غسان مسعود في «عربة اسمها الرغبة»
استحضــار المــاضي لمحـاكمة الحاضـرفي عام 1947 كتب «تنيس ويليامز» الكاتب الأمريكي احدى أشهر مسرحياته «عربة اسمها الرغبة»، وفي العام نفسه نقلها المخرج «ايليا كازان» الى خشبة المسرح مع الممثلين «جيسيكا تاندي» و«مارلون براندو».
واليوم، وبعد أن عرضت هذه المسرحية على خشبات المسارح في العالم، ونقلت الى السينما في أكثر من فيلم يعيد الفنان غسان مسعود نقلها الى خشبة المسرح تاركاً بصمته الخاصة عليها، لكنه وبعد عرضه السابق «دبلوماسيون» الذي يحاكي فيه واقعنا العربي الراهن، هل نستطيع القول: إنه أضاف بعرضه الحالي نقلة جديدة في حركة المسرح السوري؟.
لا نأتي بجديد اذا قلنا: إن مسعود هو أحد أبرز الأسماء المسرحية القليلة التي عشقت المسرح بصدق وتركت بصمتها عليه، ويشكل حضورها ظاهرة مسرحية هامة تمثيلاً واخراجاً، فهل كان عرضه الحالي على مستوى هذه الظاهرة ومستوى الجماهيرية التي تحققها أعماله على الاسم فقط قبل العرض.
لا شك أن مسعود في هذا النص الممسرح مرات عديدة قدم عرضاً متقناً ومتكاملاً، قارب فيه عالم الكاتب بكل تفاصيله وأهدافه في محاولة منه لتوجيه رسالة قد تناقض تلك الصورة المرسومة إعلامياً للمجتمع الأمريكي، صورة مغايرة ترسم المجتمع الأمريكي بريشه أحد أبرز كتابه الذي عرف في بداية حياته الجوع والتشرد واليأس في رؤية تخالف ما قدمته السينما الهوليودية، أو وسائل الإعلام عن مجتمع مثالي، متماسك، مجتمع قد ينظر الى الشرق بعيون السياسة أكثر من الواقع، كما يقول مسعود، وينسى واقعه وتاريخه.
تدور أحداث «عربة اسمها الرغبة» في الجنوب الأمريكي عندما يتوقف القطار في المحطة لتنزل منه «بلانش دوبوا» قادمة من الميسيسيبي بعد أن خسرت بيت العائلة والمزرعة، لتقيم عند أختها «ستيلا» في ولاية نيو اورلينز المتزوجة من الشاب المقامر «ستانلي»، الذي يقابلها برغبة وحشية تنعكس بانفعالات غاضبة من تصرفاتها وعلاقتها بأصدقائه وخاصة صديقه «ميتش» الشاب الهادىء الذي يعيش وحيداً مع أمه المريضة، حيث تبدأ حالة انجذاب بين الاثنين كادت أن تنتهي بالزواج لولا تدخل «ستانلي»، الذي أفسد هذه العلاقة بعد أن كشف لـ ميتش تفاصيل حياة «بلانش» وأسرار علاقاتها الغرامية المشبوهة، الأمر الذي جعل الأخير يغير نظرته الى الصورة الطاهرة التي رسمها لحبيبته «بلانش» وتصبح رغبته بها لا تتعدى الرغبة الجنسية العابرة، وقد كان دافع «ستانلي» لإفساد هذه العلاقة هو رغبته المتوحشة بها، تلك الرغبة التي دفعته لاستغلال وجود بلانش وحيدة في المنزل، وغياب زوجته ستيلا في المستشفى لتضع مولودها الأول، ليقوم باغتصابها، وهكذا تتحول بلانش الى امرأة مريضة مهزومة بعد الظلم الذي أحاق بها، ظلم المجتمع والأسرة، خاصة بعد وفاة والديها وتحملها نفقات ومسؤوليات مرضهما وموتهما، لتصبح امرأة بلا وعي أو ادراك تنتهي بها الحالة في مصح للأمراض العقلية، في مشهد تراجيدي يلخص الشرط الانساني القائم على مأساة التفكك والانحلال الاجتماعي لمجتمع الأجناس والثقافات والقوانين.
ففي ولاية «نيو اورلينز» هناك قانون نابليون يقول: بأن كل ما تملكه الزوجة هو ملك للزوج والعكس كذلك، ووفق هذا القانون يحق للزوج التصرف بكل ممتلكات زوجته، ولهذا فقد نصّب «ستانلي» نفسه ملكاً على أسرته وبيته.
سعى غسان مسعود من خلال هذا النص لنقد أنماط التفكير الأمريكي، الذي يرى الحرية والمساواة متجاهلاً تاريخه وماضيه، فهو يقول: إن ما لا نعرفه عن المجتمع الأمريكي أكثر مما نعرفه، فالصورة ليست بتلك المثالية التي يصورها لنا الإعلام.. فالفنان مسعود في مقاربته للنص الأمريكي لم يقتصر على الحوار والأداء فقط، بل وظف السينوغرافيا لتعزيز تلك المقاربة انطلاقاً من ضرورات التعامل مع المسرح الواقعي كاستحضار الأجواء الزمانية والمكانية للنص بالديكور، والموسيقى والأزياء، فالديكور لمنزل صغير من غرفتين تفصل بينهما ستارة يضاف اليهما حمام صغير، هذا المنزل هو جزء من محيط اجتماعي يتجسد بالنوافذ والسلالم المعلقة في فضاء الخشبة مستخدماً الإضاءة لمنحها الشكل الملائم وجعلها تشكل مقطعاً من أحد الأحياء المتلاصقة والمتداخلة عمرانياً واجتماعياً، كما عمل على الأزياء وثقافة الحياة ضمن ايقاع متسارع يحاكي صخب الحياة الأمريكية وغناها بالأحداث والمواقف الدرامية الهامة.
وقد استحضر مسعود القطار الى الخشبة في ثلاثة مشاهد عالية التقنية تشكل ثلاث مراحل من حياة بطلة العرض «بلانش» فعربة القطار هي عربة الرغبة عند شخوصه الذين عمل على الارتقاء بهم الى مرتبة التماهي مع النص في أداء جريء ومتقن، حيث قدم باسل خياط شخصية «ستانلي» بخبرته المسرحية القادرة على منح الشخصية مفاتيح الاقناع، وكذلك سلافة معمار بشخصية «بلانش» ومكسيم خليل بدور «ميتش» وسوسن أرشيد بدور «ستيلا»، ورنا شميس بدور «يوليس» والآخرين.
لكن العرض يظل ضمن اطار العروض الكلاسيكية التي تعمل على المسرح كغاية أكثر منها وسيلة لإيصال رسالة واضحة الملامح، فقد ابتعد عن محاكاة الواقع الى ابتداع حالة مسرحية ثقافية فنية راهنة، برؤيتها الاخراجية والفكرية والدلالية، ولا سيما أنها تقدم بتقنية فنية عالية.
آصف ابراهيم