الغولة .. معنى ومفاهيم
(3\2) مقالات ملفقة
بقلم( محمد فتحي المقداد)*
في صغري كنت أجلس متسمّراً أمام جدتي أصغي بكل حواسي المشدودة إليها وأرهف سمعي لما ترويه من أخبار الغولة وحديدان البطل المخلّص والمغامر والذي يدفع أخطار و شرور الغولة عن المجتمع, تلك القصة والأخبار المخيفة, والتي تحمل بين طيّاتها المتعة والدافع الحماسي للمتابعة للحدث الطريف, مما ينعكس على نفوسنا بالخوف من الظلام والأشباح.
وبعد أن كبرت ووعيت حقيقة الأشياء, وخرافة الغولة, لكنني كنت أحاول رسم شكل للغولة في مخيلتي وبعد لَأْيِ وجهد, تخيّلتً صورتها على شكل مخلوق أسود طويل جداً, والشعر الطويل المتهدّل يكسو كل جسمه.
ولما ذهبت في صغري مع أصدقائي في العيد وللمرة الأولى و الأخيرة في حياتي للسينما في مدينة درعا مركز المحافظة, حيث كانت عطلة العيد, وكان الفيلم يومها اسمه ( غزلان) من بطولة سميرة توفيق, وهالة شوكت, وناجي جبر (أبو عنتر), ومما أثار الحماس في نفوسنا لذلك الفيلم هو أن مشاهده صُوّرت في بصرى الشام, ولكن رغم السرور الذي نعمنا به, فقد زالت هالة الخوف في نفسي من الغولة حينما رأيت أحد المشاهد ظهرت فيه الغوريللا, بنفس الصورة المرسومة في ذهني, ومن وقتها زال رعب الغولة من نفسي.
ورغم عدم وجود هذه الخرافة في دنيا الواقع, لكن ترسباتها مازالت عالقة في ذهني, و من المستحيل أن يوجد لها أدنى أثر في الحقيقة, فقد قيل: " ثلاثة من المستحيل أن تجدها في الدنيا, الغول والعنقاء والخِلُّ الوفيّ".
ولو رجعنا لأصل كلمة الغول في اللغة, لوجدنا أنها من ( غَلّ- يَغُلُّ), فإذا خان الرجل الأمانة, فيكون قد( أغلَّ), وقد ورد في الحديث النبوي: ( لا إِغْلالْ ولا إِسْلالْ ) أي لا خيانة ولا سرقة, وقيل ولا رِشوة, وفي المعارك كان بعض المحاربين يأخذون شيئاً من المغانم, وهو ما يسمى ( الغُلول) و هو بالطبع ملحق بخانة الخيانة, لأن الغنائم يؤتى بها كاملة ويوزعها القائد على المحاربين والمستحقين لها , كلٌّ حسب المهمة المنوطة به, ولا يجوز لأي محارب أن يأخذ شيئاً مهما كان صغيراً أو كبيراً, وهذا يعتبر خيانة لله ورسوله و المؤمنين وللأمانة التي هو مؤتمن عليها.و نتوقف لحظة رجوع المسلمين من فتح المدائن إلى المدينة المنورة ووضعوا الغنائم أمام الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه, وتعجب من ذلك, وقال: ( إن قوماً أدوا مثل هذا والله إنهم لأمناء), وعندما أمسك بتاج كسر و سواريه, نادى على سراقة بن مالك رضي الله عنه, وألبسه التاج والسوارين, للوفاء بوعد و عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم له عند الهجرة لسراقة إن رجع ولم يفش السر, ,وقد قرئت الآية الكريمة على معنيين( و ما كان لنبيّ أن يَغُلَّ-أو يُغَلّ) هنا وردت يَغُلّ بمعنى يخون, ويُغَلّ تحتمل معنيين أحدهما يُخان يعني أن يؤخذ من غنيمته, والآخر يُخوّن أي ينسب إلى الغُلُول, وأما خلق البخل على اعتبار انه من الأخلاق الذميمة عند الناس, فقد وردت الآية (وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً ), وهو أن لا تجعل يدك مغلولة وكأنها مربوطة إلى عنقك, أي لا تمسكها عن الإنفاق, كأنها مربوطة بشيء يمنعها من أن تمتد للخير والإنفاق وهي كناية عن شدة البخل, و كذلك كانت الجهة المقابلة وهي عدم الإسراف في النفقة, بل التوسط هو المطلوب في كل شيء.
وفي السجون والمعتقلات تكون القيود التي تكبل الأيدي والأرجل والأعناق هي ( الأغلال), وذلك خوفاً من هروب السجناء, وهذا المعنى تؤيده الآية الكريمة : (إذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ).ومن تغوّل على الحقوق فهو الطامع والمغتصب.
أما الأولاد الذين تسرّبوا من المدارس و ليس لديهم الرغبة في إكمال تعليمهم, فقد يقوم آباؤهم بوضعهم عند مُعَلّم لمهنة تقيهم غائلة الفقر و العوز, و تضمن لهم حياة كريمة في المستقبل.
والفلاحون يفرحوا عندما تأتي الغِلال وفيرة في سنوات الخير التي يكثر فيها المطر والثلج و يشتدّ البرد وتنخفض درجات الحرارة دون الصفر وتتجمد المياه, وخاصة في المربعانية وهي الفترة الممتدة (22\12-31\1) من كل عام, وهي أربعون يوماً, ويقولون في ذلك: ( سنة غلال) أي سنة خير خصبة لأن الأرض ستعطي المحاصيل الوفيرة التي تحسّن حياتهم وتوفير حاجياتهم, والتي ربما يستدينون منها الكثير لحين الموسم.
و( أغلّتْ) الضِياعُ من (الغَلّة) و ( أغلَّ) القوم بلغت غلّتهم, وفلانٌ( يَغِلُّ) على عياله يأتيهم بالغلّة.
وتوصف المرأة والبنت المنفوشة الشعر بأنها تشبه الغولة, وتنبه لها بأن للعناية بنفسها. وكذلك, والمرأة السيئة الخلق يقال عنها (غُلّ), ولا يفوتنا الاستغلال الجيد للموارد وتنميتها أو نهبها من المستغلين الذين ينهبون الغلاّت,و أبو معبد حفص بن غيلان الدمشقي هو من العلماء الذين اشتغلوا بعلم الحديث وقد ورد اسمه في كتب المتون.
وكثيراً ما يطلب الآباء من أحد أبنائهم تنفيذ كافة طلباتهم, فيقولون عنه : (إنه يشفي الغليل) وهو أي كالماء البارد يطفئ حرارة العطش.
كما أن الحاقدين و الحاسدين فهم فئة مكروهة منبوذة لأن الغِلّ قد ملأ قلوبهم بالسواد و الإحَنْ على أفراد المجتمع.
متعة الإبحار في معاني كلمة واحدة تريح النفس وتفتح الآفاق أمامنا على فرائد لغتنا الجميلة والرائعة, والتي يتوجب علينا أن نظهر محاسنها, وكل استخداماتها في حياتنا, حتى نستطيع تفعيلها في مواجهة الغزو الثقافي و الفكري الوافد إلينا في عقر دارنا, بتحدّ و إصرار عنيد, وقد لقي الآذان الصاغية من البعض منا .
بصرى الشام
5 - 1 – 2012م