خطبة الجمعة - لكي لا تعود المحنة إذا غابت ...
الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك. سبحانك اللهم لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله. خير نبي أرسله. أرسله الله إلى العالم كلِّهِ بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد و...على آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين. وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى. أما بعد فيا عباد الله:
إني لأرجو أن يكون الزمن المتبقي لزوال هذه المحنة أياماً قليلة معدودة، ولكني أؤكد لكم أنني لا أنطلق إلى هذا الرجاء من رؤية أسباب مادية وأنشطة سياسية ونحوها تتحرك على الأرض، وما كنت معتمداً على هذه الأسباب أيضاً يوم تحدثت عن مقدم هذه المحنة قبل سنتين أو أكثر تقريباً، وإنما هي رؤيا أُرِيْتُها عند قدوم هذه المحنة ولدى زوالها، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يحقق ما قد أرانيه في إقبالها بالأمس وفي إدبارها اليوم. ذكرت لكم هذا مقدمة بين يدي تذكرة أتوجه بها إلى نفسي أولاً وإليكم ثانياً أن ننفذ جملة من الأوامر بل الواجبات التي يخاطبنا الله عز وجل بها على أعقاب زوال هذه المحنة التي ستنقضي قريباً بإذن الله عز وجل. هنالك عدة واجبات ما ينبغي أن نعرض عنها وما ينبغي أن نستهين بها، أول هذه الواجبات أن علينا أن نعلم أن الله عز وجل أقامنا في كونه هذا في عالم اسمه عالم الأسباب، لاشك في هذا ولا ريب، فما من قضاء يقضيه الله عز وجل إلا ويجعل بين يديه سبباً. إن هذه المحنة كان لها أسبابها يوم أقبلت ولسوف نجد أن لها أسبابها يوم تدبر، ولكن يجب أن نعلم جميعاً أن هذه الأسباب شكلية لا فاعلية لها وإنما الفاعلية لمسببها، ينبغي ألا تحجبنا الأسباب ولا يحجبنا عالم الأسباب عن المسبب الأوحد وهو الله سبحانه وتعالى، ينبغي ألا تحجبنا اليد التي تمتد إلينا بالعطاء أو تمسنا ببأساء ينبغي ألا تحجبنا هذه اليد عن صاحبها الذي هو الذي يفيد ويضر، يأمر وينفذ، يجب ألا يحجبنا تحرك الجنود عن القائد الذي يأمر والذي ينهى والذي إليه التنفيذ، هذا الواجب ينبغي أن نعلمه جيداً يا عباد الله، وعندما نتدبر كتاب الله نجده مليئاً بهذه التذكرة، تأملوا في حديث القرآن عن بني إسرائيل والمحنة التي أرسلها الله عز وجل إليهم، تأملوا في السبب وتأملوا في المُسَبِّبِ:
(وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً * فَإِذَا جَاء وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً) [الإسراء: 4-5]
الرائي إلى الوضع يظن أن بختنصر هو الذي فعل وهو الذي نفذ وهو الذي قضى ولكن تأملوا في قوله تعالى:
(بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ)
جنود بيد الله - وما يعلم جنوده إلا هو. تأملوا في هذه الحقيقة كيف تتجلى في هذه الآية التي تمس واقعنا اليوم بشكل مباشر:
(قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ) [الأنعام: 65]
هل هذا الذي نراه محبوس ومسجون في عالم الأسباب المادية؟ معاذ الله، يجب أن نعلم أنها أشكال يحركها الله عز وجل، والمحرك هو الله، والمسير هو الله، فهذا هو أول واجب ينبغي أن نتبينه دائماً.
الواجب الثاني: قد نتساءل فما هو السبب الذي جعل هذه المحنة تقبل وما السبب الذي جعلها اليوم تدبر؟ ينبغي أن نعلم أيها الإخوة انطلاقاً من الواجب الأول الذي ذكرته لكم أن السبب في قدوم هذه المحنة أو في إرسال الله عز وجل لها إلينا معاصٍ ارتكبناها، تجاوزات تجاوزناها، تجاوزنا الخطوط الحمراء التي بين لنا كتاب الله عز وجل أن على المؤمن ألا يتجاوزها، تجاوزناها، ولعلكم تذكرون، ولم يُتَح لكثير ممن كان يعيشون في هذه البلدة أن يُذَكِّروا وأن ينبهوا وهذه مشكلة أخرى، وقوع المنكر مصيبة والسكوت على المنكر مصيبة أخرى، فهذا هو سبب إقدام هذه المحنة، ولعلي أوضحت ذلك في مناسبة مرت، أما سبب زوال هذه المحنة التي ستذهب عما قريب جداً فإنما هو الضراعة التي يتضرعها عبادٌ لله عز وجل فوق هذه الأرض المباركة، التجاءات، دعاء، ابتهال، وقوف كثير من عباد الله عز وجل الذين قد لا نعرفهم ولكنهم أصفياء، ولكنهم أولياء لله عز وجل وفيهم الأبدال، هذا التضرع الدائب، هذا الالتجاء المستمر لاسيما في الهزيع الأخير من الليل هو السبب في زوال هذه المحنة. لعل فيكم من يقول: ولكننا نلتفت يميناً وشمالاً فلا نرى مظهراً لهذا الالتجاء! أنت لا ترى نعم، رأيت شيئاً وغابت عنك أشياء، صحيح أنت لا ترى ولكنك لو حكمت عقلك لبصرك عقلك بهذه الحقيقة، الأبدال الذين أخبر عنهم رسول الله r موجودون نعم، والأصفياء الذين يستجيب الله عز وجل دعاءهم موجودون، والذين وصفهم رسول الله قائلاً: (رب أشعث أغبر ذي طمرين باليين مدفوعٍ بالأبواب لو أقسم على الله لأبرَّ قسمة) موجودون، ومن شأن رحمة الله عز وجل أنه يرحم الطالح بالصالح، نحن في كثير من الأحيان نركب رؤوسنا في ارتكاب المحرمات ولكن الله عز وجل سيرحمنا نحن الطالحين ببركة هؤلاء الصالحين، فهذا هو الواجب الثاني الذي يجب أن نعلمه. إذا علمنا هذا فلننتقل إلى الواجب الثالث الذي يجب أنبه نفسي وأنبهكم إليه.
رُبَّ قائل يقول غداً: إذا غربت هذه المحنة وغدت حديثاً من أحاديث التاريخ والتفت يميناً وشمالاً وإذا بالأمن والطمأنينة عادا إلى ربوع شامنا هذه لعله يقول: لم يعد ثمة حاجة إلى الالتجاء إلى الله، لقد نفّذ الله ما قد التجأنا إليه من أجله، لم تعد ثمة حاجة إلى الضراعة، بل لربما قال: لم تعد ثمة حاجة إلى الاستقامة أيضاً على أوامر الله عز وجل. لا لا يا عباد الله، هذه خطيئة قاتلة يضعها الشيطان في طريقنا. الإنسان في كل الأحوال بأشد الحاجة إلى أن يضرع ويلتصق بأعتاب الله عز وجل، إن كان يمر بمحنة، يمر بابتلاء - وما أكثر أصناف الابتلاءات - فحاجته إلى الضراعة واضحة، يلتجئ إلى الله عز وجل ليرفع عنه هذا البلاء، وإذا عافاه الله سبحانه وتعالى عن البلاء أياً كان فحاجته مستمرة يدعو لله عز وجل أن يبقي له نعمة هذه العافية، يدعو الله سبحانه وتعالى أن يبقي له هذه النعمة ولا يستبدلها بنقمة، إذاً فالإنسان في كل الأحوال محتاج إلى الله عز وجل، والحصن الذي يقي أمن هذه البلدة والذي يضمن ألا تعود هذه المحنة - ولسوف تذهب إن شاء الله - هذه الضراعة، وانظروا إلى كتاب الله كيف يذكِّر وكيف ينبه:
(إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ) [الأنفال: 9]
جعل الاستغاثة سبباً للاستجابة.
(فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ) [الأنعام: 43]
أي هلا (إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَـكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ) [الأنعام : 43]
(قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ) [الفرقان: 77]
لاحظوا هذا الكلام العجيب (قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ) الدعاء نعم.
(وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) [الأنبياء: 90]
ينبغي أن نعلم هذه الحقيقة أيها الإخوة، الالتجاء إلى الله وظيفة العبد في كل الأحوال، عندما أكون مبتلى أدعوه كي يرفع عني البلاء، وعندما يرفع عني البلاء أدعوه أن يبقي هذه العافية، أن يبقي هذه النعمة ولا يرسل على أعقابها النقمة، إذاً فالعبد دائماً دائماً مضطر إلى أن يكون ملتصقاً بأعتاب المولى سبحانه وتعالى.
الواجب الأخير الذي أذكر نفسي وأذكركم به، إذا أكرمنا الله عز وجل عما قريب وغابت هذه المحنة وتنفسنا الصعداء بعدها فإياكم أن تنسوا شكر الله عز وجل على ذلك، لعل فيكم من قد يظن أن شكر الله هو أن يحرك لسانه بكلمة الحمد لله، الشكر لله، لا يا أخي، هذا شكر تقليدي لا قيمة له عند الله عز وجل. شكر الله عز وجل على زوال هذه النقمة ومجيء النعمة بعدها أن ننقذ أوامر الله عز وجل وأن نعاهد الله ألا نعكف على لغو لا يرضاه لنا، ألا نعكف على محرم لا يحبه الله لنا، ألا نشرد عن صراطه إلى نهجٍ لا يحبه لنا، شكر الله أن نعلن اصطلاحنا مع الله على كل المستويات أيها الإخوة، هذا هو الشكر العملي وإنما يكون اللسان غطاءً لهذا الشكر العملي، وهل رأيتم غطاءً بدون وعاء؟ نعم يا عباد الله، لابد من أن نشكر الله عز وجل عندما تغيب هذه المحنة عنا، نشكره على مستوى القيادة، نشكره على مستوى جيشنا الباسل نعم، نشكره على مستوى وظائفنا وعمَّالنا ونشكره على مستوى الشعب كله، نعم ينبغي أن نكون جميعاً ألسنة عهد لله وألسنة توثيق منا مع الله سبحانه وتعالى أننا سنشكره بعد زوال هذه المحنة وقبل زوالها أيضاً، نشكره الشكر الذي يرضيه.
هذه واجبات ذكرتها ملخصة، أبدأ بنفسي نعم، أذكر نفسي بها ثم أتوجه بها إلى أحبابي جميعاً، أتوجه بها إلى إخواني، أتوجه بها إلى قيادة هذه الأمة، أتوجه بها إلى جيشنا الذي هو أولى الناس بأن يشم رائحة الاستشهاد هو أولى الناس بأن تقر عينه برؤية الله عز وجل عما قريب، أخاطب به كل فئات هذه الأمة، إذا عاهدنا الله عز وجل على ذلك فإن نعمة الأمن ستحصن، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
أما بعد فيا عباد الله: ثلة من العلماء نحسب أنهم علماء في الدين أو طلاب علم متمكنين شرفهم الله عز وجل بالمقام فوق هذه الأرض المباركة وشرفهم الله عز وجل بالانتماء إليها، عاشوا وتقلبوا في نعيمها سنوات طوال منسجمين مع نظام هذه الدولة وواقع حالها، راضين بكل ما يمكن أن تتصف به الدولة من أمور لا داعي إلى بيانها،حتى إن الرضا قد أنساهم الوقوف على بعض بل كثير من المنكرات ظهرت فيما بيننا وكانت من الخطورة بمكان، أنساهم الرضا أن يقفوا أمام هذه المنكرات بالإنكار، أنساهم الرضا أن يقولوا لأولياء الأمور إن هذا منكر، ونظرنا وإذا بهم قد ولَّوا اليوم وجوههم شطر محاور غريبة، محاور تخدم الحملة الأمريكية الصهيونية الإسرائيلية المعروفة، ولما استقر بهم في أحضان الممولين لهذه الحملة فوجِئْنا يتحدثون عن نبوَّةٍ جديدة على أعقاب نبوة محمد r خاتم الرسل والأنبياء، فوجئنا بأنهم يتحدثون عن وحي جديد مخالف للوحي الذي كانوا يقرونه ويَدْرسونه ويُدَرِّسونه، رأيناهم يتحدثون عن وحي جديد يتعلق بنظام الحكم والشروط التي ينبغي أن تتوفر في الحكم والحاكم والمحكوم وما إلى ذلك، وتأملنا فوجدنا أنهم ينفصلون بهذا الذي يتمسكون به عن الأئمة الذين سلفوا وشهدت لهم الأجيال كلها، ينفصلون بل يعرضون عن الإمام الشافعي، عن الإمام مالك، عن الإمام أبي حنيفة، عن الإمام أحمد، ونظرنا فوجدنا أنهم يدلون بأحكام جديدة لا عهد لها بها تتعلق بنظام الحكم وذيوله إلى آخره وقد أعرضوا عما قاله الأئمة، أعرضوا عما يقوله الإمام النووي في مجموعه، أعرضوا عما يقوله الإمام الماوردي في كتابه الأحكام السلطانية، وهو الذين كانوا يدرسون هذه الكتب، وهم الذين كانوا يعيدون ويذكرون ويبينون ويدافعون عن هذه الأشياء، ما الذي حصل، ما الذي جرى يا عباد الله؟ إنني أوجز الكلام في جملة واحدة أقولها لكم وكلٌّ منكم يعلم تفصيل هذه الجملة: ألا بئس الدين الذي يكون خادماً ذليلاً للسياسة الأمريكية الصهيونية الرعناء، ألا نعم السياسة التي تكون خادماً أميناً لدين الله الحقيقي الذي يبني ولا يهدم والذي يجمع ولا يفرق.
http://naseemalsham.com/ar/Pages.php...35242&bk_id=42
· ·