بين سياسة المنع وتناول المحظور
« ما ملكت أيمانكم» يعيد قضية العقاد إلى الأذهان مجدداًأثار مسلسل «ما ملكت أيمانكم» للمخرج نجدت أسماعيل أنزور ردود فعل متباينة قبل بدء عرضه في شهر رمضان المبارك، عندما شن عدد من مجموعات المتشددين الإسلاميين حملات على مواقع الكترونية مختلفة مطالبين بإيقاف عرضه، معتبرين أن اجتزاء العنوان من القرآن الكريم ما هو إلا استهزاء بالدين الإسلامي وإساءة واضحة لشعائره ومقدساته، وما إن بثت الحلقة الأولى منه حتى أصدر الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي بياناً من موقعه -كأستاذ للشريعة الإسلامية في جامعة دمشق، أدان فيه ما يقترفه أنزور، في الوقت الذي لا يزال يعرض فيه «ما ملكت أيمانكم» على شاشة الفضائية السورية في وقت الذروة – بعد نشرة أخبار الساعة التاسعة مساء- دون تغيير أو حذف أو تعديل يذكر، بدوره لم يقف أنزور مكتوف اليدين عندما أصدر بدوره بياناً يقول فيه «لا يوجد أي نص ديني – لا في القرآن الكريم ولا في الحديث الشريف - يمنع استخدام مفردة أو جملة وردت في القرآن الكريم كعنوان لكتاب أو مؤلف ما، سواء كان مصوراً أم مكتوباً، والقرآن الكريم من الرحمة والسعة والروعة بحيث إنه يحوي اللغة العربية كلها بأعظم صورها، بهذا المعنى إذا كان الاعتراض على الاسم من هذا المدخل، فأعتقد أنه اعتراض لا يستند لا إلى الدين ولا إلى المنطق...... البعض لا يفرقون بين الإسلام كدين عظيم متسامح وبين بعض المسلمين الذين نصبوا أنفسهم أوصياء على الدين وهذا لا يحق لهم أصلاً، أنا كفنان أتعامل مع مجتمع إسلامي بألوان لوحته كلها، لقد قدمت رجل الدين النموذج الأمثل، وقدمت آخراً يحاول تحقيق مشروعه السياسي عن طريق الدعاوى الدينية في المجتمع الإسلامي» ويتابع أنزور في بيانه، ليس لي موقف مسبق من سلوك المرأة وحركتها هي التي تعنيني كفنان، أعرف محجبات رائعات ثقافة وسلوكاً وإيماناً ورقياً وأعرف أخريات لسن كذلك، أمي محجبة وقريباتي محجبات، وهذا أمر طبيعي وفطري، لكن من غير الطبيعي أن يتم استثمار هذا الأمر لتحقيق مشاريع سياسية، والأهم من كل ذلك أننا أمام لوحة حركية تحوي عشرات بل مئات الجماعات السياسية الإسلامية الجهادية، والدعوية، والصوفية، وكل جماعة لها رأي يخالف الأخرى وأحياناً يتناحر معها» لكن البوطي عاد وتراجع عن مجمل ما قاله في بيانه السابق بعد لقاء جمعه مع أنزور عندما قال «أتراجع وأتخلى عن سائر تصوراتي عن المسلسل منتظراً نهاية العرض» كما أوضح أنه بنى تصوراته المسبقة عن المسلسل استناداً «على تقرير رسمي صادر من لجنة أعرف صدق أفرادها وأثق بمستواهم الثقافي» وعلى ما يبدو أن البوطي مع أفراد اللجنة يتابعون مجريات المسلسل بانتظار نهايته التي من المتوقع أن تعيد السجال إلى الأضواء مجدداً.
ويتناول العمل الذي كتبته هالة دياب واقع المرأة في المجتمع العربي المعاصر في عام 2018م، ويصور مدى القهر الجسدي والنفسي الذي تعانيه جراء واقع لا يزال يتمتع به الرجل بالوصاية عليها، كما يتطرق إلى مفاهيم الجهاد والحركات الأصولية التكفيرية التي لم يعد وجودها ضمن بنية المجتمع العربي خافياً على أحد، ويشير أنزور إلى أن مجمل الأحداث المتعلقة بهذا الجانب من المسلسل أستند فيها إلى مذكرات أحد الجهاديين وهي موثقة لديه حسب تعبيره. والمتابع لمجمل التعليقات التي ذيلت البيانات في المواقع الإلكترونية، يمكنه ملاحظة انقسام آراء أصحابها بين مؤيد أو معارض لطرفي السجال، أما التعليقات المحايدة الأكثر موضوعية تكاد تكون نادرة، مما يشير إلى أننا سنشهد موجة واسعة ومتضاربة من الحملات المشابهة عقب نهاية المسلسل لن تنتهي تداعياتها سريعاً.
هذه التداعيات والسجالات والتعليقات والبيانات المتبادلة حول «ما ملكت أيمانكم» أعادت إلى ذاكرتنا قضية منع فيلم «الرسالة» للراحل مصطفى العقاد الذي يعتبر في يومنا هذا أضخم فيلم سينمائي يروي قصة تعاليم الدين الإسلامي الحنيف، مع أنه أنجز عام 1976، أراد من خلاله العقاد تقديم صورة صحيحة عن نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم وعن الدين الإسلامي الذي كان ولا يزال الغرب يصفه بالإرهاب، في ذلك الوقت استطاع العقاد الحصول على موافقة الأزهر والمجلس الشيعي اللبناني على سيناريو الفيلم، لكنه مع ذلك منع من العرض بعد انتهاء تصويره، ولا يزال قرار المنع ساري المفعول حتى يومنا هذا، حيث لم تشهد صالة سينما واحدة من المحيط إلى الخليج عرضاً جماهيرياً واحداً له! مع العلم أنه يعرض على شاشات التلفزة سنوياً في المناسبات الدينية. وتحول الفيلم في يومنا هذا إلى أيقونة سينمائية فنية بنسختيه العربية والإنكليزية وكان له دور لا يستهان به في نشر تعاليم الإسلام في الغرب وتصحيح وجهة النظر حول الرسول الكريم. ويحيلنا قرار منع فيلم الرسالة إلى طرح قضية هامة تتعلق بمدى الفائدة والتأثير الذي تقدمه الأعمال الفنية التي تتناول أفكاراً دينية على المشاهد، والتي من الممكن الاستفادة منها الآن في مسلسل تلفزيوني كما هو الحال مع «ما ملكت أيمانكم» الذي لن تكتمل صورته وأفكاره إلا مع نهاية عرض المسلسل، ومع ذلك قوبل بالاستهجان والسلبية والمطالبة بالمنع. على سبيل الذكر لا الحصر تقدم السينما الأمريكية -التي كان ولا يزال اللوبي الصهيوني متحكماً بها بشكل شبه كلي- مئات الأفلام السينمائية التي تقدم وجهات نظر وأفكاراً تدافع عن الكيان الصهيوني، وتشرع وجوده على أرض فلسطين المحتلة، وتبرر الممارسات العدوانية للحكومة الأمريكية التي ترتكبها بحق جميع شعوب العالم، وتؤكد الكثير من الأبحاث على أن العديد من قادة البنتاغون -مثل وزير البحرية السابق جيمس ويب الذي كتب سيناريو فيلم Rules of engagement الأكثر عنصرية تجاه العرب- يؤكدون على العلاقة والتعاون الوطيد مع صناع هذه الأفلام التي تعتبر من أهم عوامل التأثير على الرأي العام العالمي كما حدث في أفلام « The delta force » و «Death before dishonor » وسلسلة رامبو بأجزائه المتعددة وسلسلة حرب النجوم. هذا يدل على المعرفة المسبقة لأصحاب هذه الأفلام بمدى مساهمتها بتحقيق ما يريدونه، بينما نحن العرب نحارب فيلماً هاماً واستثنائياً مثل «الرسالة» للعقاد، ونقابل التجارب الأخرى المشابهة بالمنع المسبق والاعتباطي، دون أن نعلم ماذا ستقدم لنا، من المؤكد أن سيناريو «ما ملكت أيمانكم» مر على الرقابة كغيره من المسلسلات السورية، واستطاع تجاوز محظوراتها وممنوعاتها، لكنه لم يسلم من انتقادات بعض المتسرعين في أحكامهم وتقييمهم. وحتى انتهاء عرض حلقات «ما ملكت أيمانكم» لا يزال الوقت مبكراً جداً للحكم عليه من الناحيتين الفكرية والفنية.

أنس زرزر
http://www.albaath.news.sy/user/?id=930&a=83344