لماذا نفتح الآن صفحات رواية أم سعد التي صدرت في العام 1969، وبعد هزيمة حرب حزيران 1967 عن كاتبها الأديب الفلسطيني الشهيد غسّان كنفاني.؟
ولماذا نحاول الغوص في أحداث وتفاصيل صغيرة وكبيرة مضت وانقضت.؟
أزعم أن الأحداث الساخنة التي مرّت وتمرّ فيها القضيّة الفلسطينية منذ ذلك التاريخ وحتى الآن، تحرّضنا، ونحن نعيد قراءة أم سعد مرّة بعد مرّة لندرك عمق نظرة غسّان الاستشرافية التي استطاع من خلال كتابته لتلك الرواية بالذات، وفي تلك المرحلة الرديئة، أن يؤشر إلى دلالات كثيرة كانت ضرورية في حينه، وما زالت تحتاجها ساحات نضالنا.. وفي الوقت نفسه أجابت على أسئلة كثيرة لم تبرز في ذلك الوقت فقط، بل ما زالت تبرز وتُطرح علينا وعلى وسائل نضالنا وطرائقه حتى الآن.
أزعم أيضاً أن رواية أم سعد كانت ضرورية في تلك المرحلة تحديداً وقد عانت قضية فلسطين وشعبها الفلسطيني وفصائله الوليدة بعد حرب حزيران، وفي الجوّ الانهزامي العام الذي ألقى ظلاله القاتمة على الأمّة، كما عانى العرب في أمصارهم من شعور قاسٍ بالهزيمة، ومن حالة إحباط رسمية وشعبية أوحت للعالم أن الأمّة العربية كلها سقطت ولن تقوم لها بعد الآن قائمة.
من ذلك القاع المظلم قامَ غسّان وأقام أمّ سعد.. أمّ الشعب وأمّ الأرض وأمّ التاريخ.. قامت، وهي ضمير فلسطين، تنتزع من قلب اليأس «قصفة دالية»، وتشرعها رغم يباسها الآني، وتعلن بلحمها ودمها وشموخها وصلابتها بأننا ما زلنا هنا باقين كالجبال، وأنها هي القادرة على العطاء كما لا يقدر أحد.
لا تقول ذلك شعارات جوفاء فارغة، بل فعل حقيقيّ بدأت فيه بنفسها وفلذات كبدها، وأرسلت تلك الرسالة التي حملت الراية التي نراها الآن تخفق على بطاح فلسطين، ونقلت سكَنَها من خيمة كسيرة ذليلة، إلى خيمة أخرى تصنع فيها الرجال والقرار، وأخرجت ذلك الفلسطيني الفتيّ المحبوس من سجونه كلّها وأطلقته في الفضاءات.
نبحث عنها في زواريب المخيّمات فنراها في وجوه كل النساء الفلسطينيات، حتى سعد ورفاقه أبناء الجيل الفلسطيني المقاتل، يرونها كذلك في أحلك اللحظات:
(كانوا قد حوصروا، إلا أنهم احتفظوا بمكمنهم هادئين، وقدّروا أن الحصار سينفكّ بعد ساعات.. امتدّ الحصار أياماً حتى أنهكهم الجوع… عند الظهر قال سعد لرفاقه:
- ها قد جاءت أمي.. وبدت لهم عجوزاً في عمر أم سعد وفي قامتها العالية الصلبة.. قال أحد الأربعة: - أمّك..؟ أمّك في المخيم يا أخوت..
قال سعد:
- أنتم لا تعرفون أمي، إنها تلحق بي دائماً، وهذه أمي..
وفجأة ناداها: - يمّا.. يمّا..
توقّفت المرأة لحظة، وأدارت بصرها في الحقول الصامتة حولها: - أنا هون يمّا.. أنا سعد يا يمّا، جوعان.. سقط القضيب من يد الفلاّحة العجوز وهي تحدّق إلى الشاب الذي ولده الدغل الشائك ينحدر نحوها بالكاكي، وبالرشّاش على كتفه:
- يجوع عدوّيك يا ابني.. تعال لعند أمّك..
تلك المرأة العجوز ظلّت خمسة أيام تطعمهم، لم تتأخر ساعة واحدة حتى انفكّ الحصار.. جاءت فوضعت الزوّادة ونادت: (العسكر راحوا.. الله يوفّقكم..)
حكاية سردتها أم سعد على مسامع الراوي.. غسّان، الذي لم يستطع إلا أن يؤكّد لنا على لسانه هذه المرّة دون لبس عظمة الرمز الفلسطيني الذي تمثّله أم سعد، فبعد أن انتهت من سرد قصّتها: (استدارت.. خطوة.. خطوتين.. وفجأة سمعتُ نفسي أناديها: يمّا.. يمّا..).
أم سعدّ، المرأة الفلسطينية، نراها الآن شامخةً باقية كريمة أبيّة معطاءة، ترسمُ وَشمَها الأبديّ في وجوه النساء السوريات، يحمِلن الوجَع، ويمارسنَ أرقى درجات الصمود، وروعة الانتماء إلى وطن سيبقى رمزَ شموخ.