جناية المثقفين ... تزوير المشاعر :
(جحيم من القبل)
لا يقتصر انسياقنا خلف الغرب على علم النفس، بل يتعداه إلى التربية، والمعمار، وحتى المشاعر!!!!!!في التربية هاهو الدكتور محمد النابلسي يصرخ : ( خطر أهم وأعظم متمثل بنقل أساليب التربية الغربية وتطبيقاتها على الطفل العربي، حتى دون الأخذ بعين الاعتبار أن هذه النظريات إنما وضعت كي تهيئ الطفل الغربي كي يتكيف مع مجتمعه عند ما يكبر. فأي أخطار نعرض لها طفلنا العربي عند ما نهيئه تهيئة غربية ثم نطلب منه مواجهة المجتمع العربي المختلف كليا عن باقي المجتمعات؟! إن علائم هذه الأخطار بدأت ومنذ فترة تتبدى واضحة في مجتمعنا. خاصة وأن الأساليب الغربية نفسها تتغير بصورة دائمة في محاولات لتطويرها. وغالبا ما ننقل أساليب لم يعد الغربيون يتبعوها){ مجلة الثقافة النفسية العدد الأول المجلد الأول - كانون الثاني 1990م }.تزوير حتى في المشاعر ( جحيم من القبل)!!! ولم ينجو المعمار من التقليد ولا ( المشاعر) يقول الدكتور عبد الجبار المطلبي : ( ولنقف عند هندسة البيوت قليلا، فمن المعلوم أنها نسخة لا تعديل فيها من (خرائط ) أوربا الباردة – إذا استثنينا السقوف المسطحة – والناس في أوربا يحتاجون إلى كثير من ضوء الشمس ودفئها وقليل من الهواء، فاضطروا إلى بناء هذه البيوت التي تتسم بكثرة نوافذها الواسعة التي تقتنص الشمس أية ظهرت ولا تسمح بدخول قارس الهواء، أما في بلادنا الحارة فنحتاج، بخلاف ذلك، إلى أن نصد الشمس عن بيوتنا، ونسمح لنسمات الهواء أن تنفذ إليها، ولكن المحاكاة – قاتلها الله – جعلت بيوتنا على غرار بيوتهم في سعة النوافذ وتصميمها، وعلى اختلاف الأجواء والأنواء، فإذا خرجت من بغداد " فأنت في غابات " السرو" و " الكالبتوز" لا بين أدواح السدر والتوت)) – ثم يقول في الهامش – ولم تقف هذه الظاهرة عند حد النقل غير المستنير في النقد الأدبي وفي الأزياء والعمارة والغابات، بل تعداها إلى تزييف الشعور، خذ على سبيل المثال " ثغر الحبيبة " الذي يطفئ الأوار المشبوب في جانحة العاشق فهو في الشعر العربي القديم – أقصد بالقديم في هذا المثال كل الشعر العربي في عصوره المختلفة ما عدا الحديث منه – عذب بارد " ثغر برود " وهو ينسجم مع جو بلادنا اللاهب )(..) ولكنك تواجه القبل الحارة والثغور الملتهبة في الشعر العربي الحديث في "جحيم من القبل" فقبل المحاكاة لا تشفي الغليل وإنما تخلق " الجحيم" محاكاة لقبل شعراء البلاد الباردة من أوربا، تزييفا لشعور مصطنع يتظاهر الشاعر بسببه بارتمائه في ( جحيم من القبل) .. ){ ص 46- 48( مواقف في الأدب والنقد)/ د. عبد الجبار المطلبي }. تقول العرب ( الرائد لا يكذب أهله)، ولكن هذا المثل في عصرنا الحديث بدا وكأنه بلا معنى! فنحن قد نفهم أن مثقفا ما يؤمن - وبكل إخلاص- أن تقدم الأمة لن يكون إلى عبر (التغريب)، فهو حر فيما يؤمن به، ولكن ما يستعصي على الفهم، وما يندرج تحت تضليل الأمة، ويستحق الكثير من علامات التعجب، أن ينقل المثقفون إلى أمتهم بضاعة الغرب التي انتهت صلاحيتها!! يقول الدكتور محسن خضر : ( من الملاحظ أننا نصل متأخرين بعد قيام القطار بساعات، وإننا – في العبارة السابقة – تعود على المثقفين العرب، والقطار في نفس العبارة مقصود به التيارات الفكرية الغربية، حدث ذلك – على سبيل المثال – مع الفلسفة الوجودية. وحدث ذلك أيضا مع تيار اللاوعي أو تيار الشعور في الرواية. وحدث ذلك – مرة ثالثة – مع تيار الحداثة في الأدب ... ولكننا سنتوقف عند المثال الرابع لظاهرة الوصول المتأخر لمبدعينا ومثقفينا إلى قطار التيارات الفلسفية والفكرية الغربية، بعد أن يكون العقل الغربي قد استنفدها وتجاوزها إلى مراحل جديدة .. والمثال الرابع هو الفلسفة البرجماتية الأمريكية الأصل والتطبيق .. فبينما كان الرئيس الأمريكي الأسبق إيزنهاور يهاجم الفلسفة البرجماتية في عقر دارها وموطنها ( 1959) كان موسم ازدهار البرجماتية عندنا .. ينتقد إيزنهاور جون ديوي( 1859 – 1952) – أبو البرجماتية – قائلا :" إن السنوات الخمس التي قضيتها في منصبي كرئيس للجمهورية جعلتني مؤمنا تماما بحتمية إعادة النظر في تعليمنا، ويجب على المربين والآباء، والطلاب أن يشعروا مثلي بالسخط على العيوب الكامنة في نظامنا التعليمي، عليهم أن يسلكوا طريقا تعليميا غير ذلك الذي سرنا فيه معصوبي الأعين بفضل تعليمات جون ديوي " ..){ مجلة الهلال القاهرية مايو 1993م.}.ويعطي الدكتور حامد أبو أحمد مثالا آخر : ( فكمال أبو ديب عندما قام بتطبيق المنهج البنيوي لم يلتفت إلى النقد المثار حول البنيوية في الثقافة الغربية نفسها فنحن نعلم أن أبوديب عندما أخذ يطبق البنيوية في السبعينات على صورة إطلاقية مكتملة كانت البنيوية في ذلك القوت قد صارت تيارا ماضيا لأن البنيوية ازدهرت في أوربا وخاصة في فرنسا في الفترة من منتصف الخمسينات إلى منتصف الستينات ثم ظهرت تيارات أخرى تختلف اختلافا بينا عن البنيوية مثل تفكيكية (جاك دريدا) ومثل (التداولية) و ( نظرية التلقي) و ( تحليل الخطاب) أو ( علم النص) (..) إن المشكلة أن د.كمال أبوديب وأبناء جيله من النقاد العرب حاولوا أن ينقلوا إلينا الفكر البنيوي " بحشفه وسوء كيله " دون أن ينظروا إلى النقد المثار حوله في الغرب ... بل إنهم حاولوا أن يوهموا القارئ العربي أن هذا هو النقد الوحيد الموجود في أوربا وأمريكا .. وأنه آخر صيحة علمية لا يصح الجدل حولها({جريدة عكاظ العدد 10338 في 24/6/1415هـ/ 27/11/1994م.}. ليس المثقفون فقط هم الذين تسببوا في جر الأمة نحو التغريب، واستيراد بضاعة فكرية منتهية الصلاحية، بل ساهم السياسيون في ذلك، سعيا وراء ستر أخطائهم، من ناحية، وصرف الناس، وإلهائهم، عن السياسة، من ناحية ثانية، وليس هناك شيء أقدر على إلهاء الناس، من العزف على ما يثير الغرائز، وخصوصا في مجتمع الأصل فيه المحافظة. بعد هزيمة (نكسة) عام 1967، يقول سامي شرف، مدير مكتب جمال عبد الناصر: ( لم يكن جمال عبد الناصر ضد أن يسعد الناس، ويعيشوا وينبسطوا، فقد رفض اقتراح وزير الثقافة د. ثروت عكاشة بإظلام البلد بسبب الهزيمة، وقال له : إن لندن لم تغلق مسارحها والقنابل تنهمر فوق رأسها في الحرب العالمية الثانية. وبعد نجاح فيلم " أبي فوق الشجرة" ومباريات عد القبلات فيه، قال لسامي شرف : - ما تروح يا سامي تشوفه.- ليه يا فندم؟ - بيقولوا فيه ( 38 ) بوسة.وحتى الآن لم يشاهد سامي الفيلم وإن تمنى ذلك عملا بنصيحة جمال عبد الناصر! وتنفيذا لتعليمات جمال عبد الناصر بدأت أجهزة الإعلام والثقافة في الترويح عن الناس بشتى الطرق .. حتى يكون الضحك الشرعي والرسمي بديلا عن الضحك السري .. وهكذا ... ظهرت أغنية "العتبة جزاز" وأغنية " الطشت قاللي يا حلو يا اللي قومي استحمي" وظهرت مسلسلات إذاعية مثل " شنبو في المصيدة" و " إنت اللي قتلت بابايا" .. لعبت بطولتها شويكار، التي نجحت في تحطيم اللغة العربية من خلال أسلوبها المختلف في النطق .. فشنبو يصبح شنوبي ... وخالص تصبح خالص مالص بالص .. وبابايا تصبح باباتي ... أو تصبح باباااايا.وتجاوزت الرقابة كثيرا عن مشاهد الجنس وعبارات النقد السياسي .. وبدأت المجلات الشهرية في إصدار أعداد خاصة عن الفكاهة){ ص 38 ( كيف يسخر المصريون من حكامهم)/ ( ذُكر سابقا).}في الحلقة القادمة نتحدث عن بعض (نتائج التغريب) ... إذا أذن الله.تلويحة الوداع :يقول أحد الساخرين في الغرب : (يقال لنا أن كل شيئ يسير إلى الأفضل،ولكن ذلك لا يقال إلا حين تحدث الأشياء السيئة)!!!
أبو أشرف : محمود المختار الشنقيطي – المدينة المنورة في 19/1/1432هـ