زواج أزرققصة رضا السمين
نهَشتْ عقلي ومفاصلي بالفراغ الصاخب الذي رمتني به. غدرَت بي وبقيت ملساء قاسية. سقوط عميق هوى بجوفي.
أصابني الغثيان، ارتجفت أمام هوّة المفاجأة... واللون الأحمق يتربّص بعيوني. لم أصرخ فاجعتي. بقيتُ صاخبا ونَكِدا بلا حراك. في تلك اللّحظات النّزقة لم أكسّرها، ولم أحوّل عداءها السّافر إلى شظايا تتمرأى دمًا. بقيتُ كالغيهب يتنفّس...
وحملقتُ حملقتُ... لاشيء. ضاع وجهي عن نظري.
نظرتُ في المرآة، هذا الصباح، ولم أر أيّ وجه.
بلَلْتُ رأسي بالماء. كان الماءُ حزينا ورقيقا. تشبّثَت بي قطراتٌ كأنّي بها ترفضُ أن أتلاشى.
أبديّة موحشة هذه الدقائق التي جمعتني، في صمت مضطرب، مع هذه المرآة. صارحني كياني بالفراغ، بياض يخلخل توازني. تموّجَ دماغي وانزلق نحو سكرة الارتباك. تجذبني الخيالات نحو العدم الحسّي... إلى ما يشبه الغياب. فاجأني هذا الصباح شعور كوني طريدُ الجنّة. غشينني الهواجس والتفّت بي الغياهب...
لا. لا أريد أن أسقط تحت وقع الخيال وأشباحه. أريد أن أكون في الواقع مُرّا كان أو جميلا. لا أريد "الجذبة"... والعدم. إذا استسلمتُ للرعب يمكن أن تصيبني "الصفراء" أو قد تختلط شرايين عقلي فأفقده تماما. ثمّ إنّي أعرف أنّ كلّ شيء يمكن أن يُعقل ويُفسَّر. أريدُ أن أستعيد وجهي وأشارك به مع الناس.
لكن ماذا عساني أفعل مع تلك المرآة المشؤومة؟؟!
لا يمكنني أن أحيا دون رؤية وجهي.
كيف أتحرّر، وأنا الآن جالس منذ ساعات في مقهى "إفريقيا"، من الهوس الذي ينثرني منذ رفضَت تلك المرآة أن تردّ لي نظرتي؟ فكّرت وحسبت...
وحدها زرقاء القسوة ربّما، تملك الثقل الكافي لِلَمْلَمَةِ جسدي المبعثر. أوه! أعرف! ستخجل منّي "الثقافة" وما بقي من عقلي إذ عزمتُ على زيارة عرّافة وطلب المعونة من الخرافة، ولكن بحقّ العلم أو السماء، أيُّ الخرافة أشدّ قهراً: هذه المدينة التي يرفض البلّور فيها أن يردّ وجوه النّاس، ربّما من كثرة العُهر الذي انعكس عليه، أمْ أملي إذ صار للبلّور عقل وإرادة أن أستجير أنا باللاّعقل؟ لكلّ واحد جوابه. أمّا أنا، وأمام حكايتي هذه قرّرتُ أن أذهب إلى زرقاء القسوة وعزمتُ.
نهض حزني من المقاعد العاطلة في "إفريقيا". شقّت ساقاي طريقهما بين سُباب الحناجر الماجنة ونظرات الذين يرقدون تحت "عيون لا تنام". اتجهَت أشلائي إلى باب النعاس وركبت الحافلة التي تقود إلى الساحل، حيث زرقاء القسوة بنَت لها هناك "مزار" وحجاب.
أوقفني الحاجب واستفسر: " جئت تزور أو تحبّ الدّخول؟ " ثمّ واصل كلامه بصوت لا أدري هل كانت نغمته شقاء أم لامبالاة. " إذا كان للزيارة بوركتَ وبوركتْ هديّتك. وإن كنت تنوي الدّخول على زرقاء القسوة فمِن سنوات صفّحت بابها.. وترى الخلاص من وراء الحيطان ".****
أصابتني الحشمة.. في أن أروي مشكلتي أمام جمع من الناس. وأمام غرائب الحكايات والشكاوي التي سمعتها من غيري، قلّ إلحاحي في الدخول المستحيل. دفعت للحاجب ما يلزم و"حكيت" مشكلتي. حوقل مَن حوقل وبسمل من بسمل ولكن كأنّها العادة ودون كثير استغراب!! وجاءني أنين من الدّاخل سمّر الحاضرين وأصابني بالرّعشة الباردة:
" عليك أن تشقّ البحر. شؤم الضربة لا يصيب من فصله البحر عنها.
سارع وشقّ البحر قبل ثلاث.
اقرأ واطلب المعرفة.. سيُردّ لك وجهك. يا غريب"
نزلتُ في بحر المطار الغارق في الألوان وصخب المسافرين المرح. كثيرة هي الأصوات والحركة والألوان، الأناقة وتبادل الآفاق. تأكّدتُ بحدس غريب رغم غمز مراقبي الجمارك وأسئلة شرطة الحدود الاستفزازية، أنني فعلا وصلت إلى بلاد الأنوار والمعارف، شعور قويّ ومبهم انتابني بأنني هنا.. يمكنني استعادة وجهي الضائع.****
سبحَت بي خيالات وممرّات كلّها تقودني إلى الإمساك بذاتي المفقودة ومرحي الضائع. ما أحلى المشي على أرض ثابتة!... لعلّ المأزق الذي عشتُه هو الذي دفعني إلى القطع مع تردّدي المعتاد، فلو لم يكن ذلك اليوم الذي لم أر فيه وجهي لما شحنتُ كل طاقاتي في اتجاه واحد... ولو لم تكن تلك المرآة القاسية لبقيتُ أراوح في مكاني أتموّج مع أشباح مواطنيّ ودم المسيح الأحمر ونادية أو نبيلة لا أريد أن أذكر. وإذ غمرني شعور فيّاض رحت أبتسم في وجوه كلّ الذين أعترضهم، كنتُ مبتهجا بالناس هنا فرِحا بهم، وجودهم حولي كان هديّة لي أدفأتني بالبهجة والثقة.
دخلتُ أوّل مقهى اعترضني في "أنطوني" فوجدت نادلا صفراويّ الابتسامة كان يتحدّث مع ثلاثة من البدون~مأوى وكانوا يقولون إنّهم لا يحبّون العرب والمسلمين! لم يصدمني قولهم. لا فقط أنّهم من "البِدُونْ"... مأوى وأنّ النّادل عجوز كريه، بل لأنني أعرف أنه يوجد في كل مكان أناس يضطرّهم البؤس المادي والمعرفي السّاحق إلى طمس كلّ تبيّن عندهم وتمسّكهم بكلّ "سهولة" ترفع عنهم شعور الحضيض.. لذلك لم أبتئس لقولهم بل إنني بادلتهم ابتسامة ظننتُ أنها قد تدخل عليهم بعض الدّفئ والتردّد في الأحكام. وبادلوني بما لا أدري هل هو ابتسامة أم خوف..
طمأنتُ نفسي بأنني على كلّ حال لم آت إلى هنا لإقناع العاطلين و"البدون" البيض. جئت إلى هنا لأنّ زرقاء القسوة اضطرّتني لذلك وقالت لي بصيغة الأمر الذي لا مهرب منه: وحده توافر المعرفة وبحر الحرّيات هو ما سيردّ لي شروط حياتي.. أيْ وجهي. واستهواني ذلك. ستكون المكتبات والمسارح، مراكز البحث والمنتديات، حلقات النقاش وشوارع الاختلاف.. نعم ستكون هي أماكني. وأهل العلم والإنسان لا يضيقون بطالب معرفة أبدا. بل إنني متأكّد في صميم نفسي أنّهم على العكس سيرحّبون بي.
كنتُ أتمتّع بشرب قهوتي، إذ دخلَت على رأسي حكاية أربكَت عليّ انسيابي اللّذيذ، وهي ما سمعتُه عن ضرورة توافر، ولو لطالب معرفة، شروط إقامة. لا يمكن أن أتقبّل فكرة أن يقطعوا عليّ تجوالي في اتجاه البحث عن ذاتي قبل أن أصل إليها فحينها تكون الكارثة. كارثة لا قِبل لي بها. هذه الحكاية اللّعينة أزعجتني بما يكفي لكي أقرّر حلّها منذ البداية وبأسرع وقت. ولكن لا يجب أن تأخذ منّي وقتا طويلا، فالشوق إلى وجهي يستبدّ بي كلّ يوم.. وما عليّ أن أبحث فيه كبير جدّا وقد يتطلّب شهورا أو سنوات. هذا الخاطر الأخير زاد في انزعاجي وشعوري السّريع بالوحشة. كيف يمكن لي أن أظلّ لسنوات بلا وجه؟! يجب أن أطرد كلّ هذه الخواطر وأن أسرع في البدء. قرّرتُ أن أسخّر شهرا واحدا لمسألة الأوراق. وبعده أستطيع أن أتفرّغ لبحثي.
الحلّ واضح! ولا يتطلّب المداورة أو التفكير الكثيرين. عليّ أن أتزوّج. هذا هو الحلّ الوحيد بعد أن حنّ الإنسان الأبيض من جديد للحواجز والجدران بُعَيْدَ أن حطمها هو ذاته كما حطّم جدار الصّوت!!
وكيف لي أن أتصرّف بعدما أصابني؟ وبعد أمر زرقاء القسوة؟ لا سبيل للعودة إلى البلاد المشوّشة. يكفيني ما أنا فيه من ضياع. ولا سبيل للوهم فأيّ إدارة ستتفهّم مطلبي وسرّ بحثي: مثقف تاه عنه وجهه؟!
سترميني الإدارة، أيّا كانت، بالخبَل.. ويقذفون بي مقيّدا في أوّل طائرة أو باخرة إلى حيث الغبش. ولن يتورّعوا عن خنقي بأيّ شيء يجدونه على مقربة منهم إن أنا حاولت الرّفض... كما فعلوها مع غيري.
حتى لا يضطرّني أحد لمغادرة هذه البلاد قبل أن أجد ما أبحث عنه عليّ أن أنفّذ زواجا ما.. في ظرف أسبوع! وليهزأ أو يستنكر مَن أراد.. فالذي دفعته بلاده بلا وجه لا يمكن أن يترك وجهه عند أحد!!
كانت رفيقة نضال قديمة هناك قد حدّثتني عن يساريّة هنا تهتمّ بتفاصيل العالم الثالث وقد كلّمتها عنّي، وأبدت الأخيرة استعدادها لمعاونتي وتفهّمها للحال واستعجال القرار. اتفقنا على موعد، مساء، في إحدى مقاهي "الناسيون".
قضينا خمس ساعات تكلّمَت هي ثلاثة أرباعها. عاكس الحديث كلّ توقّعاتي. عوضاً أن أشرح لها أنا، صارت هي تجهد في إقناعي.. بأنّ الزواج ضروري وأنّه لن يقع أيّ إشكال بيننا.. وأنّه فقط إجراء إداريّ.. رُحتُ أنا، أمام عجبي، أعرض عليها ما قد يطرأ من إشكالات وهي لا تتوقف عن عرض مقترحات وحلول.. وكأنها لا تريد لي سوى إنقاذي من براثن العمى. فرحًا كنتُ بالناس هنا وكلّي ثقة بهم، لم أنتبه بالجدّية اللازمة لهذا الحديث المقلوب... رغم الهمس المندهش في رأسي.
وكان أن اخترت هذه المرأة العالمثالثية والتي لا ترى إلاّ الحلول ما ظننت منها وما لم أظنّ..
ذهبنا إلى البلديّة في اليوم التالي وتحدّد موعد الزواج بعد خمس وعشرين يوما وصادف أن يكون ذلك اليوم يوم ثلاثين مارس (آذار). يوم الأرض. استبشرتُ بذلك، وأدخل عليّ لذة الدّليل.. على أنّ هذه البلاد ستقدّم لي بعد الأرض وجهي. واتفقنا أن نتقابل مباشرة في ذلك اليوم الموعود في مقهى قريب من البلدية. انشغلتُ في الأسابيع الثلاث المتبقية بتوفير سكنى لي وتحضير برنامج بحثي ومعاشي، ووجدتُ رغم ضخامة المادة المتوفرة أنّ البحث هنا طبيعي وميسّر وهو ما كنت أتوقعه، اشتركت في عدّة مكتبات واشتريت بعض الأسفار والمجلات.. رحت ألامسها وأشمّها بحنان وكأنّي أداعب النّهد المستور، فهذه الكتب والملفات الصحفية هي التي ستردّ لي وجهي.
وكان يوم الأرض قاتما مرعبا. زلزل كياني المفكّك وفتح أمامي هوّة أخرى لم تنغلق ولا يمكن لها أن تنغلق. جرحا فاغرا سيظلّ ينزف وجدتُ وجهي أم لم أجده.****
حزينا كان واللّيل المجنون مكتئبا.
ظهيرة السّبت كان رئيس البلدية مرحا وأنا قد التبست عليّ اللحظة وارتبكتُ، فكأنّي لم أرها من قبلُ.. هذه التي ستكون "زوجتي" لسنة أو سنتين. شعور غامض نغّص عليّ حالي لم أدر له سببا. وبينما المسؤول المرح يقرأ نصّ التقاليد القانوني تصاعدَت بداخلي هواجس سوداء لا رسم لها ولا صفات، تكاد توقف عليّ تنفّسي. " يجب أن أفكّر " هذا كلّ ما وجدتُ قوله! لا أدري لماذا ولا معنى أنني "سأفكّر". لم تكن لي كلمات أخرى. جذبني الشاهدان وهما يبتسمان وراحا يردّدان عليّ ما أعرفه مِن أنّني أوشكت على حلّ مسألة الإقامة في الغرب وأنّها مسألة، هذه السنوات الأخيرة، غدت صعبة ومعقّدة وأنني على العكس يجب أن أكون سعيدا وأن أستعجل وإلخ وإلخ من أشياء أعرفها ولا تطمئنني الآن. وتكثّف إلحاحهما حدّا استرجعاني به إلى أمام المشهد.
ختم على نفسي سؤال رئيس البلدية: هل تقبل؟ ظننتُ أنّ "النعم" لن تخرج. ولكنّها خرجت. سألها هي فأجابت بالقبول. وقبلَ أن يشير علينا بما كنتُ في تلك اللحظة أتوجّسه خطَفَت رأسي بين يديها وأمسكتْه بكلّ ثقلها وخُيّل إليها أنّها تقبّلني. حاولتُ التنصّل وفكّ حصاري وإبعاد رأسي المتقزّز. وكان الغثيان. وعمّ السّواد.
قادتني إلى بيتها عنوة. قالت إنها لا تستطيع أن تذهب معي يوم الاثنين إلى الإدارة ما لم تسترجع نفسها، ولا يمكنها أن تُبعد اضطراب نفسها دون مضاجعتي... هكذا قالت ودون مقدّمات.
داخَلَ رأسي لسماع فحيحها إعصار عنيف ورهيب. دوّامة عصفت بي بكلّ ثقلها. كيف لي أن أتصرّف الآن؟ بعد أن قضى كلّ شيء. وما عدتُ أستطيع التراجع. إلاّ بأن أحطّم كلّ ما فكرتُ به وما قرّرته منذ أسابيع كالدّهر. كيف لي أن أعود الآن إلى البلاد دون وجه.. وأن أنتظر الطلاق الذي قد يتطلّب إن عاندت سنوات. وأنا الذي لا وجه لي قطعتُ بحدّة كلّ العلائق هناك وكلّ هذه المسافة كي أستعيد ما غاب عنّي. لا غيره.
عليّ أن أقاوم، هي محنة أخرى. يجب أن أجتازها هنا لا خيار. لا خيار لي غير الاستمرار. حاولتُ أن أطمئن نفسي بأنّها لن تكون إلاّ مرحلة صعبة سأجتازها وستليها أخرى. ما دام الثمن هو إقامتي في بلد المعرفة التي ستعيد إليّ كياني. وحدة كياني. سأحاول أيضا أن أذكّرها وأقنعها بأنّ ما تطلبه منّي لم نتّفق عليه.. سأقول لها أيضا بأني مُتعب وجِدّ منشغل بمسائل أخرى معقدة وأن لا طاقة لي الآن ولا رغبة. وسأقول لها وسأقول لها...
هكذا اضطرب عقلي بين رعب الدوّامة وغثيان ما تطلبه ومحاولاتي العابثة لطمأنة نفسي. لا، لن أضيع، سأكون أقوى من هذه العاصفة. فهي على كلّ حال لن تكون "سخطة" أكبر ممّا أصابني ذلك الصباح المشؤوم أمام المرآة. لن يكون القادم، هكذا ظننت، بأخطر على نفسي وجسدي من فقدان وجهي.
وكان اللّيل القادم موحشا وثقيلا.
دخلتُ منزلها الكريه وعقلي كأنْ قد جمّدته الريح والبرد.
تفَصّدَتْ عن ثيابها.. وصار المشهد أكثر رعبا. جسدٌ لا جسد له. " بْدَنْ مّهْمِشْ ". ماذا أقول؟! جمّد المنظر كلّ مفاصلي واتّحد الرعب بالقيء. وانتحب الكيان يومه الفقيد ولطّخته القسوة. كرهتُ نفسي بأكثر من كرهي لهذا المكان السّليط. سجن الغثيان والضرورة. اقترَبَتْ وكان جحيما. ونكالا. تراجعتُ إلى الخلف محاججا بأنّه لا بدّ لي من أخذ "حمّام"، علّني أنقذ نفسي لدقائق أخرى معدودة.. ولكن كم هي ثمينة قبل هذا الانحطاط. الماء سينقذني قليلا من السّقوط، فتأجيل الهول ولو للحظات، جنّة أحيانا.
دخلتُ تحت الماء. استبدّ بي الصّحو. لم يكن "الدّوش" محيطا لا سفن فيه ولا أخشاب لأسير فيه طالبا الغرق بكلّ قواي. كنتُ قاسي الصّحو. بقيتُ ساعة.. دقَّت الباب وطلَبَت منّي: هل كلّ شيء على ما يرام؟ صفعَني سؤالها. أوقفتُ نافورة الماء. جفّفتُ جسمي القربان. تقدّمتُ بخطى ثابتة حمقاء. جلستُ عاريا على الدّيوان أنتظر انقضاضها عليّ، طالبا من السماء والأولياء وجسدي والشياطين ولستُ أدري مَن أن يُخفّفوا علىّ اغتصابي العاهر.
مدَّت يدها الأفعى تجاهي ثمّ راحت تلحس هذا الجسد العبد. ولم أعد أرى بوضوح.. دعاني القمر البادي من وراء النافذة إلى التحديق فيه، ها هو قرص أصفر يشهد طغيان واقعتي.. وسرعان ما داخلني ظنّ بأنّه يشارك كلّ هذا المكان سفاهته، وبانَ لي اكتماله تعال حامض كريه. شُحتُ بوجهي عنه وعن بلاهته.
كان السّقف رحمة لي. تأمّلتُ طوله وعرضه، خمّنتُ أمتار مساحته، كان الدّهان أبيض متّسخا، لا، كان من الخفّاف الأبيض المنقّب، مقسّما إلى سبعة مستطيلات طولا وأربعة عرضا. بدأتُ عدّ الثقوب الصغيرة داخل احد المستطيلات وجدتها تقارب التسعمائة، شككتُ، أعدتُ الحساب، وجدتُها ألف ومائتين، قرّرتُ أن أعيد مرّة ثالثة العدّ.. وإذا بثقلها الدّامي يلفّني ويعتصرني اعتصارا. أعادتني إلى المشهد وقد مضى وقت طويل لم أكن أدري ما تفعل بي، ثمّ ابتعدَت قليلا وآثار "القيظ" على جسدها المقيت تطلب منّي أن "أداعبها".. وامتدَّت يدان نحو خشبة جسمها اللاّهث. ويا لهول ما تحسّستُ ورأيتُ... "كركبات" سوداء صارت تتكوّن أمام عينيّ الفاغرتين اللتين أنهضهما مشهد الوسخ المرّ على ذاك الجسم. يا للرّعب ليلة ما أسمته "عرسها أو استعادة نفسها" تكون متسخة إلى هذا الحدّ ! القذارة السوداء وقد تكوّرت وتراكمت استجابت لتلك اليدان. يداي!!! وتجمّدت اليدان في حركة آليّة من السقوط الصّاعد والسقوط الهابط. مَرَّ أبدٌ مُرٌّ حتى علا فحيحها، مسخرة للشهوة. ثمّ شهقت كأنّها تطعنني، أنا المشدوه أمام الواقعة العجرفية. وفاحت روائح نتنة وانفتح فمها على ما يشبه أنّها أنهت. لم أرَ ولن أرى.
بقيتُ ساعة.. ساعتين تحت الدّوش ألعن فيه كلّ وجودي الأغبر وأرتعد من هول ما رأيت.
حاججت بعدها، وكانت الرّابعة صباحا، في الخروج. لا أريد إلاّ الخروج. إلى متاهات لا رائحة لها ولا منظر. إلى الهواء علّي أجد متنفّسا. أو مكانا للصّرخة. أريد أن أصرخ حتى تسمعني كلّ الأرواح التي غابت عنّي هذه الليلة، وتركتني وحيدا أشهد ما لا يمكن وصفه من وسخ وحقد. ذهبتُ في اتجاه نهر "المارن" وصرختُ كأنّي وحيد الفاجعة يوم الكابوس الأخير.
ولم تكن تلك الليلة الأخيرة.
بل بداية الشؤم الذي ظلّ يلاحقني.
وكان يوم الأحد. لم أر شمسا لا معنى لها كذاك الصباح. لم يكن ظلاما وظلما كذاك الصباح. ولم يستهوني ماء للانتحار كذاك الماء.
شلّ السكون الأهوج جسدي وانتكستُ تحت شلاّل المشاعر المختلطة وانتفاضة الأعضاء. عيناي كرهتني. يداي حقدت عليّ وصدري وعضوي وكلّ خليّة فيّ لعنتني. كيف جررتهم إلى عيش ما لا يتحمّله إنس ولا جانّ ولا حتى خرفٌ سكران؟!
شفّ لحالي الحجر قليلا وأفسحَ لي بعض المكان أجلس عليه وقدماي في الماء. كأنّي لم أكن ولا كنتُ. لم يكن جسدي شظايا ولكن حقدا مريرا ونازفا. كان جسدي يعيش حربا أهليّة قذرة، وكنتُ فقط الوحل الذي ينعى تلك الحرب. ما أتعس الشعور بالحقارة. أعضائي كلّ أعضائي تقذف في وجهي الغائب: حقير! حقير!
كيف لم أمت لحظتها؟ لم يكن الماء أو الدم بقادر على غسل العار ولا محوه. القذارة كانت والرعب كان. الاغتصاب كان والفحيح. عجرفيّتها كانت والشرخ المقيت. آه يا أوراق هذا البلد! الدّود الكريه نزّ عليك البارحة القيء الأسود والأوساخ ذات الألوان. والدّود الكريه كان "شقراء" تمرّغت بوحلها على جسدك الغريب والمقيّد..
لماذا هربتَ مني يا وجهي؟ ولماذا يا زرقاء القسوة أمرتِني بشقّ البحر وسلّمتني بعمى لا نهاية له إلى اغتصاب الحال؟ ولماذا تركتني يا وطني أبحث عن وجهي في بلاد الغربان؟ ولماذا لم أنصت إلى همس العقل وإ...
قطع عليّ أسئلتي أحدهم يطلب منّي سيجارة. دخانا يطلبون منه دخان.