--------------------------------------------------------------------------------
الشعر البدوي في مقدمة ابن خلدون .. "بحث للدكتور سعد الصويان
"
--------------------------------------------------------------------------------
نقل أبوهمام الهلالي
عبدالهادي بن أحمد بن عبدالهادي بن محمود الدُّريدي الأثبجي
.................................................. ....................................
الشعر البدوي في مقدمة أبن خلدون .. "بحث للدكتور سعد الصويان"نقل أبورغد -منتديات الموروث
- المقالات والبحوث .
--------------------------------------------------------------------------------
الشعر البدوي في مقدمة أبن خلدون .. "بحث للدكتور سعد الصويان"
مرحلة انتقال الشعر في بادية الجزيرة العربية من النمط الكلاسيكي إلى النبطي ، يلفها الغموض ؛ نظراً لاتساع الفجوة الزمنية التي تفصل ما بين آخر نموذج وصلنا من الشعر البدوي الفصيح ، وبين أول نموذج وصلنا من الشعر النبطي.. تتسم هذه الحقبة من تاريخ الجزيرة العربية بالاضطراب ، وشح الوثائق المدونة .. فنحن لا نعرف بالتحديد المراحل التي مرت بها لغة الشعر في الصحراء العربية ، في تحولها من الفصحى إلى العامية ، ولا متى طغت العامية على اللغة ، وبدأ أعراب الجزيرة الأميون ينظمون شعرهم بلغة لا نتردد ولا نتحرج في إطلاق صفة العامية عليها ؛ لغة تخطت مرحلة الفصاحة وتجاوزت ظاهرة اللحن ؛ لتصبح عامية غامرة لا تخطئها العين .
إذا كان أقصى مرامنا أن نتبين متى تفشت العامية ؟ ؛ لدرجة أن بدو الصحراء صاروا ينظمون بها شعرهم ، فإنه حسبنا العثور ولو على بيت واحد من الشعر العامي الذي نعرف بدون شك نسبته والعصر الذي قيل فيه. وهنا تتجه الأنظار عادة إلى مقدمة ابن خلدون التي ظلت حتى الآن من أهم وأقدم المصادر التي يمكن الاستفادة منها ؛ لسد الفجوة الزمنية الواسعة التي تفصل ما بين الشعر الفصيح والشعر النبطي في بادية الجزيرة العربية . أورد ابن خلدون في مقدمته ، وفي بداية الجزء السادس من تاريخه عينة من قصائد بني هلال ، التي يرى البعض : أنها تمثل المرحلة الانتقالية من الشعر الفصيح إلى الشعر النبطي . وفي غمرة حماس هؤلاء لهذا الرأي فاتهم طرح بعض التساؤلات التي لابد من التحقيق منها قبل البت النهائي في قيمة المقطوعات التي أوردها ابن خلدون كنماذج لبدايات الشعر النبطي . من هذه التساؤلات مثلاً : متى نظم الهلاليون هذه الأشعار ؟ قبل تغريبتهم ؟ أم أثناءها ؟ أم بعد استقرارهم في المغرب وانقطاع صلتهم بالجزيرة العربية ؟ من قالها ؟ هل هم الأشخاص الذين تنسب إليهم أم أحفادهم الذين أرادوا تسجيل أمجاد أسلافهم وتخليد ذكراهم ؟ هل هذه الأسماء التي نسب ابن خلدون هذه المقطوعات إليها شخصيات حقيقية لها وجود تاريخي أم أنها من اختراع القصاص ومنشدي السيرة ؟ هل تلقى ابن خلدون المقطوعات التي أوردها مشافهة من الرواة أم أنه عثر عليها مخطوطة ؟ هل هذه الأشعار بداية الشعر النبطي أم بداية شعر السيرة ؟ هذه بعض القضايا التي سنتطرق لها في الأسطر التالية .
أجناس الشعر البدوي في المقدمة :
في الفصل المعنون بـ " في أشعار العرب وأهل الأمصار لهذا العهد" من مقدمته يتناول ابن خلدون شعر البدو ويتحدث عن خصائصه اللغوية وسماته الفنية والأدبية ، ويقدم في هذا الفصل وفي بداية الجزء السادس من تاريخه العديد من القصائد التي اقتبس معظمها من بدو بني هلال في شمال إفريقيا . ويؤكد ابن خلدون : أنه إذا ما أخذنا في الاعتبار ما يحتمه مرور الزمن من حدوث تغيرات طفيفة على لغة البادية ، فإن شعر البدو في عصره ، على خلاف الزجل والموشحات وغيرها من أشعار أهل الأمصار ، يمثل الامتداد الطبيعي لشعر الجاهلية وصدر الإسلام من حيث اللغة والشكل والوظيفة والأغراض ، وحتى في الأوزان والعروض : " أما العرب أهل هذا الجيل المستعجمون عن لغة سلفهم من مضر ، فيقرضون الشعر لهذا العهد في سائر الأعاريض على ما كان عليه سلفهم المستعربون ويأتون منه بالمطولات مشتملة على مذاهب الشعر وأغراضه من النسيب والمدح والرثاء والهجاء ويستطردون في الخروج من فن إلى فن في الكلام . وربما هجموا على المقصود لأول كلامهم وأثر ابتدائهم في قصائدهم باسم الشاعر ثم بعد ذلك ينسبون " .
ثم يردف قائلاً في القيمة الأدبية لشعر البدو : "ولهؤلاء العرب في هذا الشعر بلاغة فائقة ، وفيهم الفحول والمتأخرون . والكثير من المنتحلين للعلوم لهذا العهد ، وخصوصاً علم اللسان ، يستنكر صاحبها هذه الفنون التي لهم إذا سمعها ويمج نظمهم إذا أنشد ، ويعتقد أن ذوقه إنما نبا عنها لاستهجانها وفقدان الإعراب منها وهذا إنما أتى من فقدان الملكة في لغتهم . فلو حصلت له ملكة من ملكاتهم ؛ لشهد له طبعه وذوقه ببلاغتها إن كان سليماً من الآفات في فطرته ونظره ، وإلا فالإعراب لا مدخل لـه في البلاغة ، إنما البلاغة مطابقة الكلام للمقصود ولمقتضى الحال من الوجود فيه ، سواء كان الرفع دالاً على الفاعل والنصب دالاً على المفعول أو بالعكس . وإنما يدل على ذلك قرائن الكلام ، كما هو في لغتهم هذه . فالدلالة بحسب ما يصطلح عليه أهل الملكة : فإذا عرف اصطلاح في ملكة واشتهر صحت الدلالة ، وإذا طابقت تلك الدلالة المقصود ومقتضى الحال صحت البلاغة . ولا عبرة بقوانين النحاة في ذلك " .
لقد سرد ابن خلدون النماذج التي أوردها في مقدمته من الشعر البدوي بطريقة مضللة إلى حد ماء ، قد توهم القارئ المستعجل بأن هذه النماذج تنتمي إلى نفس الجنس ؛ إلا أن هذا السرد يمكن تقسيمه إلا ثلاثة أجناس:
1-أشعار ذاتية تاريخية لا نشك في نسبتها ، وهي التي نعتبرها بدايات الشعر الملحون في شمال أفريقيا .
2-أشعار تدخل في نطاق السيرة الهلالية وتعتبر الإرهاصات الأولى لها .
3-قصائد تقف في مواجهة بقية القصائد وتتميز عنها في كونها تأتي فعلاً من بادية المشرق ، وليس من بادية المغرب وهي بذلك تعتبر مثالاً جيداً لبدايات الشعر النبطي .
1 – أشعار ذاتية لشعراء هلاليين من المغرب . على الرغم من الاهتمام النظري الذي ابداه ابن خلدون تجاه شعر البدو في عهده ، وحديثه عن علاقة ذلك الشعر بالشعر العربي القديم الذي ترعرع في بلاد العرب ، فإن معظم النصوص الشعرية التي ساقها لم تأت من بدو الجزيرة العربية ، وإنما أتت من بدو بني هلال ، وقد قيلت بعد هجرة القبائل الهلالية واستقرارها في شمال أفريقيا ، بعيداً عن بلاد العرب . ومن المعلوم أن بني هلال وبني سليم بدأوا هجرتهم من الجزيرة على شكل موجات بشرية منذ نهاية القرن الرابع الهجري ، وكانت لغتهم – فيما يقال – فصيحة آنذاك وشعرهم فصيحاً . وبعد مرورهم على العراق والشام واستقرارهم لبعض الوقت في مصر اجتازوا إلى المغرب في أواسط المئة والخامسة .. يذكر ابن خلدون في بداية الجزء السادس من تاريخه : أن بني هلال وسليم انتقلوا إلى المغرب في أواسط المئة الخامسة . وبعد عدة أسطر يقول " وكان شيخهم أواسط هذه المائة الثامنة أبو ذئب وأخوه حامد بن حميد " . أي أن ابن خلدون جاء ليكتب عن بني هلال بعد ثلاثمائة سنة من استقرارهم في المغرب ، وبعد حوالي أربعمائة سنة من تركهم جزيرة العرب . أي أن هذه القصائد كلها جاءت في وقت متأخر ربما تجاوز مئتي سنة من قدوم بني هلال إلى المغرب بعد أن بدأت لهجة الهلاليين في شمال أفريقيا تختلف عن لهجة أسلافهم في جزيرة العرب ، وبعد قطعوا صلتهم بعرب الجزيرة . من بين هذه النماذج قصائد قالها المتأخرون منهم ، وبعضهم ممن عاصرهم ابن خلدون . وهذه لا نشك في نسبتها ولا في تاريخية الأحداث التي تطرق إليها ولا في حقيقة وجود الأشخاص الذين قالوها أو وردت أسماؤهم فيها . ينسب ابن خلدون هذه القصائد إلى قائليها من رجالات وشيوخ بني هلال الذين عاصر بعضهم ، ويذكر أسماءهم ويحدد المناسبات التي قالوا فيها قصائدهم والشخصيات التي وجهوها إليهم . من هذه القصائد قصيدة يوردها ابن خلدون لأمير من أمراء بني هلال كان قد وجهها إلى منصور أبو علي . ويقدم ابن خلدون للقصيدة بقوله " ومن شعر علي بن عمر بن إبراهيم من رؤساء بني عامر لهذا العهد أحد بطون زغبة يعاتب بني عمه المتطاولين إلى رياسته " . ومنها هذه الأبيات :
ألا يا ربوع كان بالأمس عامر=بحي وحله والقطين لمام
وغيدٍ تداني للخطا في ملاعب=دجى الليل فيهم ساهرٍ ونيام
ونعمٍ يشوق الناظرين التمامه=ليا ما بدا من مفرقٍ وكظام
وغدفٍ دياسمها يروعوا مربها=واطلاق من سرب المها ونعام
واليوم ما بها سوى البوم حولها=ينوحوا على اطلالٍ لها وحمام
وقفنا بها طورٍ طويل نسالها=بعينٍ سخين والدموع جمام
ولا صح لي منها سوى وحش خاطري= وسقمي من اسبابٍ عرفت وهام
ومن بعد ذا تدي لمنصور بوعلي=سلامٍ ومن بعد السلام سلام
ويقدم ابن خلدون القصيدة السابقة لهذه القصيدة بقوله " ومن قول خالد ( بن حمزة بن عمر شيخ الكعوب ) يعاتب إخوانه في موالاة شيخ الموحدين أبي محمد بن تافراكين المستبد بحجابة السلطان بتونس على سلطانها مكفوله أبي اسحاق ابن السلطان أبي يحيى وذلك فيما قرب من عصرنا " ونورد منها هذه الأبيات :
يقول بلا جهلٍ فتى الجود خالد=مقالة قوالٍ وقال صواب
مقالة حبرٍ ذات ذهنٍ ولم يكن=هريجٍ ولا فيما يقول ذهاب
تفوهت بادي شرحها عن مآرب=جرت من رجالٍ في القبيل قراب
بني كعب ادنى الأقربين لدمنا=بني عم منهم شايب وشباب
لاحظ في البيت الثاني استخدام " ذات ذهن " بدلاً من " ذي ذهن " ، وتنتشر ظاهرة استخدام الأسماء الخمسة بطريقة خاطئة في الشعر الهلالي وكذلك في الشعر النبطي القديم . كما نلاحظ اختلاف قاموس الشعر الهلالي عن قاموس الشعر النبطي في استخدام كلمات مثل " هريج " في الشطر الثاني من البيت الثاني بمعنى ثرثار وكلمة " قبيل" في الشطر الثاني من البيت الثالث بمعنى قبيلة .
وهذه أبيات من قصيدة سلطان بن مظفر بن يحيى من الذواودة ، أحد بطون رياح وأهل الرئاسة فيهم .. قالها في معتقله بالمهدية في سجن الأمير أبي زكريا بن أبي حفص أول ملوك أفريقيا من الموحدين ، يحن فيها إلى قومه ويتوجد على رؤيتهم . ( والقصيدة تذكرنا بقصيدة راكان بن حثلين ، شيخ قبيلة العجمان ، التي قالها وهو في سجن الأتراك ومطلعها : أنا اخيل يا حمزة سنا نوض بارق ) :
وكم من رادحٍ أسهرتني ولم أرى=من الخلق أبهى من نظام ابتسامها
وكم غيرها من كاعبٍ مرجحنه=مطرزة الأجفان باهي وشامها
أرى في الفلا بالعين أظعان عزوتي=ورمحي على كتفي وسيري أمامها
بجرعا عتاق النوق من فوق شامس=أحب بلاد الله عندي حشامها
إلى منزلٍ بالجعفريات للوى=مقيم بها ، ما الذ عندي مقامها
ونلفي سراةٍ من هلال بن عامر=يزيل الصدا الغل عني سلامها
بهم تضرب الأمثال شرقٍ ومغرب=إذا قاتلوا قومٍ سريع انهزامها
عليهم ومن هو في حماهم تحيه=مدى الدهر ما غنى بغين حمامها
فدع ذا ولا تأسف على ماضي مضى=فذي الدنيا ما دامت لحيٍ دوامها
وإضافة إلى هذه القصائد التي ذكرها ابن خلدون في مقدمته التي لا نشك في نسبتها ، ولا في صحة الأحداث التي تتحدث عنها .. يذكر كذلك في بداية الجزء السادس من تاريخه تفاصيل كثيرة عن بين هلال، ويورد لهم مزيداً من الأشعار : منها أبيات في مدح دريد ، أحد بطون الأثبج من بني هلال ، الذين يقول عنهم ابن خلدون .
" وأما دريد فكانوا أعز الأثبج كلهم عند دخولهم إلى أفريقية لحسن بن سرحان بنووبرة إحدى بطونهم " تقول الأبيات :
تحن إلى أوطان صبرة ناقتي*لكن معاً جملة دريد حوارها.
دُّريد سراة البدو للجود منقع*كما كل أرض منقع الماء خيارها.
وهم عرب الأعراب حتى تعرفت* بطرق المعالي ماينوفي قصارها.
وتركوا طريق البارمين ثنية*وقد كان مايقوي المطايا حجارها.
--------------------------------------------------------------------------------
2 – أشعار السيرة الهلالية . إلا أن الأسطورة تتداخل مع التاريخ فيما ذكره ابن خلدون عن بني هلال من أخبار وأشعار في المقدمة وفي بداية الجزء السادس من تاريخه ؛ لذلك نجده ، إضافة إلى النماذج الشعرية التي سبقت الإشارة إليها ، يورد في مقدمته وتاريخه نماذج أسطورية تندرج في أشعار السيرة الهلالية ، وتدور في فلكها . حينما نتفحص القصائد التي وردت في المقدمة مثلاً نجد ابن خلدون يقدم الأولى بقوله " فمن أشعارهم على لسان الشريف بن هاشم يبكي الجازية بنت سرحان .. " والثانية بقوله " ومن قولهم في رثاء أمير زناته أبي سعدي ..." والثالثة بقوله " ومن قولهم على لسان الشريف بن هاشم ... " والرابعة بقوله " ومن قولهم في ذكر رحلتهم إلى الغرب .. " وفي استخدام ابن خلدون لعبارة " ومن قولهم على لسان " في تقديمه لبعض القصائد المنسوبة إلى شخصيات هلالية قديمة تنصل من نسبة هذه القصائد ، وإيحاء قوى بأنها قصائد منحولة قالها المتأخرون منهم، وغالبيتها مما يدخل ضمن دائرة السيرة الهلالية ، أي أن الشريف لم يقل القصيدتين المنسوبتين إليه وإنما قالها الرواة على لسانه وأن قائليها وقائلي القصيدتين الأخريين غير معروفين ولا يمكن تحديد الحقبة التي قيلت فيها هذه القصائد . من هذه القصائد مرثية الزناتي خليفة والقصيدتان المنسوبتان إلى الشريف شكر بن هاشم .وتصادفنا في هذه الأشعار الكثير من أسماء الشخصيات والأحداث الأسطورية التي لا تزال تشكل جزءاً من السيرة الهلالية التي يتداولها الرواة حتى وقت قريب . خذ مثلاً هذه الأبيات من قصيدة الشريف :
ونادى المنادى بالرحيل وثوروا=وعرج عاريها علي مستعيرها
وسدا لها الأريا ذياب بن غانم=على يدين ماضي بن مقرب أميرها
وقال لهم حسن بن سرحان غربوا=سوقوا النجوع ان كان انا هو غفيرها
وخذ أيضاً هذين البيتين في رثاء الزناتي :
أيالهف كبدي على الزناتي خليفه=قد كان لا عقاب الجياد سليل
قتيل فتى الهيجاء ذياب بن غانم=جراحة كأفواه المزاد تسيل
ومما يقوي الافتراض بأن السيرة الهلالية كانت منذ ذلك الوقت قد أخذت في التبلور قول ابن خلدون :
" ولهؤلاء الهلاليين في الحكاية عن دخولهم إلى أفريقية طرق في الخبر غريبة : يزعمون أن الشريف بن هاشم كان صاحب الحجاز ويسمونه شكر بن أبي الفتوح ، وأنه أصهر إلى الحسن بن سرحان في أخته الجازية فأنكحه إياها ، وولدت منه ولداً اسمه محمد . وأنه حدث بينهم وبين الشريف مغاضبة وفتنة ، وأجمعوا الرحلة عن نجد إلى أفريقية . وتحيلوا عليه في استرجاع هذه الجازية فطلبته في زيارة أبويها فأزارها إياهم ، وخرج بها إلى حللهم فارتحلوا به وبها . وكتموا رحلتها عنه وموهوا عليه بأنهم يباكرون به للصيد والقنص ويروحون به إلى بيوتهم بعد بنائها فلم يشعر بالرحلة إلى أن فارق موضع ملكه ، وصار إلى حيث لا يملك أمرهاعليهم ففارقوه ، فرجع إلى مكانه من مكة وبين جوانحه من حبها داء دخيل ، وأنها من بعد ذلك كلفت به مثل كلفه إلى أن ماتت من حبه .
ويتناقلون من أخبارها في ذلك ما يعفي عن خبر قيس وكُثير ويروون كثيراً من أشعارها محكمة المباني متفقة الأطراف ، وفيها المطبوع والمنتحل والمصنوع ، لم يفقد فيها من البلاغة شيء وإنما أخلوا فيها بالإعراب فقط ، ولا مدخل له في البلاغة كما قررناه لك في الكتاب الأول من كتابنا هذا . إلا أن الخاصة من أهل العلم بالمدن يزهدون في روايتها ويستنكفون عنها لما فيها من خلل الإعراب ، ويحسبون أن الإعراب هو أصل البلاغة وليس كذلك . وفي هذه الأشعار كثير أدخلته الصنعة وفقدت فيه صحة الرواية فلذلك لا يوثق به، ولو صحت رواية لكانت فيه شواهد بآياتهم ووقائعهم مع زناته وحروبهم ، وضبط لأسماء رجالاتهم وكثير من أحوالهم . لكنا لا نثق بروايتها . وربما يشعر البصير بالبلاغة بالمصنوع منها ويتهمه ، وهذا قصارى الأمر فيه . وهم متفقون على الخبر عن حال هذه الجازية والشريف خلفاً عن سلف ، وجيلاً عن جيل ، ويكاد القادح فيها والمستريب في أمرها أن يرمى عندهم بالجنون والخلل المفرط لتواترها بينهم " .
ولا تخلو القصائد الهلالية التي أوردها ابن خلدون من بعض الظواهر اللهجية التي كانت قد بدأت تميز لغتها عن لغة الشعر النبطي منذ ذلك الوقت . ففي البيتين التاليين من قصيدة قيلت على لسان الشريف ابن هاشم نلاحظ في البيت الأول ورود كلمة " نحنا " بدلا من " حنا " أو ما يقابلها بلهجة أهل الجزيرة ، وفي الكلمة الأخيرة من البيت تلحق الشين في نهاية الفعل المسبوق بأداة النفي " ما " . وفي البيت الثاني نجد الفعل " نصدفوا " بدلا من " نصدف " ؛ إضافة إلى ظواهر لهجية أخرى مما يتميز به كلام أهل المغرب العربي ويقوم دليلاً على أن هذه الأبيات منحولة على الشريف الذي يفترض أنه من الحجاز ولهجته حجازية .
تبدي ماضي الجبار وقال لي= اشكر ما نحنا عليك رضاش
نجن غدينا نصدفوا ما قضى لنا=كما صادفت طعم الزباد طشاش
ونلاحظ في هذه الأمثلة : أن هناك فرقاً واضحاً في اللغة بين أشعار السيرة والأشعار الذاتية التي قالها أشخاص حقيقيون من بني هلال ممن لا يرقى الشك إلى وجودهم التاريخي . لغة أشعار السيرة ابتعدت عن اللغة البدوية وطغت عليها لهجة أهل المغرب ، مما يدل على شيوعها بين رواة السيرة من أهل الحواضر منذ ذلك الوقت . أما الأشعار الذاتية فإنها أقرب إلى لغة البادية والعربية الفصحى ، وهذا في الأغلب راجع إلى أن شيوخ الهلاليين كانوا ما زالوا يعيشون عيشة البادية ، وربما أن بعضا منهم نال قسطاً ، ولو ضئيلاً ، من التعليم ، بحكم مواقعهم ، وكانوا يبذلون جهداً واعياً لتقريب أشعارهم من الفصحى ومجاراة لغة البدو . ولو صح زعمنا بأنهم متعلمون ، فلربما نستنتج أيضاً أن ابن خلدون لم يحصل على هذه الأشعار مشافهة ، وإنما أتته من مصادر مخطوطة كتبها ناظموها بخطوط سقيمة تصعب قراءتها . ومن الجائز أن يكون هذا هو السبب فيما تعاني منه هذه الأشعار من اضطراب وتفكك وما نجده من صعوبة في قراءتها وفهمها . من غير المستبعد أن ابن خلدون نفسه لم يكن قادراً على قراءتها قراءة سليمة وتدوينها بشكل صحيح . كانت الهوة قد اتسعت في عهده بين لغة البادية ولغة الحاضرة حيث أصبح من الصعب على أهل المدن والأمصار من أمثال ابن خلدون فهم لغة البدو بسهولة . وهذا بالفعل ما يؤكده ابن خلدون في خاتمة هذا الفصل حين يقول " وأمثال هذا الشعر عندهم كثير وبينهم متداول . ومن أحيائهم من ينتحله ومنهم من يستنكف عنه – كما بيناه في فصل الشعر – مثل الكثير من رؤساء رياح وزغبة وسليم لهذا العهد .
ومن المحتمل أن أشعار السيرة التي أوردها ابن خلدون ، تمثل النواة التي انبثقت منها فيما بعد السيرة الشعبية ، وتطورت عنها وانتشرت في جميع الأقطار العربية . فالقصة التي أوردها مثلاً عن الجازية وشكر الشريف لا تزال تروى بنفس الطريقة والأسلوب في بلدان المشرق العربي . وقد لا يجانبنا الصواب إذا قلنا : إن السيرة في عهد ابن خلدون كانت قد تخطت المرحلة الجنينية ,أصبحت تقليداً حياً نامياً متداولاً في الأوساط الشعبية . وهذا ما يراه الدكتور عبدالحميد يونس الذي يؤكد في كتابه ( الهلالية في التاريخ والأدب الشعبي ) : أن القصائد الهلالية التي أوردها ابن خلدون تمثل الطور الغنائي الخالص للسيرة الهلالية الذي كان سائداً قبل القرن السادس عشر الهجري وتلاه من بعد القرن الثامن الطور القصصي . ويرى يونس أن ما ذكره ابن خلدون في مقدمته وفي تاريخه عن بني هلال قد لا يكون دقيقاً من الناحية التاريخية لكنه " يدل بجلاء على أن سيرة بني هلال كانت حية نامية في الناحية الأدبية على الأقل في عهد هذا المؤرخ الكبير " . وهناك من يذهب إلى الاعتقاد بأن السيرة كانت قد بدأت تتشكل أثناء هجرة بني هلال وترحالهم من المشرق إلى المغرب ولم يستقروا هناك إلا وقد اكتمل نموها .
3 – أشعار بدوية من المشرق . بينما يورد ابن خلدون ما لا يقل عن 200 بيت من الشعر الهلالي من شمال افريقيا ، نجده لا يورد إلا ستة عشر بيتاً من أشعار البادية في المشرق العربي ؛ ستة منها لامرأة قيسية من حوران وعشرة لشاعر من قبيلة الهلبا من جذام في الصحراء المصرية ( والهلبا من القبائل المصرية التي يذكرها ابن خلدون في الجزء السادس من تاريخه ) . يقدم ابن خلدون مقطوعة المرأة الحورانية بقوله " ومن شعر عرب البرية بالشام ثم بنواحي حوران لامرأة قتل زوجها بعثت إلى أحلافه من قيس تغريهم بطلب ثأره " ويقدم القصيدة الأخرى قائلاً " ولبعض الجذاميين من أعراب مصر قبيلة هلبا منهم " وهي قصيدة يهجو فيها الشاعر بني قومه الذين لم يهبوا لمساعدته في حاجته بينما يشيد بمن وقفوا معه . وقد أضاف ابن خلدون إلى مقدمته هذه القصيدة الأخيرة في حقبة لاحقة . من المعروف أن ابن خلدون لم يتوقف عن تنقيح المقدمة وتهذيبها طوال حياته . وقد أمضى الحقبة الأخيرة من حياته في مصر واستمر هناك يجيل النظر في المقدمة ويعدل فيها ويحدثها ويضيف إليها ما يستحق الإضافة . وهناك التقي بالشاعر الهلباوي الذي أخذ منه القصيدة المذكورة . ولا نجد هذه القصيدة إلا في مخطوطات المقدمة المتأخرة مثلة مخطوطةHuseyin Celebi 793 المودعة في مكتبة Orhan Cami في Burssa في تركيا ، وفي النسخ التي نقلت عنها لاحقاً . وناسخ هذه المخطوطة هو إبراهيم بن خليل السعدي الشافعي المصري وتم الانتهاء من نسخها يوم الأربعاء 8 شعبان 806 ، أي بمدة طويلة بعد وصول ابن خلدون إلى مصر في 1 شوال 784 وقبل سنتين من وفاته عام 808 . أما في النسخ المطبوع ، فإن هذه القيدة لا تظهر إلا في أقدم نسخة محققة للمقدمة حققها المستشرق الفرنسي إتيان مارك كاترمير Etienne Marc Quatremre سنة1858 وأعي نشرها في بيروت سنة 1970م ، وكذلك في الترجمة الإنجليزية التي أعدها فرانز زورينتال Franz Rosenthal ونشرها عام 1967م . وقد اعتمد Rosenthal على مخطوطة Huseyin Celebi السابقة الذكر بينما اعتمد Quatremere على مخطوطات نسخت من الأصل الذي اعتمد عليه Rosenthal .
ما عدا قصيدة المرأة الحورانية وقصيدة الشاعر الهلباوي التي أضافها قبيل وفاته ، فإن كل الأشعار البدوية التي أوردها ابن خلدون جاء بها من شمال أفريقيا .
هذا يعني أنه أقام فرضية بخصوص علاقة الشعر البدوي بالشعر العربي القديم أساساً على أشعار بدو الصحراء المغربية ، لا بدو الصحراء العربية . ويبدو أن علاقته ببدو الصحراء العربية كانت غير وثيقة ومعرفته بهم غير مباشرة ، حيث إن عصره جاء بعد انقطاع رحلات الطلب وبعد أن أصبحت الجزيرة العربية مغلقة وشبه معزولة عن العالم الخارجي ، ولم يعد علماء المسلمين ينظرون إليها كمصدر إشعاع روحي وأدبي كما كانت في السابق ، ولم يعد رواة الشعر واللغة قادرين ولا راغبين في شد الرحال إلى هناك كما كان يفعل أسلافهم للأخذ عن الأعراب " البوالين على أعقابهم " .
ولم تطأ قدم ابن خلدون بلاد العرب إلا مرة واحدة وهو في طريقه إلى الحج لكنه لم يمكث طويلاً ولم يبذل أي محاولة لاستثمار فرصة وجوده هناك للاحتكاك بالبدو في الحجاز أو نجد والتعرف إلى لغتهم وشعرهم وأدبهم . وعلى العكس من ذلك فإن علاقته ببدو الصحراء المغربية كانت طويلة وكان على اطلاع وثيق بشؤونهم وأحوالهم . ونظير خبرته في هذا المجال لم يكن أمراء المغرب وسلاطينه يستغنون عن خدماته وبعثوه في سفارات إلى القبائل هناك . بل إنه أكمل المسودة الأولى من مقدمته في مدة لا تتجاوز خمسة أشهر بينما كان يمضي ثلاث سنوات من العزلة في قلعة ابن سلامة في الصحراء تحت حماية أولاد عارف ، شيوخ عشائر السويد من قبيلة زغبة الهلالية . وكان قبل ذلك قد أمضى بعض الوقت مع عرب الزوادة . ولا شك أنه ستقى من هؤلاء الأعراب معلوماته الأولية عن بني هلال وما أورده لهم من أشعار .
ومع ذلك فإنه من الواضح أن ابن خلدون حاول أن يتسقصي الوضع في بادية الجزيرة العربية والحصول على ما أمكنه من معلومات عن الأحوال هناك ، وأن يتعرف إلى الأسماء المتداولة في شمال الجزيرة وشرقها لهذا اللون من الشعر . التسميات التي يوردها ابن خلدون ليست من اختراعه وإنما كانت متداولة بين الناس في بوادي الجزيرة العربية فسجلها وحفظها . وربما كانت هذه التسميات متداولة بين عرب بني هلال توارثوها من أجدادهم الذين جلبوها معهم من الجزيرة العربية . لكن الاحتمال الأقوى : أنها أسماء كانت شائعة بين المتعلمين والنساخ من أبناء المدن ممن لهم اهتمام بهذا اللون من الأدب وحرصوا على جمعه . وهذا ما نستشفه من قول ابن خلدون :
" فأهل أمصار المغرب من العرب يسمون هذه القصائد بالأصمعيات نسبة إلى الأصمعي راوية العرب في أشعارهم . وأهل المشرق من العرب يسمون هذا النوع من الشعر البدوي والحوراني والقيسي . وربما يلحنون فيه ألحانا بسيطة لا على طريقة الصناعة الموسيقية . ثم يغنون به ويسمون الغناء به باسم الحوراني نسبة إلى حوران من أطراف العراق والشام وهي من منازل العرب البادية ومساكنهم إلى هذا العهد " .
ويورد ابن خلدون هذه الأسماء بصورة مقتضبة وسريعة .. مما قد يقود إلى الخلط في المفاهيم بالنسبة للأسماء التي قال بأن أهل المشرق يستحدمونها في الإشارة لما أصبحنا الآن نسميه بالشعر البنطي . أرى أن " قيسي " و " بدوي " من الأسماء التي تطلق على هذا الشعر كفن أدبي ، وهو ما يقابل قولنا " نبطي " أو " عامي " و " شعبي " . أما " حوراني " فإنه على ما يبدو اسم لحن من الألحان التي يغنى بها هذا الشعر ، مثل قولنا " صخري " نسبة إلى الجوف وهذا ما يؤيده قول ابن خلدون في الاقتباس السابق " وربما يلحنون فيه ألحاناً بسيطة لا على طريقة الصناعة الموسيقية . ثم يغنون به ويسمون الغناء به باسم الحوراني نسبة إلى حوران " .
--------------------------------------------------------------------------------
ترتكب جميع النسخ المطبوعة في نقلها لهذه الأبيات أخطاء فاحشة لا يتسع المجال لذكرها كلها ومناقشتها ، فقد قمت بتصحيحها وأكتفي هنا بالإشارة إلى بعض منها . فلقد صححت مثلاً كلمة " قيعان " في الشطر الثاني من البيت الأول ومن البيت الثاني بكلمة لها معنى ودلالة وهي " قيفان " بمعنى قوافي ، أي أبيات شعرية ، وهي كلمة معروفة لدى شعراء النبط ؛ كما صححت كلمة " فراح " في بداية الشطر الثاني من البيت السادس لتصبح " قرايح " أي أشعار من القريحة . وفي النسخ المطبوعة يكتب صدر البيت الثاني " يريح بها حادي المصاب إذا سعى" ويكتب عجز البيت الثالث " تحدي بها تام الوشا ملتهابها " ويكتب صدر البيت السادس "اشيل جنينا من حباك طرايف " ويكتب صدر البيت الثامن " لقولك في أم المتين بن حمز" .
.
---------------------------------------------------------------------------
وللحديث بقية حول هذا الكتاب الجيد ومؤلفه ((الشعر البدوي في مقدمة ابن خلدون)).. "بحث للدكتور سعد الصويان
.
مع تحيات وتقدير.
أخوكم في لله ومحبكم في لله وابن عمكم العزيز.
أبوهمام عبدالهادي بن أحمد بن عبدالهادي بن محمود الدُّريدي الأثبجي التونسي الحجازي.
((ابن جزيرة الحرمين الشريفين)).
المصدر:
الشعر البدوي في مقدمة ابن خلدون (1).. "بحث للدكتور سعد الصويان - منتديات القبابنة