بلدة تشبه انتظاري

عبد الحميد شوقي

كخطوط يدي
كتقاسيم وجهي
تلك البلدة الممتدة أمامي
على الطريق السهلي
البلدة النائمة بين أحراش نبضي
على حدود التقاطع
بين الساحل وسهوب الغرب
ودفاتر الكتابات الأولى ..
تلك البلدة
كأم غائبة أضمها
أعصر ثديها
لعلي أطل على
شرفة الولادة الهاربة .. !


* * * *

كنتِ تجلسين قربي
على ضفة النهر
وأنا أصطاد السمك
ترسمين على الماء
انفعالات الدوائر
ومصائرَ اليوم في أبراج الفلك ..
تخرج الأشياء عن ألوانها :
أشجار ترفع قبعاتها
تحيي صف الفراشات المتدللات ..
عابر يخفي زوادته
ليسأل عن خان للمبيت ..
وأنت تفتحين يديك
تحضنين الغرباء .. الوافدين .. الباحثين عن الحظ ..
عن المال .. عن بيوت الغواني ..
كم حزنا سجلتْ عيناك
وأنت تكبرين كالفطر
بين مجاري الحثالة
وعري الأطفال ..
على قسمات وجهك الكامد
يكسر الزمان
أريجَ المراعي وانثناءات التلال ..
ونحو الحياة تتسللين
دون وضوح .. دون خيال ..
وأنا أصطاد السمك
بقربي أنتِ
تقرئين ما لا يقال
في أبراج الفلك ..
فقط تكبرين
مثلما أقتل وقتي
مثلما أصطاد انتظارات المحال ..!


* * * *

في البار القريب من الحي
أشرب براندي
أمازح راقصة شبه عارية
أنساك .. !
ينفث الرواد سجائرهم
ينام السكارى على مقاعدهم
أحاول أن أنساك
لا أنساك ..
يدخل عازف عود شاحب الوجه
يرمي المكانَ
في حشرجات صوته المبحوح
ويختصر الزمان المجروح
في نشاز أوتاره المتلاشية
يغني لكِ
يغني عنك
يغني ..
لبدايات ما ..
لانكسارات ما ..
لضباب أزرق
يقبِّل وحل الأزقة
يملأ فراغات الأحياء
في تشقق اللغة على حناجر النساء ..
يتعب المغني
من شرود السكارى النائمين
يتأبط ذراع الفراغ الصامت
ويضيع في الطرقات ..!


* * * *

لم نصل في الوقت
مثلما وعدنا ..
انتظرتِ سنين على رصيف الأمل ..
لم نصل
كنا سنأتي بعد انتهاء العمل
كنا سنحمل شهوتنا
على حفيف الأسرار
كنا سنأتي
نصنع شاينا في ظلك الممدود
وكنا سنقول للزمن المتواري :
توقف
كي تشرب سيدة الفلفل
كأسها الموعود ..
كنا .. كنا .. كنا .. !
وأنتِ هناك حيث الآن نحن هنا
فوق حماقات تيهنا
لا تقولين شيئا
تفتحين قلبك
لحماية الوقت من دمنا
تسقين ما تبقى من شغف
يتفتح كالدمامل في عروقنا .. !


* * * *

خلف المرآة
حيث يختفي ظلي
ووجه نجمة تنهض من النوم
أطل على
ضجيج الوقت المذوب في يومي :
الأيام شاردة على الطرقات
العربات تشق زحام ا لبلد
وخلف الغمام العابر
أعرابي يؤول مزاج الطبيعة ..
أسرع نحو مقهاي القديمة
أشرب قهوتي المعتادة دون سكر
أراني من جديد
وذهني يرشح من غبار الحلم الوهمي ..
كأني لم أكن
يومَ كتبتُ أول خطاب راعش
لبنت صامتة في القسم
أقول لها :
لا تنظري في وجه المدرس المتجهم
اسبحي في عبق الشمس المطلة من الساحة
وشبابيك الحكايات الخارجة
من ألوان الكتاب المدرسي .. !
لم تجبني
أو ربما أجابتني
في غفلة من عيون المعيدين
لا أذكر ..
لكني أذكر
كيف استطال شعري
اسودت قهوتي
وفتاتي أنجبت
صبيا من عابر مجهول .. !


* * * *

كبرت حين دخنت سيجارتي الأولى
حين أخفيت عن أمي
ما رأيته في سينما الحائط* ..
أغلقت باب غرفتي الضيقة
واختصرت العالم في حرفين
يعتصران شبقا ينز من نهدين ..
وحدي كنتُ
ألهو بالأشياء
بالأمكنة التي تلغو داخلي
برمال العطش
باهتراء الأبد على
ناصية الآلهة التي أخطأتها لذة الموت ..
وحدي كنت
أقرأ في صخب المتقاعدين
صمتَ الأساطير البعيدة
ترقص في قطع الدامة
في أوراق المعاشات المصفرة ..
لو يحمل عصفور كلماتي
إلى زمرة الموتى الواقفين
على حدود البلدة كالعسس
لأنام كما أريد
لأسافر في زرقة الظلال
على تخوم ما كان يرسم عاشق جوال
ذات زمان سحيق
ألقته حافلة على الطريق
شدته ضفيرتان إلى مآوي البلد
ولم يرسم غير عينين
تنبتان كل يوم
كاللقالق على قرميد البنايات الفرنسية ..
وحيدا مات في شقته
في نبضه المخمور
صخب ضفيرتين ..
ضباب عينين ..
حطام وقت لعين
يطل من فجوات بيته المهجور ..
وحيدا مات .. !


* * * *

في الطريق الموحلة
أقربَ من حينا
أبعد من شطح الكلام على الواجهات
حاملا دفئي
حاملا انسياب الأغاني بين أوراقي
أهدهد في قيلولة الظهيرة
مواجدَ المواعيد الغافية في أشواقي ..
في حواسي سرير لبائعات الأحلام
صهوة للفرسان الهاربين من الرحيل
وفي يدي
أزمنة تنهض
بلدة ترتخي على سطوح الغسيل
صمت يلف عبور الدواب عبر الأرصفة
نهار يهرب من ذرات الغبار الشرقي ..
في يدي
بلدة
تحب أن تشبه انتظاري
تحب أن تمتد عبر خطوط الوهم
بين الأشياء ..!

ماي 2008

هــــوامش :

* إشارة إلى السينما في بداياتها الأولى بالمدن الصغيرة حيث كان العرض يتم على حيطان البنايات في الهواء الطلق .