مفتاح الدين ووعاء التراث وضمانة الهوية..
نداء من أجل العربية
د. أحمد الريسوني
مصحف مع مسبحة
اللغة والدين هما المحددان الأساسيان لهوية الأمم والشعوب وانتمائها. وتعتبر اللغة بصفة خاصة رمزاً ووعاء للثقافة والحضارة والتراث، لأي أمة أو مجتمع أو دولة.
كما تشكل اللغة الأم لغة التنشئة والتعامل مناخاً وغذاءً نفسياً وعاطفياً لشخصية أي إنسان.
واللغة هي الوسيلة الفعالة للتواصل والترابط والتوحد، بين أجيال الأمة الواحدة، المتباعدين في الزمان أو في المكان (أي المتباعدين تاريخياً وجغرافياً).
كما تشكل اللغةُ الأم وسيلة لا بديل عنها لأي إبداع أدبي أو علمي مستقل ومتميز، وبدونها لا تكون إلا التبعية و"الذيلية" والهامشية.
حملة ممنهجة
كل هذه الخصائص والوظائف الكبيرة والخطيرة، التي تحملها وتضطلع بها اللغات الكبرى في العالم، قد أصبحت مضعضعة أو مكبوتة أو مهددة، في حق لغتنا العربية. ولست الآن بصدد وصف هذا الواقع، أو سرد مظاهره، أو تحليل أسبابه وآثاره، فهذا كله نعيشه ونشهده عياناً بياناً، وليس الخبر كالعيان، ولكني أريد أن أشير بصفة خاصة إلى أمرين:
الأول: الحملة الأخيرة الممنهجة، الرامية إلى مزيد من الإقصاء والتقليص للغة العربية في عدد من أقطارها، وذلك لأجل ترسيخ الاستعمال الإعلامي والتعليمي للعامية واللهجات المحلية.
والثاني: هو عملية التعجيم المتواصلة للمجتمعات التي هي منبع العرب والعروبة، ألا وهي مجتمعات الجزيرة العربية، فبحكم الكثافة السكانية المتزايدة لغير العرب، وبحكم انعدام أي سياسة أو مبادرة لتعريب الوافدين المقيمين في هذه البلدان، فإن اللغة العربية بما فيها العامية العربية آخذة في التقلص والانكماش وأحياناً الاختفاء التام من قطاعات ومساحات كثيرة وكبيرة في هذه المجتمعات.
غياب المواقف
ورغم هذه الأخطار المستشرية الزاحفة منذ عدة عقود، فإننا لا نجد شيئاً يذكر من ردود الفعل ومحاولات التصدي والإنقاذ، وكأن القضية قضية ثانوية أو هامشية أو غير ذات أولوية وخطورة قصوى.
هناك والحمد لله ردود فعل مقدرة ومشكورة، في الدفاع عن الإسلام ونبي الإسلام، وعن القرآن والسنة، وعن القضايا الإسلامية والقضايا القومية، وعن الشعوب العربية والإسلامية.. ونجد في ذلك ما لا يحصى من الحركات والتحركات، والمنظمات والجمعيات، والمبادرات والتبرعات.. ولكن اللغة العربية لا بواكي لها!! مع أن اللغة العربية هي مفتاح ديننا، ووعاء تراثنا، وهي ضامن هويتنا واستقلاليتنا، وهي وسيلة وحدتنا ونهضتنا.
دعوة للتفكير
لأجل ذلك ولتجاوز ما ذُكر يأتي هذا النداء وهذه الدعوة، دعوة للتفكير ونداء للنفير لأجل نصرة اللغة العربية وخدمتها.
نداء أوجهه لكل المعتزين بالعربية المقدرين لمكانتها، من العلماء والمفكرين والمثقفين، ولكل الحركات والمؤسسات القومية والإسلامية، ولكل الدعاة والإعلاميين والمشرفين على وسائل الإعلام، ولكل من يجد في نفسه أو بيده، ما يمكن أن يخدم به هذه اللغة المشرفة، لكي تكون فعلاً مشرفة.
وسائل الدفاع
ومما يمكن التفكير فيه وإنجازه:
1 تأسيس جمعيات ولجان ومراكز لخدمة اللغة العربية والدفاع عنها والتصدي لمن يسيئون إليها وإلى مكانتها.
2 تأسيس جمعيات ومراكز ولجان لتعليم العربية لغير العرب، وخاصة المسلمين منهم المقيمين في البلدان العربية.
3 العمل على تحريك مجامع اللغة العربية والمؤسسات المختصة وتفعيل دورها ورسالتها.
4 تفعيل دور الأسرة والمؤسسات التعليمية في العناية بالعربية الفصحى والتحدث بها.
5 إنشاء مواقع إلكترونية متخصصة.
6 إنتاج برامج إلكترونية لتعليم العربية وتقويتها في مختلف المستويات.
7 استحداث برامج تلفزيونية وإذاعية لهذا الغرض.
8 إنشاء جوائز لتشجيع الأفراد والمؤسسات على خدمة العربية والارتقاء بها.
9 اتخاذ يوم عالمي سنوي للغة العربية.
10 تنظيم الحفلات والمسابقات الثقافية والأدبية للمهتمين باللغة العربية.
الإنسان ابن بيئته
دخل الشاعر البدوي "علي بن الجهم" على الخليفة يمدحه فقال:
أنت كالكلب في حفظك للود
وكالتيس في قراعك للخطوب
قامت قائمة الحاضرين يسفّهونه، لكن الخليفة بادر قائلاً: دعوه فما قال إلا ما تعلمه في بيئته البدوية، والإنسان ابن بيئته. خذوه عاماًً يعيش في المدينة، فإذا ذاق الحياة الحضرية، فسيكون شعره شيئاً آخر.
بعد سنة وقف هذا الشاعر البدويّ "المتحضّر" بين يدي الخليفة في العاصمة العراقية أم الدنيا في ذلك الوقت، يقول:
عيون المها بين الرصافة فالجسر
جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري