مجنون أحلام
قصة قصيرة، بقلم: د. حسين علي محمد
.................................................. .......
«صالوننا» طائرٌ في البراري، وسائقه معصوب الرأس، مفتوناً بغناء جميل، يتصاعدُ من إذاعة صنعاء:
يا ريم وادي ثقيــف لطيف جسمك لطيف
ما شفت أنا لك وصيف في الناس شكلك ظريف
وتحاول «أحلامُ» أن تُحرِّك شفتيْها بالغناء من تحتِ الخمار، و«العزي» سائق الصالون، يسألني:
ـ أغنية جميلة يا أستاذ ..؟
فأشير برأسي.
لكنه يريد مني إجابة، فأقول وأنا أضع يديَّ ـ كالبوق ـ على أذنه:
ـ ن .. ع .. مْ!!!
فيضحك!، ويقول:
ـ أنا كنت أقول إنها ستعجبك!
***
كنتُ جالساً منذ أسبوعين ـ في أواخر شعبان ـ على صخرة ناتئة، على جانبِ طريقٍ جبليٍّ عالٍ من أرض «الوصاب السافل»، حين رأيتُ الموجةَ ذاتَها، تخرجُ من بيتٍ قرميدي قديمٍ، وترُشُّ برذاذها وجهي، وثيابَ «عاطف».
كنا يوم خميس، وكنتُ صائماً، فاستعذتُ بالله من الشيطان الرجيم، وطلبتُ من عاطف أن نعود لسكننا لنجهز الإفطار.
نظراتُ «عاطفٍ» ـ صديقي، وزميلي في تدريس اللغة العربية في مدرسة معلمي بني علي، الذي يجلس جواري ـ تُلاحقها وهي تواصلُ انحدارها نحو البئر، خلف حمارٍ ضريرٍ ـ كما عرفتُ منها، فيما بعد ـ لتملأ من مائه «دابّتيْن»!
***
في اليوم التالي .. يوم الجمعة .. كانتْ عيناها ساعة الغروب قنديلين يضيئان سمائي، وأنا في طريقي لبقالة «قايد»، لأشتري ـ بالأجل ـ البامية، أو البازلاء، ودجاجةً صغيرةً، أطهوها بعدَ صلاة المغرب، ثم أذهب لبقالة قايد لأجلس على كرسي مهمَل قديم وأستمع للحلقةِ الأخيرةِ من مسلسل «هند، والدكتور نعمان» من بطولة كمال الشناوي.
كنتُ عائداً من بيتِ الشيخ محمد الأهدل حيثُ أشرحُ لابنه ـ في مدرسة المعلمين ـ درساً صعباً من دروس النحو، قبل الامتحان الذي يأتي بعد أسبوع.
انحدرتْ من شارع هابط إلى الطريق .. ومشتْ بجواري..
رافقتني إلي البقالة، وحدثتني عن طفلها اليتيم «عادل»، الذي لا يتحرك رغم بلوغه الخامسة، وعن بيتهم شبه المهدم بجوار المسجد الجامع الذي نصلي فيه الجمعة، ونحضر إليه مبكرين لنصلي ركعتيْن ثم نقرأ فيه «سورة الكهف» قبيل ارتقاء الإمام المنبر.
...
بجوار "بقالة قايد" خيمة هدمتها الأمطار والريح.
قالت:
«بيتنا يشبه هذه الخيمةّ!».
وابتسمتْ، في مرارة ..، وأنا، قاب قوسين أو أدنى من الموت إعجاباً بها، ولا يشغلني إلا بهاؤها، وجمالُ صوتها.
وكنتُ قدْ رأيْتُ وجهها عدة مرّاتٍ وهي هابطة إلى البئر، لتملأ الوعاءيْن.
كانت الطرقات ذاهلة، وكان الشيخ «قايد» مشغولاً بالمداعة، وبجواره ـ على الأرض ـ خنجره ومدفعه!، وطفل وطفلة يلعبان .. وهو جالس بملابسه الداخلية، ورذاذ المطر الخفيف تتشربه الأرض، كما يتشرب الخمارُ دموع الأرملة التي لا أعرفُ اسمها!
وهو يُضاحكني:
ـ المسلسل يعجبك يا أستاذ عبد السلام؟ .. باقٍ ساعة ونصف، سأنتظرك بعد صلاة العشاء.
ويأخذ نفساً من المداعة، ثم يضيف في صوتٍ حانٍ:
ـ لا بد أن تُشاهد معي الحلقة الأخيرة!
وأنا أقولُ مؤكِّداً:
ـ لا بد.
***
قال عبده، ابن الشيخ قايد ـ تلميذي في مدرسة المعلمين ـ أمام التلاميذ في الصباح:
ـ مع منْ كنتَ تمشي وتتحدّث يا شيخُ وأنت عائد من بيت الأستاذ محمد الأهدل مساء أمس؟
لم أجب.
أضاف:
ـ كنتُ عائداً من «بني محمد» فرأيتُكما أمامي في الطريق.
تجاهلتُ قوله، فأضاف:
ـ هذه الأستاذة "أحلام"!
قلتُ:
ـ لا أعرف اسمها!!
قال:
ـ ابنة المرحوم الشيخ عبد الله العلَوي، شيخ القبيلة السابق.
وأضاف، متبرعاً بتعريفي:
ـ وأرملة سلطان بن نايف العلَوي، المدير السابق بوزارة الخارجية، بصنعاء.
سألتُ مستفسراً:
ـ ولماذا جاءت إلى بني علي؟
ـ زوجها مات في حادث مرور، منذ عامٍ، وعادت لتقيم مع خالتها في بيت أبيها.
أردف موضحاً:
ـ تُناديها أمها!
كدتُ أسأل:
ـ ولكنْ، هل المرأة التي عاشت في صنعاء تستطيعُ العيش في هذه القرية الجبلية الصعبة؟ وتنزل لتملأ الماء من البئر؟
لم يُمهلني، فأكمل:
ـ هي حاصلة على بكالوريوس في التربية، وتُريد أن تسافر للقاهرة لتحصل على الدكتوراه! إنها تعمل معيدة بكلية التربية في جامعة صنعاء.
استفسرتُ:
ـ كيف تكون مُعيدة وهي مقيمة هنا أيام الدراسة؟
قال:
ـ بذلت وساطات، وأخذت إجازة لمدة عام!
ووجدها التلاميذُ فرصةً سانحةً للكلامِ وارتفاع أصواتهم، فاضطررتُ أن أتجاهل كلامه، وأمضي في شرح الدرس.
بعد خروج التلاميذ من المدرسة جاء عبده إلى حجرتي، وقال لي بعد أن تأكَّد من أنّني وحدي:
ـ كنتُ أول أمس مع زميلي مهند.
ـ من مهند؟
ـ ابن عم الأستاذة أحلام.
لم أتكلم، فأضاف:
ـ سألتني عنك، فقلتُ لها إنك دكتور.
ـ لم أناقش بعد الدكتوراه يا عبده .. سأناقشها الشهر القادم.
ضحك:
ـ ما تفرق يا أستاذ .. الأستاذ بركات مفتش اللغة العربية في ذمار قال لنا إنك دكتور في التاريخ من جامعة الأزهر، وإنك ستدرِّس هذه السنة فقط في بني علي .. أما العام القادم فقد تدرس في جامعة مصرية.
واستطرد:
ـ لماذا لا تبقى هنا لكي تدرس التاريخ في جامعة صنعاء يا أستاذ؟
***
أتوجهُ لصلاة الجمعة، أبطئُ من خطوي أمام باب دارها، الذي كان في هذا اليوم مفتوحاً. فوجدتها فرصة لاستراق النظر: رأيتُ طفلها ذا السنوات الخمس جالساً، وأمامه بعض اللعب، ورأيتُ وجهها سافراً، وكانت تكلم عجوزاً (عرفتُ فيما بعد أنها خالتها أو أمها كما تُناديها أحياناً).
سمعتها تقول: منذورة لسبع عجاف، يا خالتي.
وخالتُها تقولُ: فرحك قريب، ربما قاب قوس، أو أدنى، سأزوجك ابن أخي في ذمار.
فكدتُ أقع على وجهي ـ أنا الذي أحلم بها، وتُطاردُني في أحلامي ـ بين الصخور الناتئة!
***
كان «عاطف» قد ذهب صباح الخميس لزيارة صديقه «يوسف» مدرس اللغة العربية في قرية «الثلوث» بالوصاب العالي، وتركني .. فاستسلمتْ أبوابُ قلبي لخوفٍ مُقبل، وحزنٍ مُقيم.
ساعةَ خروج التلاميذ من المدرسة أبصرتُها.. أهي «أحلام»؟!
جاءت تسأل عن ابن عمها مهند، وعن مستواه في الدراسة.
كانت منقبة.
حينما رأيتُها على باب حجرتي، في المدرسة قلتُ لها:
ـ هل ستتزوّجين ابن خالك في ذمار؟!
ضحكت:
ـ ابن خالي حزام؟!! .. لا..
ـ هل هو متعلم؟
ـ إنه طبيب .. متخرج من موسكو.
ـ لماذا إذن لا تسمعين كلام خالتك؟
ـ إنه يريد أن يتزوّج الآن ويستقر.. وأنا ـ كما قلتُ لك ـ سأذهب مُبتعثة للقاهرة بعد خمسة أشهر، مع بدء العام الدراسي الجديد لأكمل دراساتي العُليا، في تربية عين شمس، ولأحصل على الماجستير والدكتوراه؟
قلتُ وقد فارقني اليأس:
ـ هل تذهبين وحيدة؟
ـ سآخذ ابني معي.. لأعالجه!
كانت شجرة النبق ذاوية الغصون، وكان طائرٌ غريبٌ على طرف الحجرة الشرقية يبكي جرحه الجديد، وكنتُ مثقلاً بالتأويل المُطارد لسر حبي القديم لهيفاء الذي ذبل قبل أن يكتمل، وعن فشلي المتكرر في تجارب مُشابهة، وتذكُّري لجراحٍ لا تبرأ!!
وتذكّرتُ «عاطف» ـ الذي كان منتشياً ـ ليلةَ الأمسِ وهو يسكبُ الملحَ على جراحي:
ـ كيف بلغتَ الثانية والثلاثين ولم تتزوّج بعد؟
وضحك:
ـ أنا في مثل عمرك، ولديَّ ولد عمره خمسة أعوام، وسيأتي مع أمه لنعيش معاً في ذمار في العام المقبل، سأدرس في مدرسة عثمان بن عفان الإعدادية للبنات ـ كما وعدني الأستاذ بركات ـ وزوجتي أخصائية اجتماعية سأحاول أن أجد لها عملاً في نفس المدرسة.
... وكنا ـ ساعتها ـ نستمع إلى أم كلثوم تشدو بأغنية قديمةٍ عن «أهل الهوى»، ونحن نجلس أمام سكننا في ضوء القمر، فالكهربا تُطفئ أنوارها في التاسعة مساء!
تعمل من السادسة للتاسعة فقط!
***
قالت «أحلام»:
ـ متى ستذهبان إلى صنعاء؟
ـ بل قولي متى ستذهب؟
ـ ألن تذهب مع الأستاذ عاطف؟
ـ ستنتهي علاقتنا بالمدرسة بعد إعلان النتيجة يوم 14 رمضان، ونأخذ من المدير «إخلاء طرف».
استفسرتْ بعينيْها، فأضفْتُ:
ـ سيذهب «عاطف» لصديقه يوسف في «الثلوث» بالوصاب العالي ليمضي معه أقل من أسبوع، ثم يذهبان إلى صنعاء للسفر إلى مصر في الثاني والعشرين من رمضان.
سألتْ:
ـ وأنت؟ ما خطتك؟
ـ سأذهب في صباح الخامس عشر إلى الحديدة لأمضي خمسة أيام هناك، لشراء بعض الهدايا لأخواتي، ثم أمضي إلى صنعاء لأقيم فيها يومين قبل العودة إلى مصر.
قالت في نبرة حاسمة:
ـ أنا مُسافرة إلى صنعاء في اليوم نفسه، في «صالوننا» الخاص. إذن آخذك معي إلى الحديدة.
ـ هل خالتك ستكون معك؟
ـ ستكون معي إلى أول مرحلة في الطريق، ثم تنزل عند بنتها في «الجرّاحي»؟
رأتني منشغلاً، فسألت:
ـ هل تعرف الجراحي؟
ـ نعم، نمِتُ فيها ليلة واحدة في فندق فقير، هو فندقها الوحيد كما أظن، ولن أنساها لأني أصبتُ فيها بالملاريا!!
ضحكتْ.
***
هانحن في منتصف رمضان. ويوشكُ اليومُ أن ينتصف .. أبدو مستسلماً في دِروعي الداجنة..
و«أحلامُ» ساكتة.. أو تحدِّثُ خالتها بصوت منخفض.
يجلسان في الكرسي الثالث.
وأنا أجلسُ بجوار السائق الذي يدندن مع أغنية شعبية لليلى نظمي تنطلق من إذاعة صنعاء.
وكأنه تذكّر أن معه أشرطة، فأخرج شريطيْن لصباح ومحمد رشدي من الدرج الذي أمامه.
...
«أحلام»؟!!
(أيمكنُ أن يكون هذا اسمها؟)
لم تسأل عن طقوسِ القتل أو شكل السلاح!
ليس لي أمل في شهوة الجموح، وأنا أستمع إلى صوتِها، أو أرى وجهها ـ كما رأيته في الطريق إلى البئر، أو أمام حجرتي بالمدرسة ـ فهي مُحاصرة بابنها "عادل" ذي السنوات الخمس، وخالتها العجوز.. والنسر الذي لم يطر منذ ثمانية أشهر، وقابعٌ في غُرفةٍ، في مدرسة، في بني علي، لا يبدو أنه قادرٌ على التحليق.. أو جامحٌ على التدجين!!
***
ما هذه الحشائش الطرية ... في سهولِ زبيد؟
باق أقل من ساعة ونصل إلى «الجرّاحي».. تلك القرية الملتهبة في أول يونيو..
خالتها نامت، ألاحظ أن كثيراً من العجائز ينمن في السفر؟ .. لماذا لا تكلمني «أحلام» عن بعثتها القادمة، وما ننوي أن نفعله معاً بحياتنا؟
أخَذَت عنواني في «المعَادي» ورقم هاتفي..
لماذا تجلسُ «أحلامُ» وحيدة في الكرسي الأخير من «الصّالون»؟
هل قطعتْ ـ قبلَ أن تجيء اليومَ معي ـ حبْلاً للعجوز، كي تغلق بابها الأخير، ورغبتها في الزواج من ابن أخيها في ذمار؟، وهل أخبرتها أنها تنوي أن تتعلّق في صارية نسر مصريٍّ جريح، هو نسرها الأخير؟.
وهل تجيء إلى «المعادي» تاركةً أحزانها في قمة الجبل؟
وهل تعودُ الحياةُ إلى ساقيْ ابنها في المُعادي فنراه يلعبُ مع أقرانه، بينما «هي» تصهلُ صهيلَ الأرض المتشققة للماء؟!!
***
أخبرتها أنني سأناقش الدكتوراه في التاريخ الإسلامي في هذا الصيف، وإنني سلمتُ الرسالة للمناقشين في أوائل سبتمبر الماضي، ونزلتُ من بني علي إلى الجراحي عدة مرات لأسألهم هاتفيا عن الموعد فقالوا في آخر يونيو، أي بعد تسعة وعشرين يوماً من الآن؟
***
سألتُ الشيخ الأهدل (وهو ناظر مدرسة معلمي بني علي، وحاصل على الماجستير في الشريعة من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية):
ـ هل من الممكن أن أتزوّج يمانية؟
فضحك:
ـ ولماذا تتزوّج يمانية، وأحد شيوخنا ـ عرفتُ فيما بعد أنه الإمام الشافعي ـ قال «من لم يتزوّج مصرية فليس بمحصن؟».
قلت جادا:
ـ أنا أسألُ: هل تمنعُ التقاليد والأعراف هنا زواجي من يمانية إن أردتُ أنا وأرادت هي؟
قال مبتسِماً (وهي عادةٌ له عند الكلام):
ـ لابد من الكفاءة.
قلت وأنا جاد:
ـ أنا من الأشراف؛ أمتلك وثيقة نسب مؤكَّدة من وزارة الداخلية.
وابتسمتُ:
ـ معي صورة منها، داخل حقيبتي هذه!
ضحك، ونظر في عينيَّ كأنه يعرف مقصدي:
ـ حسني أم حسيني؟
ـ حسني.
ـ إذن، على بركة الله، لا مشكلة!
***
هاهو «صالوننا» طائرٌ في البراري، وسائقه معصوب الرأس، مفتوناً بغناء جميل، يتصاعدُ من إذاعة صنعاء بعد أن أغلق المسجل:
يا ريم وادي ثقيــف لطيف جسمك لطيف
ما شفت أنا لك وصيف في الناس شكلك ظريف
يهز رأسه يمنةً ويسرة.
في كلِّ خطوةٍ موجة..
و«أحلامُ» المنتشيةُ بأشجارٍ تتكاثرُ في السهلِ.. تشيرُ إلى كلِّ موجةٍ في سيول زبيد.. وتعدني ـ قبل صهيل البداية ـ أن تظل شجرة مورقةً، ونهراً يدفق بالخصبِ، لا يقاربُه جفاف، وأن تظل دائماً الأم، والزوجةَ، والبنتَ.. وشجرة توتٍ أخضر، تعطي بامتدادِ الفصول والمواسم.
***
كنتُ مفتوناً، أغلق نوافذ فكري، لا أُفكِّر في العاقبة..
ألم أعرض عليها الزواج أمس؟ ووافقت؟
ووحدها.. كانت ترى الخضرة في الأفق، والأيائل في البراري، والشموسَ تضيءُ الغدَ، وابنَها ـ القعيدَ ـ يعدو في طرقٍ جميلةٍ مُعبَّدةٍ.
***
نزلت خالتها في الجرّاحي، وانطلق بنا «الصالونُ» إلى زبيد.. فالحديدة.
أراها تنظر إلى الأفق مستبشرة.
لم تتكلمْ بعُدُ..، فمازالت مدينة الحديْدةُ بعيدةً، والأرضُ مترامية. والخطى التي غادرت عتمة الوصاب.. تتأملُ في لحظاتٍ تليقُ ببداية جديدة!
الرياض 20/5/2003م