رموز الشعر الأمازيغي
وتأثرها بالإسلام
تأليف: عمر أمرير
عرض: محمد أفقير
منشور بمجلة "الادبالاسلامي"- ع49 (2006).
صدر حديثا للدكتور عمر أمرير، مدير الأبحاث بالمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، وصاحب مشروع علمي في الأدب الأمازيغي، كتاب جديد بعنوان "رموز الشعر الأمازيغي وتأثرها بالإسلام"(*) في طبعة جميلة، من تصدير الدكتور عباس الجراري، ويتأسس الكتاب على "أطروحة وجود لغة أمازيغية رمزية مستقلة عن اللغة اليومية في أصلها ودلالتها ومجال استعمالها"، ويهدف إلى الإسهام في دراسة التراث الرمزي المغربي الثري، من خلال التركيز على رموز الشعر الأمازيغي، وفيما يلي محاولة لعرض مضامين الكتاب ومحاوره.
تتكون المفاصيل الأساسية لبحث الأستاذ عمر أمرير من مدخل حول روافد التأثير الإسلامي، وباب أول عن الأمازيغية الرمزية وشعرها، وباب ثاني عن الرموز الشعرية. وباب ثالث عن التأثير الإسلامي في الرموز، وخاتمة.
يقدم المدخل تناولا علميا عميقا للكيفية التي تمكن بها الإسلام بمصادره العربية من التأثير في رموز شعر لغته أمازيغية، مستعرضا مختلف روافد التأثير، خاصة تلك المؤلفات والمترجمات التي أنجزها العلماء الأمازيغ بسوس لتمكين العامة من معرفة الإسلام، وفهم تعاليمه، في ميادين "الفقه"، و"السنة النبوية"، و"العقيدة والتصوف"...، والتي غطت عقودا من الزمن (ص 26)، ولم يكتف الباحث بهذا، بل توقف أيضا عند مجموعة من العادات الأمازيغية، التي هيأها الأمازيغ في أوساطهم لتنزيل تعاليم الإسلام في بيئتهم، وتذويبها في حياتهم بشكل تلقائي، عوض أن تبقى حبيسة الكتب والمؤلفات، ومن هذه العادات: عادة "التعليم الليلي" بالمساجد التي لا يتخلف عنها الأطفال ذكورا وإناثا والرعاة والحرفيين الذين يستهلك العمل كل أوقاتهم بالنهار، وعادة "عرس القرآن" ("تامغران لقران"، "سلوكت") التي يقرأ فيها القرآن من لدن "الطلبة" بشكل جماعي (تاحزابت). وتنشد فيها "البردة" و"الهمزية" وبعض الأشعار العربية "ترجيز"، وعادة "بخاري رمضان" الخاصة بشهر رمضان، وعادة "أدوال" الخاصة بنزه "الطلبة"، وسياحات المتصوفة... (ص34)، هذه الروافد كلها، من مؤلفات ومترجمات وعادات، ساهمت في ترسيخ الإسلام لدى الأمازيغ ودمجه في بيئاتهم، وتحبيبه على نفوسهم حتى صار ممارسة واعية تملأ الفكر والوجدان.
إن الشعر الأمازيغي الرمزي يستمد مشروعيته من نسق لغوي رمزي مستقل عن نسق اللغة الطبيعية في مصدره ومجال تداوله، هذا ما يعالجه الباب الأول من الكتاب الخاص "بالأمازيغية الرمزية وشعرها"، وقد استعمل الباحث مصطلح "الأمازيغية" عوض "البربرية" أو "الشلحة" أو "السوسية"، أو "العجمية" أو "المصمودية" أو "اللسان الغربي" التي تستعملها وسائل الإعلام الحديثة والدراسات المعاصرة، بعد تتبع هذه المصطلحات واحدا واحدا في المصادر القديمة، الأمازيغية والعربية والأوروبية والتاريخ المحلي، لكي يخلص في الأخير باطمئنان علمي واضح إلى "أن هذه اللغة كانت تسمى "تامازيغت" في إطار المجال الجغرافي الشاسع الأطراف بدءا بمناطق "دمنات" إلى ضواحي "مراكش" شمالا، في اتجاه المحيط الأطلسي عبر سفوح وسلاسل جبال الأطلس الصغير، حتى التخوم الصحراوية (ص 64)، وهناك أيضا شبه إجماع مختلف المصادر على أن كلمة "أمازيغ" تعني الحر والفارس والشجاع، أما اللغة الرمزية التي يدرس الكتاب رموز شعرها فهي "مجموعة من الأسماء والأفعال والتراكيب التي تنزاح عن معانيها اللغوية، لتستمد معاني أخرى رمزية تنهلها من مصادر ومنابع متعددة، كالطقوس والمعتقدات، والعادات، والطبيعة وكل التجليات الحضارية" (ص 68)، وتتجسد اللغة الرمزية في مجالين اثنين هما "الشعر" و"الحلم" اللذين يشتركان في العلاقة التأويلية لكثير من الرموز (الماء= الحب والزواج، البحر= القوة والسلطة والنفوذ، الثور= المخزن، الموت= الزواج...)، وتنتمي إلى بيئة لسنية بالجنوب تزخر بلغات مغلقة مثل "تاقجميت" الخاصة بالأطفال، عبارة عن تركيب حروف بعض الكلمات الأمازيغية بشكل معكوس لجملها القصيرة، و"إيسوراف" الخاصة بالسيدات، و"إيلمان" الخاصة بمجموعة "رما ن سيدي علي بناصر" وب"الروايس"، و"تاقوليت" الخاصة باليهود من الأمازيغيين، و"مغلقة طلبا" الخاصة بحفظ القرآن الكريم...، وفي حديثه عن الشعر الأمازيغي توقف الباحث عند الأصل الأيتيمولوجي لمصطلح "أمارﮒ" الدال على الشعر في "تامازيغت" بالجنوب خاصة، انطلاقا من مناقشة مختلف العلاقات اللغوية والرمزية التي قد تربطه بمصطلحات مشابهة من مثل: "أرﮔراگ" (المتبرك به)، و"أساراگ" (الساحة)، و"تاوارﮔيت" (الحلم)، مقسما إياه إلى ثلاثة أنواع أساسية: "الشعر الطقوسي"، وهو موغل في القدم، توارثته الأجيال عبر العصور، مثل شعر "أسالاو" (أناشيد البكاء) الخاص بطقوس الزواج، ويرى الأستاذ أمرير "أن المرددات الطقوسية هي الشكل الوحيد الذي وصل إلينا من الشعر القديم" (ص90)، و"الشعر التعليمي" "تامازغيت" التي تطلق على الأشعار التي نظمها الفقهاء والمتصوفة لنقل تعاليم الإسلام إلى العامة، وقد خلف الأمازيغ تراثا هائلا من هذا النوع، أما النوع الثالث فهو "الشعر الإبداعي" "تاماريرت"، وهو أهم أنواع الشعر الأمازيغي، يبدعه الرجال والنساء، إما بشكل مشترك أو غير مشترك، منه ما يلقى في رقصة "أحواش" مصحوبا بالرقص والموسيقى، ومنه ما لا ينشد في "أحواش"، ولا تلازمه الآلات الإيقاعية، ولا الرقص ولا التصفيق، ومن أنواعه الأساسية: "تاماواشت"، و"تازرارت" و"اورار".
ولأن الشعر الأمازيغي في الفترة التي يدرس البحث رموز شعرها (ما قبل استقلال المغرب) لا مكان فيه للإبداع المنفصل عن الجمهور، بعيدا عن طقوس وتقاليد واحتفالات الجماعة، فإن الباحث يشرك القارئ حميمية الاحتفال الشعري "أحواش"، الذي يسمى أيضا ب"لهضرت" و"درست"، الاسم الأول يحيل على الوظيفة الروحية للاحتفال، لاشتراكه في العديد من العناصر مع "الحضرة" الصوفية، على مستوى الزمان الليلي، والمكان المقدس، والجمهور المتعطش للسماع، والشاعر الملهم...، والاسم الثاني يحيل على الوظيفة التحالفية للاحتفال الشعري "أحواش"، الذي يسعى إلى تمتين علاقات التعاون داخل القبيلة أو الحلف، والصلح بين المتخاصمين، وحل بعض المشاكل بواسطة عادات متوارثة "كثيرا ما حلت مشاكل عجزت عن الحسم فيها المحاكم" (ص116) وبهذه الوظائف المهمة حظي حفل الشعر والغناء والرقص الجماعي الأمازيغي بالجنوب المغربي باحترام تام ومهابة خاصة لدى الجميع، إذ "لا مجال فيه للعبث بطقوسه وعاداته، وأعرافه التي يدرك العارفون أنها رمز حضاري دال على استمرارية الحياة في حرية ونبل وتعقل" (ص118).
الباب الثاني يتطرق إلى الرموز الشعرية، محددا أولا الحقول الدلالية للألفاظ الرمزية، مصنفا إياها إلى مجموعة من المناهل الأساسية: رموز الماء، ورموز الفلاحة، ورموز الاهتمامات، ورموز العادات، ورموز الجسد، ويعتبر الماء أهم هذه "المناهل الرمزية"، وأكثرها تجليا في الأشعار، انسجاما مع مكانته في الذاكرة الأمازيغية التي تحبل بكثير من العادات والطقوس والمعتقدات حول الماء وما يتصل به، وترمز معاجمه في التركيب الشعري بشكل عام إلى "الخصوبة، وإلى المرأة، والحب والغزل والزواج" (ص134)، كما أن "مناهل رموز الفلاحة" بمختلف حقولها الدلالية (حقل الفدان، والبستان، ومفسدو الغلل) تحيل هي الأخرى على الخصوبة، وعلى الأنثى والجمال والقوة والطهر... بحسب سياقها في التركيب الشعري، وتشكل "مناهل رموز الاهتمامات"، خاصة ثلاثي "القنص" و"الرعي" و"الفروسية"، الخلفية الدلالية لرموز مهمة ("أماوال"= العرس، "تاريگت"= الفتاة، "توزالت"= الظلم، "أجنوي"= الرجولة...)، ومن المهارات التي أتقنها الأمازيغي وتفنن في أساليبها، وأصبحت مناهل لعديد من الرموز حرفة "البناء" و"النسيج" و"الحدادة"، ويبقى جسم الإنسان بمختلف عناصره، من الحقول التي نهلت رصيدها الرمزي من عدة طقوس ومعتقدات وعادات، وشحنت المعجم الشعري برمزياته.
واعتمادا على عمل تقني بالغ الأهمية، يتجاوز المعنى اللغوي للمقطع الشعري، إلى أبعاده الرمزية التي يتم الوصول إليها بربط ألفاظه "بالمناهل الرمزية" المعتقة بحرارة المعتقد، تمكن الباحث من حصر مقاصد دلالية كبرى للرموز الشعرية هي: "الرمز إلى الشعر"، الذي يرتبط بكل ما يهم الفنون الشعرية، إبداعا وأداءً وتلقيا، و"مقصد الرمز الغزلي"، وينحصر في مجال الحب والمرأة، و"مقصد الرمز السياسي"، الذي يرتبط ب"تربية سياسية" خاصة، كانت إلى عهد قريب تجعل "كل أفراد وجماعات القبائل الأمازيغية ملزمة بأن تنتظم في أحد الحلفين الكبيرين: "تاﮔوزولت" و"تاحگات" اللذان لهما عادات خاصة بالتنافس على الحكم جهويا، مع الحرص الدائم على التمسك بإطار البيعة لسلاطين المغرب" (ص194)، وحتى لا يفهم من تحديد هذه "المناهل"، أحادية الدلالة للرموز الشعرية الأمازيغية، ونهائية التأويل، عمد الباحث إلى الوقوف عند "الاشتراك العام" للدلالات الرمزية للفظ الواحد داخل عموم المقاصد (النسيج= الزواج، النسيج= الحكم، النسيج= الشعر...). وعند الاشتراك الخاص للمعاني الرمزية للفظ الواحد داخل المقصد الواحد (السرج= الفتاة، السرج= الزواج...).
الباب الثالث يتناول التأثير الإسلامي في الرموز، من خلال رصد الألفاظ الإسلامية التي أثرت الرمز الأمازيغي، خاصة "رموز الصلاة"، و"الصيام" و"الحج"، و"التعليم"، و"الموت"، فألفاظ الحقل الدلالي الخاص بالصلاة مثلا، ترمز في الشعر الأمازيغي إلى الفن الشعري وعاداته من جهة، ومن جهة ثانية إلى الغزل، والعلاقة بين الرجل والمرأة (الصلاة= الشعر، الإمام= الشاعر، المصلون= الشعراء، السلام= الخاتمة الشعرية "تامسوست"/الوضوء= الخطبة، المسجد= الفتاة...)، كما أن ألفاظ معجم الصيام تحيل على مقاصد غزلية واضحة (الصوم= العزوبة، الإفطار= الزواج...)، مثلها ألفاظ الحج، وما يتصل به من شعائر، التي ترمز إلى الزواج وطقوسه، أما الحقل الدلالي الخاص بالتعليم فترمز معاجمه في التركيب الشعري الأمازيغي إلى الغزل، والشعر، والسياسة، وتجدر الإشارة إلى أن الترميز بهذه الألفاظ الإسلامية إلى غرض مثل الغزل "ليس ناتجا عن استخفاف بالدين أو استهتار بقيمه وجهل بتعاليمه، وليس من باب الرمز ب"المقدس" إلى "المدنس"، بل يدل على صدق إسلام الأمازيغيين، لأننا نعرف أن تأثير كل جديد مما ليس أمازيغيا "لغة وعادة واعتقادا" في رموز الشعر الأمازيغي، يعتبر في حد ذاته "رمزا" صادق الدلالة على عمق قوة تفاعل الأمازيغيين مع ذلك الجديد" (ص243)، ولا ينتهي التأثير الإسلامي عند هذا الحد، بل يتعداه إلى تكييف الرموز الأمازيغية نفسها، مع الأبعاد والمضامين الإسلامية في شعر "تامازغيت" خاصة، الذي وظف هذه الرموز لغايات فنية وإقناعية.
من خلال مجمل التحليلات الواردة في الأبواب الثلاثة للدراسة، يصل الباحث إلى نتائج وخلاصات ضمنها خاتمة جد مركزة، داعيا إلى ضرورة تحقيق النصوص الأمازيغية وضبطها، بناءً على مستجدات البحوث الرمزية، وإلى ارتياد آفاق الدراسات المقارنة بين رموز الشعر الأمازيغي بمختلف تجلياته اللهجية، ورموز الشعر المغربي المعرب بمختلف أنواعه: "الملحون"، و"العيطة"، و"الطقطوقة الجبلية"، و"الشعر الحساني".
ولعل قارئ هذا الكتاب لا يملك إلا أن يكبر فيه شموليته وعمقه، ودقة رصده لكل عناصر الأدب الأمازيغي، بمنهجية أكاديمية صارمة، وبتحليل علمي رصين، معتمدا على مصادر غنية ونادرة، وهو بهذا عمل مرجعي أساسي في مجاله، وإضافة نوعية للمكتبة المغربية والأمازيغية.
(*) د. عمر أمرير: "رموز الشعر الأمازيغي وتأثرها بالإسلام"، مطبعة مكتبة دار السلام- الرباط. ط1: 2003.
أضافها محمد أفقير
المصدر:
http://afakir.arabblogs.com/archive/2009/5/870035.html