يونس في بطن الحوت
سوسن البرغوتي
لوحة الفنان التشكيلي يوسف كتلو
تنسم يونس عبير شقائق نعمان نبتت بمهاد الأحرار تنثر عبق زهورها مع عرس شهيد يحمله الثرى نجمًا وميضه يعانق السماء، وطاف بفكره المكان الذي طوته حكايات وبطولات روت أرض البرتقال الحزين.
زفرات الحزن يطلقها مع كل نسمة فجر لعل الأمل يواسي الصبر بالفرج القريب. تحت الشمس سكنت كلمات يجمعها بذاكرته هنا وهناك ليعيد خطى متعثرة تتبرأ من انكسار الهمم.
لم يكن سوى ذلك الفتى غير حالمٍ يروي للحقول رؤى تتشابه معانيها وتختلف معها بالألوان والخطوط، لترحل بعد الأفق المعاناة ورحلة الشقاء. يلقي الحجارة في يمّ يجرف الحصى والحلم إلى ذلك المصير المجهول.
اختزل الوطن برسم بيت صغير وفراشات تحوم حول الزهور، وبيوت العسل معلقة على الشجر تنتظر عودة النحل. كان يتأمل بدهشة كل يوم ما وقع عليه نظره بالأمس وكأنه يريد أن يطبع بذاكرته الرسم الأزلي لوطن يبحث عنه في سكون الليل وصخب النهار.
أرهقه المسير وأتعبته مناجاة الحلم، راح يبحث عن النجاة من أضغاث أحلامه، التي طالما راودته تلك الصور المترامية لتقذف الحمم فوق رأسه.
أشباح وأمساخ تنكره وترفض إنسانيته وهموم تؤرقه، انشغل يفك رموزها.. ولكن عبثًًا ما حاول. حاكت حوله شبكات الظلام خيوطها ولفظه المكان، ليهوي كطير مهيض الجناح يعلن هزيمته.
تداخلت لوحته بخطوط الذاكرة لم يتبق منها سوى ناس وأرض من حجارة بلا روح يهوون نحو الأسفل.
تضيق الغرفة بجدارنها وتطبق بإحكام على تلك اللوحات المرسومة، ويضيق بظله من فرط خياله. استرجع ذاكرته ولم يعثر على مساحة له بهذه اللوحة، هزأ من جنون ٍ وصل به حد الهلوسة، انتقل من فكرة إلى فكرة ومن لون لآخر. ذلك البحر البعيد ما قصته، لمَ تُسمع هدير أمواجه ولمَ تحلق النوارس بالأفق تلثم ثغر البحر الذي عانق حلمه؟!، انتهى قراره في بطن حوت.
من التراب وإليه عاد صامتًا لا يعرف ما حدث ولما صار هو حجارة كالآخرين.. هدأ بعالم يسوده العدل والرحمة، وماذا عن قادمين آخرين، هل غلفّت بصائرهم تلك الأشباح المتسللة من عالم الشر لتزعق الغربان بخرائب نفوسهم، وانكسرت أجنحة الخير في جنباتهم؟!.
السلام في مرقده والخديعة ثمر عاقر لشجرة جذورها في الأرض وأغصانها تخشبت من الرياح العاتية، أما أوراقها فقد نزفت جرحًا.. لم يبقَ منها إلا صور وحجارة.