مستقبل الصراع، ونتبادل الحديث بقضايا اجتماعية وثقافة عامة، وبين كل فقرة وأخرى كان ينصحني بالاعتراف حرصا ًعلى حياتي، وخلاصاً من العذاب الذي ينتظرني على يد المحقق الذي لا يعرف لغة الحوار، لقد أدركت اللعبة من بدايتها، فأوحيت له بأنني مصدق لكل ما يقول، ولكنني لا أعرف شيئاً عما يقول.كان المحقق "مايكل" حنوناً معي، كان يسألني: هل أكلت؟ هل شربت؟ هل ذهبت إلى الحمام؟ ما أقساهم عليك!كان "مايكل" يأمر السجان بفك قيود يدي، والسماح لي بالأكل من الطنجرة التي تتواجد عن مدخل صالة التحقيق، ومن ثم أخذي إلى حمامات الزنازين لقضاء الحاجة.كنت أعرف أن قوتي الجسدي سلاحي في المعركة، لذلك كنت استغل الدقائق التي يسمح لي فيها بتناول الطعام بالتهام أكبر كمية ممكنة، حتى أنني كنت أغرف طبيخ الباذنجان بيدي الاثنتين، وأضعه فوق طنجرة الرز، وألتهم دون مضغ، فأنا أسابق حركة السجان الذي يسحب يدي عن الطعام ليضع فيهما القيود.كان الزمن المسموح فيه بدخول الحمام لقضاء الحاجة أقل من دقيقة، وكان السجان يقف على باب الحمام الذي يرتفع عن الأرض مقدار نصف متر، في الوقت الذي لا يصل ارتفاع باب الحمام إلى قامة الرجل، كان السجان يبيع زمن قضاء الحاجة في المرة القادمة بالطاعة، وحسن السلوك في التحقيق.أربعة أيام مضت وأنا على هذه الحالة، أربعة أيام أعطتني الثقة بنفسي، وعززت قدرتي على التحمل، لقد فرحت وأنا أعد الأيام، أربعة أيام من الصمود تحت التعذيب، قلت في نفسي: لن يكون هنالك عذاب أكثر مما عرفت، وطالما نجحت في الصمود لأربعة أيام، فإنني لن أضيع تعبي هباء، سأواصل الصمود لأيام وأيام، أربعة أيام هي مجال فخر وارتياح، سأحتمل ضربات "أبو عنتر" في البطن، واحتمل صفعاته على الأذن، واحتمل ثقل جسده فوق الصدر، ولن أرهب صرخاته وتهديده، فقد أثبتت الأيام الأربعة أنه يتعب، ويخرج غاضباً مهدداً، ليدخل من بعده المحقق "مايكل"، يرفع الكيس عن رأسي، ويناقشني في السياسة، وهو يبدي الحزن لما وصل إليه حالي، إنه المحقق الإنسان الذي لم يرفع ضدي يداً، ولم يهبشني بلفظ مسيء، كان يأتي إلي بعد كل جولة تعذيب عنيف بثوب النبي المخلص، يتحدث معي حتى يتعب هو، وأتعب أنا، لينسحب بعد ذلك، مفسحاً الطريق ثانية للعنف الجسدي على يد المدعو "أبو عنتر".استمرت هذه الحالة من التحقيق العنيف واللين مدة أربعة أيام متواصلة، لم أعرف ليلها من نهارها حتى يوم الجمعة، حين فتح لي السجان باب الزنزانة رقم 22 في سجن غزة المركزي، وأغلق علي الباب.فما أجمل الزنزانة! ما أوسع الزنزانة! إنها أطيب ريحاً من قصر بسمان في عمان! صار لي زنزانة طولها متران، وعرضها متر ونصف، ولي فيها إبريق ماء بلاستك، ولي فيها جردل لقضاء الحاجة، فما أهنأ الحياة في الزنزانة! أنا بلا قيود، ولا يوجد محقق هنا، ولا تعذيب، يا ليتهم يتركونني أعيش باقي عمري هنا في هذه الزنزانة، بعيداً عن لكمات أبو عنتر" وضرباته.
      (4)فرحٌ في الزنازينلم أكن أعرف عصر يوم الجمعة أن المحققين اليهود في إجازة السبت، لذلك عشت اللحظات الأولى من الزنزانة في حالة من الاطمئنان القلق، فلا أنا مصدق بنجاتي من أيدي المحققين، ولا أنا مكذب، ولاسيما أن بين يدي بطانية قذرة، فرشتها على الأرض، ومددت جسدي عليها لأول مرة منذ أربعة أيام، إنها بمثابة فرشة حرير؛ غرقت معها في نوم عميق، ما كنت لأصحو منه لولا صرخات السجناء المدوية التي تنطلق من الزنازين، وتوزع الأمسيات؛ أحدهم يصرخ: بنمسي يا زنزانة أربعة، فيأتي الرد: مليون. صوت آخر من بعيد، ينادي: بنمسي يا زنزانة 12، فيأتي الرد: مليووووون. صرخات السجناء في الزنازين تعبر عن خلاص مؤقت، وفي الصرخات حاجة إنسانية للتواصل الاجتماعي، فالصرخات إعلان حياة وسط الموت، وللصراخ هدير يكسر الصمت، ويجتاز الرتابة، وفي الصراخ تعويض عن حاجة إنسانية لإثبات الوجود، ورفض الظلم.في بادئ الأمر لم أبادل السجناء صرخاتهم، خجلت أن أرفع صوتي، وكان ردي على أمسيات السجناء لي متناسباً مع عملي في التدريس، وحتى حين جاءني صوت السجين محمد دحلان، قائلاً: بنمسي يا فايز، كان ردي عليه بصوت عادي: مساء الخير يا محمد. فلم أصرخ بلفظة "مليون" التي يبالغ السجناء في مدها، وفي طولها وعرضها. لقد طغت صرخات السجناء التي تدوي في الزنازين على لحظات القلق، ولكنها لم تنزعني من التفكير في كيفية الخلاص من عذاب المحققين، وأنا أتحرك جيئة وذهاباً في مساحة مترين من الزنزانة، وأسأل نفسي: هل نجوت حقاً، أم سأعود للتحقيق ثانية؟وسط هذا القلق المدوي لا أعرف متى نمت ثانية في الزنزانة، ولا عرفت الوقت الذي صحوت فيه على صوت رجولي شجي، كان يغني لأم كلثوم بصوت يملؤه الشجن، أغنية من كلمات الشاعر أحمد رامي، كان يقول في عتمة الزنازين: سهران لوحدي، بناجي طيفك الساري، سابح في وجدي، ودمعي على الخدود جاري. نام الوجود من حوالي، وأنا سهرت في دنياي، أشوف خيالك في عينيا، واسمع كلامك وياي، أتصور حالي أيام وليالي، مرت على بالي.قلت في نفسي: من هو هذا السجين؟ أي مبدع هذا؟ وكيف استطاع أن يعبر عن مشاعري، وربما عن مشاعر عشرات السجناء؟ كيف استطاع اختراق مكنون وجداني في هذه اللحظات التي أقف فيها على مفرق طرق بين الحاضر والماضي، وبين الحياة والموت.في صباح يوم الأحد 13/5 فتح باب الزنزانة، ووضع السجان القيود في يدي، ووضع الكيس في رأسي، وجرني إلى الطابق الثاني، حيث غرف التحقيق، لتبدأ هنالك الجولة الثانية من التعذيب، ولكن بشكل أكثر وحشية، وأشد وجعاً، ولاسيما بعد أن أدرك المحققون قوة جسدي، وأيقنوا أن عضلات بطني القوية أصلب من ركلات المحقق أبو عنتر، وأيقنوا أنني أكثر عناداً مما ظنوا؛ هذا ما اعترف فيه محقق يسمي نفسه أبو رشدي، انضم للمحقق أبو عنتر، وصار يشاركه جلسات التعذيب المكثف والمتواصل حتى يهلك كلاهما من التعب، فيأمرا السجان بربطي في ماسورة الحمام من المساء حتى الصباح.
      (5)ثقبٌ في كيس العتمةفي إحدى زوايا قسم التحقيق توجد دورة مياة، وبجوارها حمام، وهما خاصان بالمحققين، ويشرفان على مساحة صغيرة فيها مغسلة من جهة، ومثبت بالجهة الأخرى ماسورة حديد على ارتفاع سبعين سنتيمتر تقريباً، كان يقيد السجان يدي من خلف ظهري بهذه الماسورة، ولطولي الزائد عن الحد، كنت لا استطيع الوقوف، وكنت لا أقدر على القعود، كنت أقف مثني الركبتين، أو مشدود الذراعين، وكلما طال زمن الوقوف كلما ضعفت قدرة الجسد على التحمل، حتى إذا غافلني النوم، وتسلل إلى رأسي المتدلي خلسة، ويصير كل جسدي معلقاً على يدي المربوطتين، ويحبس الدم عنهما دقائق النوم، أو ساعات، لا أدري، ولكنني أدري بتلك اللحظة الرهيبة حين أصحو من غفوتي، وأرفع ثقل جسدي عن ذراعي المسكينتين، ويبدأ الدم بالتدفق إليهما من جديد، يا لهول ما أحس به من احتراق في عروقي، وكأن شهباً من النار تسري في ذراعي، جمر يتقد في دمي، مع نمنمة في ذراعين كانا ميتين لبعض الوقت، فسرت فيهما الحياة.في الصباح اليوم التالي، بينما كان السجان يمسك بي من الكيس الذي يغطي رأسي، ليجرني إلى غرفة التحقيق من جديد، اكتشفت سراً خطيراً في الكيس، فقد كان مثقوباً، وهذا الثقب الصغير يسمح برؤية الدنيا، ويفسد على المحقق غايته في عزل السجين عن محيطه.منذ ذلك اليوم صرت أحرك رأسي يميناً وشمالاً حتى تلتقي إحدى عيني بالثقب المتواجد في الكيس، منذ ذلك اليوم صرت أبصبص على الأحداث من حولي، وأعيش الحياة في التحقيق بكامل الوعي، فقد جددت الرؤية نشاطي الذهني، وأعادت لي التوازن النفسي، حتى صرت لا احتمل البقاء أعمى، حتى أنني حرصت في حالة استبدال الكيس أثناء الأكل أو النزول للحمام، حرصت أن أقرض الكيس الجديد بأسناني، وأفتح لعيني ثقباً، فلم أعد أطيق العيش في العتمة طالما كنت قادراً على التحايل، واختراقها.بعد فترة من التمتع بنعمة البصر أدرك السجان ذلك، فانهال علي بالركل، وأحضر لاصقاً، ووضعه على الثقب، كي يغلق دوني بوابة الرؤية.في ذلك الزمن كنت رياضياً بامتياز، وكان جسدي مرناً، بحيث كانت تمتد إحدى يدي المربوطتين خلف ظهري وتنزع اللاصق، وحتى لا ينتبه السجان، صرت أضع اللاصق على ارتفاع نصف مليمتر عن الثقب، كي أوهم السجان أن اللاصق لما يزل موجود، ويحول دون أن أرى، وفي الوقت نفسه أواصل التمتع برؤية ما يجري من حولي.
      (6)حمام بارد في السجنبعد نهار طويل من التعذيب، أدرك المحققان أبو عنتر وأبو رشدي أنهما لن يأخذا مني شيئاً، وأيقنا أن نزع روحي أهون من انتزاع أدنى معلومة لدي، لذلك طلبا من السجان أن يضعني تحت دش المياه الباردة.لقد فرحت كثيراً حين طلب مني السجان نزع ملابسي والاستحمام، فقد كانت رائحتي قذرة، وكنت أتأفف من نفسي، وأنا بحاجة إلى هذا الدش البارد من الماء في شهر مايو، لقد فرحت للحمام، وولكنني خجلت حين طلب مني خلع كامل ملابسي.كان الماء منعشاً، كان بارداً ولذيذاً حتى ربع ساعة، وكان الماء مقبولاً حتى نصف ساعة، وكان الماء محتملاً حتى ساعة من الزمن، ولكنني بدأت أرتجف بعد ساعتين، وبعد ثلاث ساعات صرت مثل عصفورٍ يبلله المطر، وبعد أربع ساعات شعرت أن في الدينا طوفان أغرق جسدي المرتجف بالبرد الشديد، فاصطكت معه أسناني، فما أوحش البرد! إلى متى سأبقى غارقاً تحت هذا النهر المتدفق من الماء البارد؟.بعد وقت لا أعلمه بالضبط، أخرجني السجان من الحمام، وبدلاً من ارتداء ملابسي، وضع الكيس على رأسي، وأخذني إلى مروحة مثبتة في الحائط، وراح يجفف جسدي على الهواء المندفع، لقد حاولت الهروب من الهواء يميناً وشمالاً فلم أقدر، كنت مقيداً ومنهكاً، ومقبوضاً علي بيد قوية، تجرني حيث شلال الهواء الذي ضاعف من ارتجاف جسدي.في آخر الليل تعب السجان، وألقى بي عارياً ومقيداً في زاوية من إحدى غرف التحقيق، وقام بتشغيل جهاز كهربائي في السقف، جهاز ينثر من حولي البرد الشديد، عرفت أن اسمه "المكيف"، لقد تركني السجان على هذه الحالة، وأغلق من خلفه الباب، وخرج.كنت ارتجف من شدة البرد حين نظرت من ثقب الكيس الذي يغطي رأسي، فلم أجد أحداً في غرفة التحقيق، فقط رأيت طاولة صغيرة، وكرسي، ورأيت في الغرفة قطعة من الموكيت العفن الذي تدوسه الأقدام، فما كان مني إلا أن ألقي بنفسي على قطعة الموكيت، وأمسك بطرفها، وأقوم بعملية دوران سريع لجسدي، حتى صرت ملفوفاً بالموكيت.دقيقة بعد اختفائي في قطعة الموكيت، بدأت أشعر بالدفء، وتفككت مفاصل جسدي، وأنا أقول لنفسي: تكفيني هذه الدقائق، يجب العودة إلى الوضع الذي تركني عليه السجان، وإلا فالعقاب عنيف لو دخل الغرفة ووجدني نائماً، ومتدثراً بالموكيت، يكفي، قلت لنفسي: يكفي. وبدون أن أدري، غلبني النوم، وأنا على هذه الحالة، لقد استسلمت لنوم لذيذ ربما لدقائق، ربما لساعة، لا أعرف كم هو الوقت الذي مر علي وأنا غارق في النوم الدافئ، ولكنني صحوت من النوم على صوت السجان الذي كان يصرخ بغضب، ويدوس على جسدي المحاصر بقطعة الموكيت، ويوجه إلي الركلات العنيفة الحاقدة.
      (7)الشبح في الماسورة أهون العذابيوم الأربعاء 15/5/1985 كان يوماً مميزاً في التعذيب، فبعد الشبح في الماسورة ثلاثة أيام، وبعد ليلة طويلة تحت الدش البارد، والمروحة، تم تقديمي في الصباح وجبة ناضجة للمحقق أبو عنتر، هكذا كان يظن حين بادراني بالحديث عن عذاب الليلة الماضية، وعن المفاجآت التي تنتظرني إذا لم أعترف. ولكنني لا أعرف شيئاً عما تتحدث فيه يا أبا عنتر، لا أعرف شيئا. بعد دقائق من الحديث الناعم أدرك المحقق أنني ما زلت على موقفي الثابت، فضغط على الجرس، واستدعى المساعدة من المحقق أبو رشدي، ومحقق آخر يسمي نفسه أبو الوليد، الذي فتح الكلبشة الأمريكي، ووضعها في المسافة الفاصلة بين مرفقي والكوع، ومن مميزات الكلبشة الأمريكي أنها متحركة، تضغط آلياً على الذراع كلما زاد ضغط الجسد عليها، وهي على خلاق الكلبشة الإنجليزي التي تطبق على اليد، بمستوى معين ولا تزيد.بعد أن أطبق المحقق الكلبشة، انقض الثلاثة بشكل مفاجئ على جسدي، وتمكنوا من طرحي أرضاً، ليجلس أبو عنتر الذي يزن أكثر من مئة كليو على صدري، فقد كانت مهمته تثبيتي، في الوقت الذي كان فيه أبو الوليد يقوم بصب الماء من إبريق بلاستك في أنفي، في حين كان يدوس المدعو أبو رشدي بحذائه على بطني.كانت عضلات بطني قوية جداً، ولي صور على شاطئ بحر خان يونس تثبت أنني كنت أعمل حركة الجسر، وأرفع على عضلات بطني خمسة رجال بأوزان ثقيلة، ولكن للعضلات قدرة تحمل، فعضلات البطن التي اشتدت، وحملت المحقق لفترة من الزمن بسهولة، بدأت تضعف، وتتهاوى، حتى ارتخت تحت ثقل جسد المحقق، فصار حذاؤه يغوص في أحشائي، وقد أوجعني، وأنا أحس بحذائه يلامس العمود الفقري في ظهري. كان الوجع في ثلاثة مواضع، الموضع لأول والأهم كان محاولة جلب النفس بكل قوة، والتهرب من الماء المنصب من الإبريق في أنفي، والثاني كان كيفية رفع جسدي وجسد المحقق عن ذراعي اللتين كانتا تحتي، وكانت الكلبشة الأمريكي تطبق عليهما أكثر كلما ازداد الوزن، والموضع الثالث صار في أحشائي التي تتمزق تحت حذاء المجرم.تحت هذا العذاب؛ كنت استحضر شخصية بلال بن رباح مع كفار قريش، رغم جنوحي لليسار في تلك الفترة، فأنا سليل الثقافة الإسلامية، وعقلي يردد: هذا هو يوم النكبة، نكبة شعب في الشتات، ونكبة سجين تحت التعذيب، كنت أقول لنفسي: أنا صاحب قضية، وصاحب وطن، وصاحب حق، لن أبيع وطني وكرامتي مقابل تخفيف العذاب عن جسدي، لن أكون الثغرة التي يتسلل منها الأعداء، لن انهزم بعد ثمانية أيام من الصمود وتحمل العذاب.لا أعرف كم من الوقت بقيت على هذه الحالة، ولكنني أعرف أنني تنفست الصعداء حين جرني السجان مساء اليوم للشبح في الماسورة، لقد كنت بين الحياة والموت.في الليل، فتشت عن الثقب في الكيس، كي أعيد توازن نفسي، فعرفت أن سجيناً آخر مربوطاً معي في الماسورة، وعرفت منه أنه من عائلة "أبو عون" من رفح، التقيت به بعد خروجي من السجن، وهو أخ النائب عبد ربه أبو عون، وقد كان مشبوحاً مثلي في تلك الليلة، وكان يئن من الظمأ كما قال لي، يريد أن يشرب ماءً. نسيت نفسي وأنا أسمع أنينه، فما زلت قوياً، وما زال جسدي يتميز باللياقة، بحيث اتكأت على مرفقي المشدود إلى الماسورة، ووقف على ساق واحدة، ومددت ساقي الأخرى إلى الحنفية الموجودة فوق المغسلة، وفتحتها بقدمي، ووضعت أصبع رجلي على مكان انسياب الماء، ورحت أرش الماء على زميلي في الشبح، لعل وعسى تسقط عليه بعض القطرات، فتبلل ريقه.
      (8)عندما وقعت في كمين الطعاملا أعرف حتى صباح يوم الخميس 16/5/ إن كنت قد أكلت، أو شربت، أو قضيت حاجة، كان تفكيري ينصب على اجتياز مرحلة العذاب دون اعتراف، وفي ذلك اليوم مرت ساعات الصباح وأنا مربوط بالمواسير، فلم يطلبني أحد لا للتحقيق ولا للتعذيب، وفي تقديري أن هذه الحالة من السكون كانت السبب في شعوري بالجوع.جوع شديد يستنفر خلايا جسدي فأشتهي، وأتذكر الطعام، ما ألذ الطعام! متى يتذكرني السجان؟ متى يجرني من الكيس إلى حيث الطنجرة؟ متى؟ وكانت المفاجأة بعد الظهر، حين فك السجان يدي، وأخذني حتى مدخل الدرج، المكان الذي يضع فيه العمال الطعام، وكانت المفاجأة حين رفع الكيس عن رأسي، وقال: لتأكل بسرعة.كانت الطنجرة كبيرة، وكان نصفها رز مفلفل، وفوق الرز قطع صغيرة من صدر الدجاج، ربما كان في الطنجرة عشرون قطعة أو يزيد.وبدون أن أدري، وبلهفة، صرت أضع قطعة من لحم الدجاج على كبشة من الرز، وألتهم بسرعة، وعيني لا تفارق السجان الذي جلس على الكرسي بعيداً، يتحفز لوضع القيود في يدي، لذلك صرت أسابق الزمن، وأنا ألقي بالطعام في جوفي سريعاً، حتى انتهت دقائق الطعام، فجاء السجان، وألقى نظرة على الطنجرة، وصرخ: يا مجنون، أكلت أكل عشرين سجيناً! وبدل أن يربطني في الماسورة، أخذني إلى غرفة المحققين، وأخبرهم بما تم، فكانت فرصتهم لينقضوا على إحشائي بالركل والضرب، وهم يهددون بإخراج الطعام من أحشائي بالقوة، لقد كنت واقعاً تحت وجعين، وجع تعذيب المحققين النازل على جسدي، ووجع تأنيب الضمير، إذ كيف أعتدي على طعام سجناء، هم بحاجة إلى الطعام؟ لم أكن أعرف أن كل قطعة صغيرة من لحم الدجاج مخصصة لسجين، ولم أكن أعرف أن امتلاء البطن نقطة ضعف في التحقيق، لقد تعلمت درساً، حين أخرجني السجان من غرفة المحققين أجرر ساقي، ليطلب مني الجلوس في صالة التحقيق ووجهي للحائط.دقائق معدودة تمكنت خلالها من قرض الكيس، وفتح ثقب قريب من عيني، ورحت أراقب ما يجري من حولي، لقد رأيت أكثر من عشرين سجيناً يجلسون مثلي في الصالة، أيديهم مربوطة من الخلف، يغطي رأس كل منهم كيس، ووجوه الجميع مثبتة على الحائط. في تلك اللحظات نظرت إلى قدمي، فارتعبت من حجمها، إنها منتفختان جداً، إنهما مثل خف جمل، أعاود النظر إلى قدمي من ثقب الكيس، ولا أصدق أن هاتين القدمين لي، نعم، الآن أدركت لماذا كنت أشعر أنني أدوس على كومة من القطن حين كنت أمشي.لم أكن أعرف في تلك الليلة أن عمودي الفقري كان مستهدفاً، ولكنني شعرت بجلبة خلف ظهري، وأحسست بيد السجان وهو يرفع الثوب بين كتفي، ويضع قطعاً من الثلج، تنساب حتى أسفل الظهر، في البداية حسبت أن السجان يسلي نفسه، فاحتملت، ولكن حين عاود وضع قطع الثلج من جديد، أدركت أنني أقيم في ثلاجة تمتص حرارة جسدي بالتدريج، لقد ارتجفت من البرد، وازدادت الرجفة مع كل كومة ثلج يضعها فوق ظهري فتذوب، وتنز تحتي، حتى صرت أقعد فوق بركة من الماء، بشكل يوحي بأنني قد بلت على نفسي .ظل السجان يجلب الثلج ويدخله بين كتفي حتى اقترب الفجر، وقتها انتهت كمية الثلج الموجود في ثلاجات السجن، هذا ما أخبرني فيه السجين سمير سلامة رحمه الله، حين قال بعد ذلك على مسمع من السجناء: ليلة كاملة وهم يضعون الثلج في ظهر هذا الرجل، وعند الفجر سمعت السجان يقول لزميله بالعبرية: لقد خلص الثلج من السجن!.






  7. #7
    (20)
    أنا الذي رسم الخطة للمخابرات الإسرائيلية؟!
    مع بداية العمل صباح يوم الجمعة 30/5، أخذني السجان إلى غرفة التحقيق، وأنا في غاية المرض، لقد كان وجهي منقسماً إلى قسمين؛ فقد كانت جهة الشمال من وجهي عادية مثل بقية البشر، أما جهة اليمين من وجهي فقد كانت متضخمة جداً، وينز منه الصديد والدم مجرد تحريك الكيس، كنت ارتجف من الحرارة، وتخلت عني قواي التي ساندتي على مدار 23 يوماً.
    بدأ اليهودي أبو عنتر التحقيق في ذلك اليوم على عادته بالصراخ والشتم وسب الدين، ولكن حين رفع الكيس عن رأسي، ورأي وجهي، تأفف، وبان القرف في عينيه من منظر وجهي، فلم يرفع يده علي، وخاف أن تصيبه العدوى كما قال، وألبس الكيس في رأسي ثانية، وركلني بحذائه، وتركني مهملاً في غرفة التحقيق، لا أقوى على الوقوف.
    بعد الظهر وجدت نفسي محاطاً بعدد من المحققين، بعضهم يبدي شفقة على حالي، وينصحني بالاعتراف، وأخذ الدواء، والتخلص من العذاب، وبعضهم يهدد بجولة جديدة، ويهيئ المكان، ويجلب الماء، لقد تواجد في غرفة التحقيق في ذلك الوقت كل من أبو ربيع، وهو متخصص بالخنق وكتم الأنفاس، وأبو الوليد، وهو المختص بالضغط على الخصيتين، وأبو رمزي، وهو المتخصص في الإطباق على الحنجرة، وأبو رشدي، وهو المتخصص بالتخبيط في البطن، وكان أبو عنتر الذي ينحصر عمله بمساعدة الجميع، والإمساك بجسدي.
    ضمن هذا المشهد الذي ينبئ بالويل، قررت الاعتراف بوجود الرسائل، ولكنني انتظرت الفرصة المناسبة، كي أعطي الانطباع بأنني ما زلت قوياً، انتظرت حتى قال "أبو ربيع": كل ما نريده منك أن تعترف بالرسائل، كي نضمن لك سنة سجن، وبعدها خذ دواءك.
    قلت له: موافق، سأعترف بوجود الرسائل، إنها عندي في حاكورة المنزل.
    صفق المحققون، هللوا، ورقصوا، وهتفوا للنصر، واستمعوا لاعترافي فرحين، حتى إذا جاءوا على السؤال الذي أعددت له نفسي جيداً: من الذي أحضر لك الرسائل من عمان؟
    قلت: أم فلان، وهي عجوز يتجاوز عمرها السبعين عاماً، عادت من عمان قريباً.
    ورغم ثقتي بأن المخابرات الإسرائيلية لن تعتقل عجوزاً؛ لا تقرأ، ولا تكتب، ولا تعرف شيئاً عما قامت بنقله، رغم ذلك فقد كنت خجلاً أمام المحققين من نفسي.
    بعد الاعتراف، فك أحد المحققين قيودي، وأحضر آخر إبريق الماء، وأعطاني محقق آخر الدواء، واستدعوا شرطياً يوثق أقوالي، وأبصم عليها بأصابعي العشرة.
    حين أخرجني المحقق من الغرفة، وأوصى السجان بأن يطعمني، رفضت الطعام، فقد كنت متقززاً من نفسي، وكنت أرغب بمعاقبة جسدي الذي خذلني، لقد جلست في المسلخ ذاك اليوم بائساً منكسراً، والكيس على رأسي يستر دموعي، التي راحت تسيل، فتحرق بملحها جراح وجهي، لقد أحسست أنني فتاة بكر قد تم اغتصابها، دون صراخ.
    كنت كئيباً عند المساء، حين أدخلني السجان غرفة التحقيق، ليبلغني المحقق بأننا سنذهب إلى بيتي لأخذ الرسائل، وحذرني من القيام بأي حركة، قد تؤدي إلى إطلاق النار.
    قلت للمحقق: لا أريد أن يراني أطفالي بهذا المنظر البشع، ولا أريد أن تراني أمي وأنا أنزف دماً، سأرسم لك الخطة التي تضمن استلامك الرسائل بهدوء وسلام.
    قال: وكيف ذلك؟
    قلت: هات ورقة وقلم، لأرسم لك الطريق، فالرسائل موجودة في الحاكورة، سنصل إليها إذا جئنا البيت من جهة الشرق، جهة بئر مياه الوكالة، هنالك يوجد كراج لسيارتي يفضي على المكان، بإمكان أحد الجنود الإسرائيليين أن يقفز من فوق السور، وأن يفتح سحاب باب الكراج، لندخل الحاكورة، وهنالك أعطيك الرسائل دون الدخول إلى البيت.
    لقد وافق المحقق على خطتي، وحذرني من أي خدعة قد تؤدي لمقتلي.
    تذكرت تلك الخطة التي رسمتها للمحقق بعد ذلك بعشرين سنة، في ليلة 1/1/2005، حين كنت أسيراً مع 11 من أفراد أسرتي، في الغرفة التي تقيم فيه أمي في الطابق الأرضي من بيتنا، حين سيطر الجنود الإسرائيليون على بيتي، يعد أن تقدمت الدبابات الإسرائيلية في اتجاه حي الأمل غرب مدينة خان يونس، لقد احتلوا بيتي، وسيطروا عليه، وفتحوا في جدرانه ثلاث فتحات، مكنتهم من أطلاق النار على سكان حي الأمل من ثلاث جهات، لمدة ثلاثة أيام، لقد اتخذوا من بيتي موقعاً عسكرياً، واتخذوا مني ومن أفراد أسرتي رهائن، وبعد أن كان بيتي يتلقى الطلقات من الموقع العسكري الموجود جهة الغرب، صار بيتي يتلقى الطلقات من رجال المقاومة الموجودين جهة الشرق.
    في ذلك اليوم قلت باللغة العبرية للضابط الإسرائيلي "نير": اسمع يا "نير"، بيني وبينك قاسم مشترك!
    قال: ما هو؟
    قلت: أنت حريص على سلامة جنودك، وأنا حريص على سلامة أفراد أسرتي، لذلك اسمح لي أن أتكلم بالهاتف، كي أخبر رجال حركة فتح، ورجال حركة حماس أنني وأفراد أسرتي موجودون في البيت، ولم نغادره.
    استغرب الضابط الإسرائيلي من حديثي، وقال: لماذا؟
    قلت: لأن المسافة بين بيتي وحي الأمل ثلاثون متراً، والأرض هنا رملية، بإمكان رجال المقاومة أن يحفروا نفقاً في غضون ثلاثة أيام، ويضعوا كمية كبيرة من المتفجرات ـ مثلما فعلوا في الموقع العسكري على طريق المطاحن ـ وقتها ستموت أنت وجنودك، وأموت أنا وأولادي، لذلك اسمح لي باستعمال التلفون كي أحذر رجال المقاومة من فعل ذلك.
    ارتعب الضابط من حديثي، وقال: انتظر.
    لقد أجرى الضابط على الفور سلسلة من الاتصالات مع قيادته، واستخدم أكثر من وسيلة اتصال كانت في حوزته، وبدا على وجهه القلق، حين طلب من الجندي المكلف بحراستنا أن يكون يقظاً، وأن يشدد الحراسة علينا.
    في الليل أجبرنا الضابط على الخروج من البيت، وكانت المفاجأة في الليلة التالية، حين انسحب الجيش الإسرائيلي من بيتنا.
    بالعودة إلى أقبية التحقيق، في تلك الليلة من نهاية شهر مايو، ركبت سيارة المخابرات الإسرائيلية مقيداً، كنت أرتجف، لحرارتي المرتفعة، وأرتجف من هول اللحظة البشعة، حين أكافئ عدوي على ما مارسه ضدي من تعذيب.
    كانت الطريق طويلة ومملة من غزة إلى خان يونس، وكان الوقت قبل موعد السحور من شهر رمضان، وكانت الشوارع خالية حين انزلقت سيارات الجيش الإسرائيلي باتجاه بيتي، لقد جرى تنفيذ الخطة كما رسمتها، شاهدت الجندي الإسرائيلي وهو يقفز عن السور، وفتح باب الكراج، لأدخل حاكورة بيتني ويدي مقيدة بيد جندي إسرائيلي، فاتجهت مباشرة إلى مكان أعرفه جيداً، نبشت في الأرض، وأخرجت الرسائل، وسلمتها لرجل المخابرات، في الوقت الذي كانت فيه عيني ترقب مكاناً آخر من حاكورة البيت، حيث كنت أخبئ سلاحاً.
    لقد أخبرتني الأسرة فيما بعد؛ أن زوجتي ولدت في تلك الليلة، وأطلقت على وليدها اسم "محمد"، وأن الجيش الإسرائيلي قد حاصر المنطقة، وجمع كل أفراد العائلة في غرفة واحدة، ومنع عليهم الحركة حتى موعد السحور، ولم يكن أحد منهم يدري ما يجري من حوله!
    ولكن أمي قالت لي: لقد شممت رائحتك في تلك الليلة.
    يتبع

  8. #8
    (21)
    وللصراخ صولة وجولة في التحقيق
    رغم أنني اعترفت، وسلمت الرسائل، إلا أن المحقق لم يأخذني إلى الزنازين كما جرت العادة، لقد أبقاني السجان جالساً في المسلخ، منكفئاً على نفسي، فلا حركات تمرد، ولا تحدٍ، ولا استجابة لحركات السجين محمد أبو شاويش، جلست مقيداً والكيس على رأسي حتى صباح يوم الأحد 1/6، حين أعاد علي المحقق سؤال سبق أن أجبت عليه: أين السلاح؟
    وكان ردي الثابت، لا علاقة لي بالسلاح من قريب أو بعيد، وكل ما لدي هو الرسائل.
    سخر المحقق، وقال: تلك رسائل فارغة، بها كلام لا قيمة له عندنا، لن نتركك حتى تعترف بكل شيء، وتخرج من هنا نظيفاً مثلما ولدتك أمك، وإن كنت مصراً على العناد، فلدينا وسائلنا، ومن ضمنها زوجتك، سنحضرها ونضعها في الزنازين مع السجناء.
    كنت أعرف أنه يهدد فقط، وكنت أقدر أن زوجتي في حالة وضع، وحكومة إسرائيل ليست غبية إلى هذا الحد الذي تجلب فيه امرأة نفاس.
    لقد صار عندي تصور كامل عن مجريات التحقيق في السجون الإسرائيلية، فتجربة 25 يوماً أكسبتني الدراية، وجعلتني متأكداً أن المحقق عنيف عنيد إذا تأكد من المعلومة التي بين يديه، وسيواصل تعذيب السجين حتى ينتزع منه الاعتراف، أما إذا كانت معلومة المحقق عن السجين غير دقيقة، فإن التحقيق لا يخترق العظم، ويظل في الجلد أو في الريش.
    وقد تلمست ذلك عملياً في الجولة الثانية من التحقيق معي، والتي بدأت من مطلع شهر يونيه بالأسلوب الناعم من الحديث والإقناع مع بعض العنف أحياناً، وقد اعتمد المحقق أسلوب تركي مقيداً على أرض المسلخ لعدة أيام، حتى أنني صرت أتمنى التعذيب على هذه الحالة من الخمول والركود والصمت الرهيب، فأنا لا أعرف ليلي من نهاري، ولا أعرف ماذا جرى لشهر رمضان؟ وهل نحن صائمون أم مفطرون؟ صمت لا يكسره إلا صراخ المحققين، وكأنهم أسودٌ في الغابة يحاولون إثارة حالة من الفزع في نفوس المقيدين.
    في تلك اللحظات من الانهاك الجسدي والنفسي سمعت صراخاً مزلزلاً يردد جملة واحدة لم تتغير كل الوقت: لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر!!!!!!!!
    لمن هذا الصوت الجهوري المدوي؟ من هذا الرجل الذي كسر رتابة غرف التعذيب؟ من صاحب هذا الصوت الذي أجبر المحقق ليشير بيده على الجندي المكلف بالحراسة بأن يأخذه، أصرفه عني، أجلسه هناك، قالها وهو متأذٍ ضجرٌ من الصراخ!!
    لقد انتبهت إلى تلك الإشارة التي ظهرت من المحقق، وأنا أبصبص من خلال ثقب الكيس، لذلك حرصت على معرفة الشخص الذي زلزل المسلخ بتكبيره وترديده: لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، وقد نجحت في معرفته أخيراً؛ إنه الشيخ أحمد نمر حمدان!!
    لقد أبرق شيب الشيخ أحمد نمر أمام عيني بالفكرة، وكأن الله ساقه كي أنقل عنه، وأقلده، ليفتح لي باب الرحمة، وأطلق لحنجرتي العنان في الصراخ، والتعبير عن التوجع مجرد الملامسة، لقد اكتشفت أن الصراخ يشفي الصدر، ويزجي الهم، ويخفف الكرب، ويريح النفس، واكتشفت أن للصراخ صدى يرتطم في وجه الآخر، الذي يعتمد الصراخ أسلوباً لإثارة الفزع.
    لقد فهمت معادلة البقاء في تلك اللحظة بشكل مختلف، وفهمت مبررات خوار الثور في الغابة في اللحظات الأخيرة من عمره، ومخالب الوحوش تطبق على عنقه، فإن لم يكن في الصراخ نجاة لصاحب الشأن، ففي الصراخ تحذير لبقية الثيران بعدم التسليم في التعايش مع الوحش، وعدم اعتبار التضحية بآلاف الثيران نصراً مؤزراً لغير مخالب المجرمين!!
    يتبع



  9. #9
    (22)
    في التحقيق: لماذا سمي الأقصى بالأقصى!
    في صباح يوم الاثنين 2/6 أخذني السجان من المسلخ، وأدخلني على غرفة التحقيق، ورفع الكيس عن رأسي، فإذا أنا أمام رجل كبير في السن، يأبى أن يلوث يده بملامسة المعتقل، رجل أشيب؛ يدقق في الملامح، ويدرس ردة الفعل، إنه كبير المحققين، وما يؤكد ذلك هو دخول وخروج المحققين إلى الغرفة، ومراجعته في بعض القضايا، واستشارته.
    موشي، هذا هو اسم كبير المحققين، كان رجلاً في الخمسين من عمره، وتعمد أن يحاورني في السياسة والثقافة العامة، بعيداً عن قضيتي العسكرية، وقد أوضحت له موقفي، وأعلنت انتمائي للشعب الفلسطيني الذي تعرضت أرضه للاغتصاب، ويتعرض أبناؤه للعذاب.
    انتقل موشي من حديث السياسة إلى الحديث عن الديانة اليهودية، وعن تاريخ اليهود، وعن حقهم في هذه البلاد، وعن الأعمال التخريبية التي يقوم فيها الفلسطينيون ضد المدنيين، وتحدث موشى عن الإسلام الذي جاء لاحقاً للديانة اليهودية.
    كنت استمع ولا أجيب حتى وصل بحديثه إلى الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وسأل عن أسباب كره النبي محمد لليهود؟
    قلت: ممارسات اليهود السلبية بين الناس، وتحريضهم على الإسلام، وتآمرهم على المسلمين، هو السبب في الكراهية، رغم أن الدين الإسلامي لا ينكر الديانة اليهودية.
    فقال اليهودي موشي: هذا كلام غير صحيح، والصحيح أن محمداً بعد وفاة عمه أبي طالب قد انتقل للعيش في بيت حاخام يهودي، وهنالك تعرف على عادات اليهود، وتشرب ثقافتهم، وتعلم من كتب اليهود الدينية، وحفظ الكثير عن أخبار اليهود، ومارس التجارة بأموالهم، حتى إذا بلغ الحلم، عشق ابنة الحاخام، وطلبها للزواج، وكان الرفض، ليترك محمد بيت الحاخام غاضباً، لقد تطور الأمر بعد ذلك من الحب إلى الكراهية لكل ما له علاقة باليهود.
    لم أرد على كبير المحققين، ولكنني أبديت اندهاشي من معلومات لم أسمع بها من قبل.
    فأضاف موشي بلغة تقريرية: إن القرآن الذي أتى به محمد مأخوذ بكامله عن توراة اليهود، وقصص القرآن تؤكد أن محمداً تربى في بيت حاخام يهودي، وتعرف على دين اليهود!
    لم أرد على موشى، فلا معنى لأي رد في هذا الجو المشحون بالترقب
    عاود موشي وسأل عن المسجد الأقصى، ولماذا سمي بالأقصى؟
    قلت: لقد جاءت التسمية في القرآن، "سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، والأقصى تعني البعيد، والمكان القصي هو المكان البعيد.
    قال: صحيح، لقد سمي هذا المكان بالأقصى لأنه المكان البعيد، ولكن ليس المقصود قياس المسافة بين مكة والأقصى، إنما المقصود بالأقصى هو بعده عن الأرض، وطالما هو بعيد عن الأرض، فهو الأقرب إلى السماء، لذلك فهو مكان الصعود في يوم القيامة.
    خرج موشي من غرفة التحقيق، وتركني مقيداً بلا كيس فوق رأسي، وتركني مندهشاً من عدم تحقيقه معي، وعدم مطالبتي بالاعتراف، وعدم حديثه معي عن السلاح.
    دقائق بعد خروج موشي، دخل شاب طويل القامة قوي العضلات، وجلس على الطاولة دون أن يسألني شيئاً، فقط راح يحدق بي، ويحرك رجليه يميناً وشمالاً، ويدندن بصوت مسموع:
    الحمد لله رب العالمين، خلقنا يهود وما خلقنا مسلمين.
    وظل يكرر اللحن نفسه عدة مرات حتى سرحت مع الدندنة، وأنا أراجع الكلمات التي ينطقها بلغة عربية مكسرة، ودون أن أنتبه، سدد إلى بطني ضربة قوية بقدمه المتحركة، تمزقت معها أحشائي، لقد توجعت كثيراً من قوة الضربة، فقد كانت مفاجئة، وكانت عضلات بطني مرتخية، فشعرت أن حذاءه قد اخترق الأمعاء حتى اصطدم بالعامود الفقري.
    لقد عرفت اسم ذلك المحقق، إنه "ستيف" الذي حقدت عليه، وأقسمت أن أنتقم منه.
    يتبع

  10. #10
    (23)
    ما أقذر بول اليهود!
    ما أسوأ الجلوس على أرض المسلخ، والكيس في رأسك، ويداك مقيدتان من خلف ظهرك، وتنتظر! تنتظر أن يسمع لك السجان بقضاء الحاجة، وتنتظر أن يفك السجان قيودك لتأكل، وتنتظر أن يمر عليك السجان بإبريق الماء كي تشرب، وتنظر أن ينساك السجان كي تغفو قليلاً، وتنتظر أن يسأل عنك المحقق لتتخلص من حالة الإهمال التي تجبرك عل التفكير في النفس، والعيش في حالة من الصراع الداخلي، بين النجاة أو الوقوع، بين الصمود أو الانهيار، وبين أن تظل مسكوناً بالهواجس والتخوف أو أن تحلم بالحرية.
    كان يوم الثلاثاء 3/6 يوماً عادياً من أيام شهر رمضان في المسلخ، لا سؤال من المحقق ولا جواب مني، كنت جثة ملقاة، والعطش يشقق حنجرتي، وكان عقلي يطوف أرجاء الكون بحثاُ عن النجاة، وأنا أتخيل نفسي وقت المساء أرش الماء في شوارع المخيم، كنت بين إغفاءة وأخرى أطلب من السجان الماء، ولا أسمع إلا كلمة "شكت" ومعناها "اسكت"، وكنت أسكت وأنا أسمع أمثالي من المقيدين في المسلخ يطلبون الماء، جميعنا عطشان، ولا يمكنني تحديد الوقت، هل نحن في اليل أم في النهار، والسجان يتعمد إذلالنا، وكان بإمكانه أن يطوف علينا بإبريق الماء.
    لقد ألح علي العطش فصرت لحوحاً في طلب الماء، وصرت أنادي بأعلى صوتي طلباً للماء، كنت مصراً على الشرب، وكسر الصمت، حتى لو أدى ذلك للعقاب.
    وفجأة رفع السجان الكيس عن رأسي، وقال: اشرب، رفعت رأسي فرحاً، وفتحت فمي لاستقبل الماء، الذي راح السجان يصبه في جوفي، حتى إذا شعرت بدفء السائل على غير العادة، وتذوقت ملوحته، بصقت، وأنا أصرخ: إنه بول، ووسط ضحكات السجان، قلت بصوت جهوري: احذروا يا شباب، في الإبريق بول يهودي!.
    مر الوقت ثقيلاً مع رائحة البول التي غطت ملابسي، وقد ساد المسلخ صمت رهيب، تدلت خلاله رؤوس المعتلقون على صدورهم، فقد ناموا، ونام الحراس، ونام السجان، وسكن الليل، إلا أنا، فما زلت أبصق ما تبقى في فمي من بول السجان، وأرقب المشهد البائس للمعذبين الفلسطينيين، قبل أن يظهر عليهم المحقق "ستيف"، بطوله الصبياني، وصراخه الانفعالي باللغة العبرية: "تعمود" ومعناها بالعربي "قف"، قف ووجهك إلى الحائط، وظهورك لأرض المسلخ، ليتحرك الجميع منفذاً لتعليمات "ستيف" الذي انتزع المعتقلين من إغفاءتهم، قمنا بتثاقل، ووقفنا مترنحين، والغضب يستبد بي على هذا اليهودي النازي.
    يتبع

صفحة 1 من 3 123 الأخيرةالأخيرة

المواضيع المتشابهه

  1. حنين الى رابا قضاء جنين / الحاج لطفي الياسيني
    بواسطة الشاعر لطفي الياسيني في المنتدى الشعر العربي
    مشاركات: 3
    آخر مشاركة: 02-03-2011, 03:48 PM
  2. حنين إلى زمن الشعر
    بواسطة نادية الزوين في المنتدى فرسان النثر
    مشاركات: 8
    آخر مشاركة: 11-17-2009, 08:23 PM
  3. حنين..
    بواسطة نسيم وسوف في المنتدى الشعر العربي
    مشاركات: 12
    آخر مشاركة: 09-06-2009, 10:47 AM
  4. حنين الى رابا قضاء جنين / للشاعر العروبي لطفي الياسيني
    بواسطة الشاعر لطفي الياسيني في المنتدى الشعر العربي
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 04-29-2009, 06:15 PM
  5. حنين لمدينة جنين ( عين جنيم) الكنعانية / للشاعر العروبي لطفي الياسيني
    بواسطة الشاعر لطفي الياسيني في المنتدى الشعر العربي
    مشاركات: 3
    آخر مشاركة: 03-02-2009, 10:23 AM

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •