1- التطرف الإيديولوجي الليبرالي:
إنَّ هَيْمنة العولَمة بتعميم مُخططات دول المركز بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية على العالم - اقتصاديًّا وسياسيًّا وعسكريًّا - جعَلَت هذه المخططات لا تكتفي باختراق السيادة والاقتصاد الوطني، والقطاع العام والأراضي والجيوش في دول الأطراف، والكلُّ يعلم ما لهذا الاختراق من تداعيات على استقلال الدول وكرامة شعوبها، والشعوب لا تَخلو من القوى الوطنية الحيَّة، التي تبقى متمسِّكة بحريَّتها وبكرامتها وبأرْضها، فتَقِف في وجه كلِّ مَن يُعاديها، تقاومه بكلِّ الأساليب والوسائل المتاحة، إلى أن تُحقق أهدافها التي لا تَضيع، فما ضاع حقٌّ ومن ورائه مطالبٌ، هذا الذي تؤكِّده التجارب العديدة التي عرَفتها الإنسانية عبر تاريخها الطويل، وأثبَتَه الواقع المعيش، لكنَّ القُوى المهيمنة على العالم باسم العولمة وغيرها، لا تعي هذه الحقائق، وتتجاهلها تمامًا، على الرغم من التجارب الحيَّة التي عرَفتها وعاشَتها هذه القوى نفسُها مع العديد من القوى الوطنيَّة التحرُّريَّة، التي كانت في قمَّة الحرية والكرامة، والعزة والسيادة، والاستقلال والمجد، كان هذا في الجزائر مع الاستعمار الفرنسي، وفي فيتنام مع الجيش الأمريكي، وفي أفغانستان مع القوَّات العسكرية الروسية، وكان وما يزال مع الحركة الصِّهْيَونيَّة وإسرائيل، ومن ورائها الولايات المتحدة الأمريكية والغرب الأوروبي في فلسطين وفي لبنان، وفي سوريا وفي غيرها، فالاختراق متواصل ومستمر ما دامت القوة المادية والعسكريَّة، ومن وراء ذلك القوة العلميَّة والتكنولوجيَّة في يد دول المركز، تَحتكرها لنفسها، وتَقطع دابر أيَّة محاولة أو أيَّة تجربة هنا أو هناك فيها جِدِّية؛ للحصول على أسباب القوَّة والغلبة، هذا الاختراق اتَّجه وما زال يتَّجه بقوة وبسرعة نحو الحياة الفكرية والثقافية والعقديَّة للشعوب، خصوصًا الشعوب التاريخية التراثية الدينية، مثل: شعوب العالم العربي والإسلامي، وشعوب شبه القارة الهندية وغيرها، يعيش التراث ويَحيا المعْتَقَد الديني في وجدانها، وفي ممارساتها اليومية، تراثها هو هُويَّتُها وذاتها، وهو ماضيها وحاضرها ومستقبلها، لا تَقبل عنه أيَّ بديل مَهْمَا كان وكانتْ نتائجه، فالشعوب الإسلامية هي إسلامية بالإسلام، وإذا تخلَّت عن الإسلام لصالح مُعتَقَد ديني آخر، أو أيَّة أيديولوجية أخرى، فذلك فناء وموتٌ لها.
إنَّ أيديولوجية التطرُّف الليبرالي في الغرب الأوروبي وفي الولايات المتحدة الأمريكية، تتجاهل حقيقة الدولة الوطنيَّة ذات الهُويَّة التاريخية الدينية؛ لأن الشعب فيها يَدين بديانة واحدة أو أكثر، وأنَّ الدين مُقوِّم من مقوِّمات الدولة، على عكس ما هو سائد في الدولة اللائكيَّة التي تَفصل الدين والأخلاق عن الدولة والسياسة، فهي أيديولوجية تتجاهل كلَّ ذلك، وتنادي - بما تُسمِّيه زورًا - بالإصلاح الديني والتربوي قبل الإصلاح السياسي والاقتصادي، وبالتنوير وبغيرها من مبادئ الحداثة والليبرالية، وتضع الإسلام في مرتبة واحدة مع النصرانيَّة وأوضاع الكنيسة التي عرَفتها أوروبا في القرون الوسطى، واستمرَّت إلى مرحلة ما قبل النهضة الأوروبيَّة؛ حيث رحَلَت الكنيسة من الحكم بفِعْل الإصلاح الديني والتربوي والسياسي، وهو الأمر الذي ينبغي أن يتحقَّق في المجتمعات المعاصرة التاريخية التراثيَّة الدينية المتخلفة؛ لتَنهض وتواكِب الرَّكب الحضاري الذي انْطَلَق بعد ثورته في وجْه كلِّ قديم فكري وفلسفي، وعلمي وديني وغيره، ولا يتسنَّى لأيِّ جماعة بشرية - تعيش على الماضي في الحاضر - أن تتحرَّر من الانحطاط ما لَم تأخذ بالسبيل الذي انْتَهَجته أوروبا قُبيل النهضة، والانقلاب على التراث الثقافي والديني الذي كان وما يزال العائق الأكبر أمام النهضة والتطور والازدهار، لكنَّ هذا المنظور يعي جيدًا أنَّ الظروف التي عرَفتها أوروبا قُبيل نهضتها الحديثة تختلف تمامًا عن ظروف العالم العربي والإسلامي الحديث والمعاصر، وهو على دِراية كافية بأنَّ الإسلام ليس هو النصرانيَّة، لكن بدوافع سياسيَّة واقتصادية، وأيديولوجية وعقديَّة، لا حدَّ لها يتَّجه المركز لاختراق غيره عقديًّا باسم العولمة وغيرها، وساعَده على ذلك انهيار المنظومة الاشتراكية والشيوعيَّة، وسقوط الاتحاد السوفيتي وبقاؤه في القطب الواحد، كما ساعَده كذلك تطوُّر وسائل الإعلام والاتصال، فأصبَح حريصًا على صَهْر الشعوب كاملة في بَوْتقة واحدة؛ فكريًّا وثقافية، وأخلاقيًّا وعقديًّا؛ لكي لا تكون للشعوب أصولُها وثوابتها الثقافية والدينية، وهو ما تَرفضه الثقافات المتأصِّلة والمُتجذِّرة في التاريخ وفي الماضي في أهلها، مثل: الثقافة الإسلامية وغيرها من الثقافات الأخرى.
لقد تمَّ استخدام كلِّ الوسائل المتاحة للنَّيْل من الإسلام والمسلمين بما في ذلك القوَّة العسكرية، ورَبْط الإسلام بالتخلف الفكري، وبالانحطاط الاجتماعي، وبالتدهور الاقتصادي، وبالاضطراب السياسي، وبالجهل وبالإرهاب، وبغيره من المشكلات المُستعصية، والغرض من ذلك هو تزييفُ الفكر الدِّيني الإسلامي القديم والحديث والمعاصر، وتزييف خطابه، والطَّعْن بصفة مباشرة وغير مباشرة في أصول الإسلام، وفي رموزه ومقوِّماته، ولَم تَبق هذه المهمة حَكْرًا على الأفراد كما كان سائدًا من قبلُ، بل أصبَحت تقوم بها مؤسَّسات وحكومات في بُلدان المركز والأطراف معًا، وتأثَّرت بذلك المناهج التربوية والتعليمية المُعوَّل عليها كثيرًا في تغيير الثقافة والمعتقدات الدينية والخطاب الديني، فتأسَّست المناهج التربوية الرسميَّة على قِيَم العولمة وتهميش الدين، والأخْذ من الدين بما يلتقي مع الديانات والثقافات الأخرى في تحديد المفاهيم والنظرة إلى الحياة عامة، في تحديد مفهوم السِّلم والحريِّة، والعدالة والمساواة، والعمل وغيره، وهذا حسَب ما تروِّج له العولمة بعيدًا كليًّا عن الأبعاد الإسلامية لتلك المفاهيم، ولنظرة المسلم إلى الوجود والحياة، وفي هذا الجو سَيْطَر الليبراليون والاشتراكيون على قطاع الإعلام الرسمي، وضيَّقوا الأمر على التيارات الإسلاميَّة وعلى الخطاب الديني، واعْتَمدوا المادة الإعلامية الفاسدة في الصورة والمحتوى؛ سواء في الفكر والأخلاق والممارسة، إلى جانب استغلال وسائل الإعلام لتحريف الخطاب الديني، ثم استغلال الهيْئات والمنظَّمات الأُمميَّة السياسية والثقافية والاقتصادية للغرض ذاته، مثلما تفعله هيئة الأُمم المتحدة من تنظيم مؤتمرات، وعَقْد مُلتقيات، الهدف منها التشويش على الإسلام وعلى التيَّارات الإسلامية، من خلال الدعوة إلى تجديد - تزييف - الخطاب الإسلامي، وذلك كلَّما تبيَّن أنَّ شوكة الإسلام تعلو وقوَّة المسلمين تتَّسِع، فهناك مؤتمرات وندوات تَنعقد باسم الأُممالمتحدة؛ تكريسًا للعولمة التي تسعى إلى تغيير الثقافات والمعتقدات، فمرَّة مؤتمر للسُّكان، ومرة للمرأة، ومرة لحوار الأديان والثقافات، ومرة للتسامُح الفكري والديني، وفي كلِّ مرة يأتي مؤتمر أو ندوة الهدف من ورائها ضرْبُ الوعي الديني الإسلامي أو غيره، والذي من شأنه أن يصنعَ الوحدة الثقافية والعقديَّة والاجتماعية التي تشكِّل خطرًا على النظام العالمي وعلى العولمة.
لَمَّا استنفَدَت القوى المهيمنة أساليبَها ووسائلها السِّلمية في ضَرْب الإسلام، من خلال تحريف وتزييف الخطاب الديني الإسلامي، والتركيز عليه وَحْده من دون الخطابات الدينية الأخرى، لَجَأت إلى استعمال الوسائل القمعيَّة، وخيار القوة العسكريَّة، ويقول أحد الباحثين المهتمين بالموضوع مُحدِّدًا الأسبابَ التي دَعَت إلى استعمال القوة: "طبيعة الدين الإسلامي الذي يستحيل عمليًّا تغييره أو تبديله؛ وذلك للترابط الشديد بين أحكامه وتشريعاته وأدلَّته في سائر الجوانب، لذلك فإنَّ محاولة التغيير في جانبٍ يَكشفه جانبٌ آخر، ولذلك فإنَّ التغيير لا يُمكن حدوثه عمليًّا إلاَّ إذا حدَث في جميع الجوانب: في العقيدة والشريعة، في التفسير والحديث، في التاريخ والتراث، في الأوضاع الاجتماعية والشرائع العمليَّة التي تمثِّل نوعًا من الإجماع العملي بين المسلمين، وهذا الأمر ليس بالهيِّن ولا باليسير، فهناك عشرات الآلاف من الكتب المؤلَّفة في العقيدة والتفسير، والتاريخ والسِّيَر والغزوات وغير ذلك، وكلُّ ذلك مكتوب بلغات متعدِّدة، فكيف يُمكنهم ذلك؟ إنه أمرٌ فوق طاقتهم رغم تقدُّمهم وإمكاناتهم وإرادتهم، وهذا يمثِّل نوعًا من التحدِّي لهم، وصَدَق ربي العظيم إذ يقول: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9].
وجود فئة من الناس قيَّضهم الله تعالى لحِفظ دينه ونُصرته، أخَذت على عاتقها رَصْدَ محاولات التغيير والتزييف، وكَشْفها والإعلان عنها، رغم كلِّ الصعوبات التي تواجِههم، وهذه الفئة هي جزء من الطائفة المنصورة التي امْتَدَحها الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - بقوله: ((لا تزال طائفة من أُمَّتي ظاهرين على الحقِّ، لا يضرُّهم مَن خَذَلهم، حتى يأتي أمْرُ الله وهم كذلك)).
حالة الضَّعف الشديد التي تُخيِّم على المنطقة العربية والإسلامية؛ حيث دُوَله مُفكَّكة، وأغلب زعاماته هزيلة جَوْفاء، وشعوبه ما بين مقهور مغلوبٍ على أمره، وبين جاهل غارق في تحصيل شهوات الدنيا وحُطامها، وهو بذلك قد وصَل إلى درجة شديدة جدًّا من الضَّعف، لَم يَصِل إليها من قبلُ: لا في زمن الحروب الصليبية، ولا في زمن التتار، ولو صاح صائح فيهم، لخرَّ كثير منهم حالة الاستعجال الشديد لإحداث ذلك التغيير، لقد بدا الأمريكان في حِرْصهم الشديد على إحداث التغيير، وضَغْطهم في سبيل تحقيقه، وكأنهم يسابقون شيئًا يخشون أن يَسبقهم".
2- البُعد التنصيري: أساليبه ومطامحه:
يظهر حِرص الأمريكان وغيرهم في الغرب الأوروبي الحديث والمعاصر على ضَرْب الإسلام والنَّيْل من أهله بجلاءٍ فيما يستخدمونه من وسائل وأساليبَ تقليدية ومتطورِّة، سلميَّة وغير سلميَّة، ومن الأساليب التقليديَّة: أسلوب التنصير، الذي تُمارسه المؤسَّسات الدينيَّة النصرانيَّة، ليس فقط مع المسلمين في العالَم، بل في كلِّ أنحاء المعمورة، ومع جميع سُكان الأرض، هذا الأسلوب يمثِّل العولمة الدينيَّة التي تقوم بإعداد مُخططات اختراق الإسلام والثقافة الإسلامية، وتعمل على نَشْر المعتقدات النصرانيَّة التي تقول: المسيح ابن الله، وتعتبر الإسلام هو الدِّيانة الوحيدة التي تُناقض عقائد النصرانيَّة، وهو حركة دينيَّة مُعادية لكلِّ تفكير ديني نصراني، ولكل مذهب من المذاهب المسيحية، وللأصول التي تقوم عليها هذه المذاهب؛ لأنَّ الإسلام مُخطط تخطيطًا يفوق قُدرة البشر في عقيدته وشريعته، وهو الوحيد القادر على الوقوف في وجه النصرانيَّة والتغلب عليها؛ لذا لا بدَّ من تسخير كلِّ الإمكانيات لإيقاف مَدِّه الذي غزَا وما زال يغزو العالم.
ومن وسائل التنصير في العالم إنشاءُ مؤسَّسات دينية نصرانية، مثل: المعاهد، ومراكز البحث، وعقد المؤتمرات والمُلتقيات والندوات؛ لغرض تحديد طُرق التنصير، وتجديد أساليبه، ودَعْمه ماديًّا وماليًّا وسياسيًّا، مثل: إنشاء مركز صموئيل زويمر في الولايات المتحدة الأمريكيَّة؛ ليتخصَّص في إعداد وتأهيل المُنصِّرين، وكان إنشاؤه تكريمًا للقسِّ صموئيل زويمر الذي قضى ثلاثة وعشرين عامًا من عُمره يُبشِّر بالمسيحية، ويدعو إلى التنصير في شبه الجزيرة العربية والشرق الأوسط، ومن المؤتمرات التي كان لها الدور الفعَّال في النهوض بالتنصير وعَصْرنته، مؤتمر "كولورادو" للنصرانية الذي انعقَد في الولايات المتحدة الأمريكية راعي العولمة الدينية في سنة 1978، وكان الهدف منه اختراقَ الإسلام بالدرجة الأولى؛ لأن الديانات الأخرى في العالم ليس بينها وبين النصرانيَّة مشكلات، فهي يسيرة الاختراق؛ نظرًا لضَعْفها وهَشاشتها، أمَّا الإسلام، فهو عسير على الاختراق؛ سواء كان أسلوب التعامل معه مباشرًا، أم غير مباشر، تقليدي أم عَصراني؛ لذا لَجَأ دُعاة التنصير إلى استعمال عدة أساليب، منها: التنصير من خلال المرأة التي تُستغلُّ لَدَى العامة من الناس من طرَف المُنصِّرين على أنّها مخلوق يختلط به الجنُّ والشياطين، ويُمكن أن يُستغلَّ هذا المخلوق كوسيلة للوصول إلى المراد في الخير أو في الشر، من خلال ما يتَّصل به من أرواح خفيَّة خَيِّرة أو شِرِّيرة، والتنصير من خلال الاعتماد على جهاتٍ ما في العالم، يَختلط فيها الإسلام بالعديد من المُعتقدات الوثنيَّة، وبالكثير من الخُرافات والأساطير والشعوذة وغيرها، مثلما حصَل وحاصِل في جزيرة جاوة الإندونيسيَّة، أو ما يُعرف بالإسلام الجاوي نِسبةً إلى الجزيرة؛ حيث تجري هناك ممارسات تعبُّدية نصرانيَّة تُشبه إلى حدٍّ بعيد أداءَ الشعائر الإسلامية، مثل: الجلوس على الأرض والسجود والركوع، واختيار شهر رمضان للتعاطُف مع المسلمين، وغيرها من الممارسات، ومنها تدخُل النصرانيَّة وتتعايش مع الإسلام مع أنَّ تعاليمها تتقاطع مع تعاليم الإسلام، فيَنتقل المسلمون إلى النصرانيَّة ما دام لا فرْقَ بين الديانتين، ويكون التنصير من خلال دُور الأيتام، ودُور المُسنِّين والعَجَزة والمَرْضى، واستغلال ظروف الأطفال في الأحياء الفقيرة، فأصبَح الجهل والفقر والشيخوخة، واليُتم والطفولة وغيرها، كلُّ هذا أصبَح نعمة على التنصير، ففي هذه الأوضاع يَتنصَّر الناس، ويكفرون بعقائدهم الأصيلة، ويعدُّ المنصِّرون هذا انتصارًا للمسيحية على الإسلام وعلى غيره، فالكفر - كما يُقال - يقول للفقر إذا ذهَب إلى بلدٍ ما: خُذْني معك.
ومن أساليب التنصير - وهي قديمة - استغلال الكوارث الطبيعية، وانتهاز فُرَص ما تُخَلِّفه الكوارث مِن تشرُّد وضياع، ودمار وخراب؛ مثل: الزلازل والبراكين، والفيضانات والأعاصير وغيرها، وتُصبح لدى النصارى النقمة نعمةً، والضرر نفعًا، وشرُّ الطبيعة خيرًا على التنصير والنصرانية؛ إذ يتدخَّل المُنَصِّرون باسم الصليب الأحمر وغيره بإمداد المنكوبين والمُتَضرِّرين بالمُؤَن وسائر المساعدات بيدٍ وكتاب الإنجيل باليد الأخرى، وهو الأمر الذي يَجري في إغاثة الجائعين واللاجئين، فرارًا من الحروب أو من القَحط، وكذلك الأمر مع الحروب التي تُديرها القوى الكبرى في العالم، فجنود الاحتلال الأمريكي والبريطاني والفرنسي في العراق وفي أفغانستان، وحيثما نزَلت، نجد أفرادها يحملون السلاح بيد والإنجيل باليد الأخرى، وهو الفعل الذي يقوم به الصليب الأحمر في كلِّ أنحاء العالم بمبرِّر مساعدة الضُّعفاء والمحتاجين، والمرضى وضحايا الكوارث الطبيعية والإنسانية، وصار المُنصِّرون ينتظرون هذه الكوارث، بل يسعون إلى تفجير النِّزاعات والحروب؛ لإحصاء عدد الأطفال المخطوفين والمُهَجَّرين، ولإحصاء عدد المُتَنصِّرين الجُدد؛ لأنَّ الناس في ظروف الرَّخاء والأوضاع العادية، لا يتأثَّرون بالنصرانية، خصوصًا وأنَّ مبادئها لا تقوم على الاستقامة والصِّدق في الفكر والسلوك والأخلاق، وبالتحديد إذا ما قُورِنَت مع الإسلام أو ناظَرته، ولَمَّا كانت وسائل وسُبل التنصير مكشوفةً ومفضوحة، وجِهاتها معروفة، وبات حَظَرها أكيدًا في البلاد الإسلامية، لَجَأ المنصِّرون إلى استخدام العِمالة الأجنبية وتدريبها وتأهيلها في مراكز متخصِّصة في ذلك، كمركز صمويل زويمر للقيام بالمهمة، والعمالة الأجنبية ذات الخِبرة العلميَّة والفنيَّة التي تحتاجها سائر بلدان العالم، تقوم بمهمة التنصير في البلدان التي تعمل بها، خصوصًا في بلاد المسلمين، وتتعدَّد أساليب التنصير؛ لتشملَ القرآن الكريم ذاته، والثقافة الإسلامية، والتاريخ الإسلامي وغيره.
وتقوم محاولات اختراق القرآن من خلال استعمال ألفاظه ومصطلحاته، وأساليب ترتيله وتجويده في قراءة الإنجيل؛ حتى يَعتقد القارئ أو السامع المسلم أنَّ هناك توافقًا كبيرًا بين القرآن والإنجيل، ولا يجد عائقًا في احترام النصرانيَّة، ويبدأ التحوُّل التدرُّجي إلى أن يقعَ التحوُّل الإيجابي، وتحدث المعجزة النصرانيَّة.
يَجري تزييفُ حقائق الإسلام والثقافة الإسلامية، والتاريخ الإسلامي من قراءتها ومَزْجها بتعاليم النصرانية، ثم عَرْضها ممزوجة بالنصرانيَّة، فيتوَّهم المسلمون أنها من الإسلام وهي لا علاقة لها به، مثل: قراءة المنصِّرين للشعر العربي، وللشعر في العصور الإسلامية، وحِفْظه ثم مناقشته مع المسلمين، ثم يقدِّمون الشعر منسوبًا إلى النبي داود - عليه السلام - ومثل ذلك في إيهام الناس على أنَّ النصرانية عقيدة توحيد مثلها مثل الإسلام، بالإضافة إلى دور الترجمة؛ حيث تُرجِم الإنجيل في السنوات الأخيرة إلى أكثر من مائتين وخمسين لغة في العالم، ترجمة جديدة، وقد تُرجِم إلى أكثر اللغات انتشارًا في العالَم.
كان وما زال الأسلوب غير المباشر الذي يَعتمد عليه المنصِّرون، هو الأكثر تأثيرًا في الناس؛ لأن الأسلوب المباشر التقليدي مهما تطوَّرت أدواته، وتعاظَم تأثيره من خلال دور البحوث والدراسات، ومن خلال دور المدارس والجامعات والكليَّات والمعاهد الأمريكية التي فَتَحت أبوابها للتنصير في بيروت وفي إسطنبول وفي غيرها، لَم تُحقِّق النجاح الذي حقَّقته الأساليب الأخرى، كالارتكاز على مؤتمرات حوار الأديان، وحوار الثقافات، وحوار الحضارات، والتسامح الفكري والديني، والاعتماد على الكلمة المُذاعة والصورة الجذَّابة البرَّاقة، والصوت العذب الحنون العطوف في البرامج والمسلسلات والأفلام وغيرها، في المباشر وفي غير المباشر، ومؤتمرات تكريم الفنَّانين وهي أدوات وأساليبُ لا تدخل في جَدَلٍ ومناظرة؛ لأن الجَدَل والمناظرة والحوار أساليبُ لا تُفيد في شيءٍ، ولا تصنع التغيير الإيجابي، ولا تحدث المعجزة النصرانيَّة، فالذي يُحدث الاختراق ويَنفُذ إلى القلب والعقل، ويُحقِّق المعجزة النصرانيَّة، هو الكلمة اللامعة والصورة الجذَّابة، والعمل الرائع.
يَنهض بهذا عددٌ من التوصيات التي خرَج بها مؤتمر كولورادو، ويُنفِّذها عددٌ من المنصِّرين الذين تكوَّنوا وتلَقَّوْا تأهيلهم في مركز "صموئيل زويمر"، وفي غيره فيالولايات المتحدة الأمريكية راعية العولمة الدينيَّة وتوحيد العالم عقديًّا، وفي غيرها من بلدان أوروبا الغربية وأوروبا الشرقية، فهي لا تُصدِّر الجهل والعمى الفكري باسم العلميَّة والحرية الفكريَّة، وثقافة الحداثة والليبرالية، ولا الاستبداد والحروب باسم الحرية والديمقراطية والتعدُّدية، ولا الفقر والجوع والمرض باسم اقتصاد السوق، ولا الأسلحة الفتَّاكة المدمِّرة وقوَّاتها وقواعدها في كلِّ أنحاء المعمورة باسم حماية الأقليَّات المقهورة، وحماية حقوق الإنسان، ولا الرذيلة والانحلال الأخلاقي باسم الحرية في المتعة والترفيه والتسلية، وباسم اختزال الزمان والمكان بتطوُّر وسائل الإعلام والاتصال فحسب، بل تُصدِّر النصرانيَّة إلى مختلف أنحاء العالم، وإلى البلاد الإسلامية بصفة خاصة؛ لأنَّ النصرانية في كلِّ الأحوال تبقى المرجعيَّة الدينية للثقافة الغربيَّة وللحضارة الحديثة والمعاصرة.
إنَّ الهدف من التنصير في الثقافة النصرانية غَرْس رُوح المسيح في الثقافة الإنسانية عامة، وفي الثقافة الإسلامية بصفة خاصة؛ لتتمكَّن الرُّوح المسيحية من إحداث التغيير الإيجابي والمعجزة النصرانيَّة، التي وجَدت أصلاً لأجْلها، وتعاوَنت وتتعاوَن النصرانيَّة في المشرق العربي مع النصرانيَّة الغربية، والواجب عليها أن تتعاونَ مع الإسلام؛ لأنَّها هي جزءٌ لا يتجزَّأ من الثقافة الإسلامية والفكر الإسلامي، والتاريخ الإسلامي، إلاَّ إذا تنكَّرت لذلك؛ تعسُّفًا وجحودًا، وتُعلِّق العولمة النصرانية آمالاً كبيرة على دور الكنائس الوطنية في البلدان الإسلامية في أعمال التنصير، وعلى العمالة الفنيَّة التي أصبَحت تقوم مقام المُنصِّرين في العالم أجمع، وفي البلاد الإسلامية، وخصوصًا في البلاد التي تمنع دخول المُنصِّرين، وبدلاً من ممارسة التنصير في البلدان الغربية، تَجري ممارسته في البلدان الإسلامية، خصوصًا الفقيرة منها، ذلك لقاءَ رغيف خُبزٍ أو جُرعة دواءٍ، أو وَعْد بالسفر إلى الغرب الأوروبي، وكثيرًا ما تُستغل علاقة الأنظمة في البلدان الإسلاميَّة والعالم الثالث بالمجاملة للغرب الأوروبي وللولايات المتحدة الأمريكيَّة من جهة، وإعراضها الدائم عن الخَوْض في موضوع التنصير، أو حتى الاقتراب منه؛ لأن ذلك قد يُسبِّب لها مشكلات مع الدول الكبرى، وهي في أمسِّ الحاجة لنَيْل رضاها السياسي، وتعاونها الاقتصادي، فهي أنظمة تابعة للنظام العالمي الاقتصادي والسياسي، الذي تَفرضه القوى المُهيمِنة؛ مما يؤكِّد بوضوح أنَّ النصرانية هي ديانة العولمة ومُعتقدها، والمرجعيَّة العقديَّة والرُّوحية لأقطاب المركز ولأتْباعه، وتمثِّل النموذج العقدي الذي تَحرص العولمة على تعميم استعماله على شعوب العالم قاطبةً، وبصفة خاصة الشعوب الإسلامية؛ نظرًا لِمَا تُشَكِّله استقامة الإسلام وقيامه على الحقِّ والعدل، والخير والصلاح في المعتقد، وفي الفكر، وفي الأخلاق، وفي السلوك - من خطرٍ كبير على جَوْر العولمة واستبدادها وقَهْرها الشديد لبَني الإنسان: فُرادى، وجماعات.
هذه حرب بين النصرانيَّة والإسلام، لا تختلف عن الحروب التاريخية الصليبية، ورُبَّما أخْطَر منها؛ لأنَّ العدو في الحروب الصليبية كان معروفًا، والأساليب الحربيَّة ووسائلها مكشوفة، بينما في الحروب الصليبيَّة الجديدة المعاصرة - ونظرًا لتخلُّف المسلمين وانقسامهم وتشرذُمهم - لَم تَعُد بأيديهم وسائلُ المعرفة والسيطرة، فصاروا طُعمة سائغة في فم الأعداء، والواجب على مؤسَّسات الفكر الإسلامي والثقافة والعلم لدى المسلمين التصدي لظاهرة التنصير في البلاد الإسلامية، خصوصًا تلك التي يؤمُّها المُنصِّرون من كلِّ حَدَبٍ وصَوْب، وأن تَستثمرَ كلَّ الإمكانيَّات البشرية والمادية في هذه الحرب؛ لأنَّ التنصير على حدِّ قول أحد المفكرين المسلمين المعاصرين الذي اضطلع بمهمَّة كَشْف خُطط التنصير، وفَضْح جرائمه والتصدي له بالفكرة النيِّرة، وبالكلمة القويَّة، وبالقلم ذَودًا عن حِمى الإسلام ومَحارمه: "التنصير هو احتلال العقل والقلب؛ ليتحوَّل إلى تأييد وتأبيدٍ لاحتلال الأرض والوطن، ومُصادرة سيادة الدولة، وكرامة الشعوب"، وذلك هو مُبتغى حركة التنصير في العالم وغايتها القصوى.
من آثار العولمة وحُكم القوي الظالِم على الضعيف المقهور، ممارسة التعسُّف والتسلُّط تُجاه الضُّعفاء في العالم في كافَّة ميادين الحياة، ومن غير استثناءٍ، ومن دون احترامٍ لأيٍّ من المُقَدَّسات الدينيَّة للمستضعفين، أو للقِيَم التي تأسَّست عليها الحضارة الغربية، وعرَفها الغرب الأوروبي منذ قرنين من الزمان: الحرية والعدالة والمساواة، واحترام حقوق الإنسان وغيرها، فالنظام في فرنسا المعاصرة يَنتهك حقوقَ الإنسان، ومنها حرية المُعتقد والتديُّن مع الفرنسيين أنفسهم الذين يحملون الجنسيَّة الفرنسيَّة، ويَتمتَّعون بالمواطنة داخل فرنسا، إلا أنَّهم يعتنقون الإسلام دينًا، ومن أصول غير فرنسية هاجَرت إلى فرنسا، وبالرغم من أن الإسلام يمثِّل الديانة الوطنية الثانية في فرنسا بعد الكاثوليكيَّة، فإنَّ العداء الشديد للإسلام وللمسلمين جعَل فرنسا السلطة والحَكم والإدارة تَدوس بشكلٍ كامل على القِيَم التي تؤمن بها، والتي جعَلتْها في مصافِّ الدول الكبرى في العالم، وهي احترام الحريَّات الأساسية التي دونها لا تقوم للدولة العلمانية قائمة، منها: حرية المُعتقَد والتديُّن والتعبُّد، وبقاء الدولة موضوعيَّة، وعلى الحِياد تُجاه كلِّ الأديان التي يَعتنقها مواطنوها، واحترام قِيَم العدالة والمساواة بين المرأة والرجل، وبين كافَّة مواطنيها، بعيدًا عن أي شكلٍ من أشكال التفرقة والتمييز، تحت أيِّ مُبررٍ أو ضغطٍ أو تأثير، ففرنسا السلطة أخَذت على عاتقها انتهاكَ حقِّ مواطنيها المسلمين في حرية التديُّن والتعبُّد، من خلال حَظْر البُرقع، أو ما يسمى في فرنسا بالحجاب الكامل أو النِّقاب، وأثارَت حوله ضَجَّة إعلامية قويَّة، هَيَّئَت لسَنِّ قوانينَ تَمنع الحجاب في الأماكن والمؤسَّسات العموميَّة، وتدفع المسلمات إلى ممارسة العُري والتبرُّج، وهو شَكْلٌ من أشكال من العولمة، عولمة اللباس الأوروبي الغربي، وتعميم استعماله في البلدان الغربية صاحبة الحرية والأخوَّة، والعدالة والمساواة، خصوصًا وأنَّ اللباس أمْرٌ خاص وشخصي واختياري، كما هو مُتَّصِل بالشخصيَّة الثقافيَّة والعَقَدية للإنسان، ولا علاقة لأيَّة قوَّة خارجيَّة للتدخُّل في تحديد صورته.
إنَّ الدافع إلى مثل هذه الأعمال في فرنسا - وفي غيرها تُجاه المسلمين - إنَّما هو الحِقد على الإسلام والمسلمين، ومن وراء ذلك جُنوح المُقَدَّس العلماني لصالح المُقَدَّس الديني النصراني الكاثوليكي، الذي أخَذ مَدَّه يتراجَع أمام توسُّع نفوذ الإسلام، وقُدرته على التكيُّف مع مظاهر التقدُّم والازدهار الحضاري المعاصر، وقُدرته على كَشْف مَناقص هذا التقدُّم، واستعداده للتصحيح والتوجيه بما هو فيه خيرُ وصلاح الإنسان.
لَم يَشفع للسُّكان المسلمين إسهامُهم في بناء وتطوير الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعيَّة داخل فرنسا المعاصرة، وفي أوروبا عامَّة، ولا التضحيات التي قدَّمها آباؤهم وأجدادهم في سبيل سيادة واستقلال الأراضي الفرنسيَّة؛ حيث مات أكثر من مائة ألف جندي مسلم من أجل فرنسا بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى، لكنَّ هذا لَم يُوقِف الحملات المسعورة الإعلاميَّة والبرلمانيَّة القانونيَّة وغيرها، ضدَّ الإسلام والمسلمين منذ تأسيس الدولة الفرنسية الحديثة إلى اليوم، مرة باسم الهجرة المكثَّفة، ومرة باسم الإرهاب الذي ليس له مدلولٌ ولا عنوان، ومرة باسم القميص، ومرة أخرى باسم البُرقع، وفي كل مرة يظهر الدافع الجديد الذي يُذكي تلك الحملات ويُغذِّيها، هذه الحملات التي تَعتبر الإسلام دينًا لا يتناسب مع قِيَم فرنسا العلمانية، وتَدفع باستمرار وبقوَّة إلى فرْضِ التشتُّت والتشرذُم في أوساط المسلمين؛ مما أثَّر سلبًا على وَحْدتهم، على عكس اليهود، ولِمَا يُلقونه من تأييد ودَعْمٍ من القوى العظمى وهم قلَّة على درجة عالية من الوَحْدة والتنظيم، وخشية الغرب من انتشار الإسلام - على الرغم مما فيه من سماحة وتسامح، وبالرغم مما يُقدِّمه المسلمون - الذي صار يُظهر العداءَ لهم، ويَحرمهم من ممارسة شعائرهم التعبُّدية في اللباس، أو في الصلاة أو في غيرها، فكثيرًا ما يؤدون صلاة الجمعة في مَرَائب السيارات، وبداخل الدهاليز والأقبية، تحت العمارات والمباني، في الوقت الذي يَنعم فيه النصارى بالفائض في الأموال والمحلات والعقارات، ومؤسَّسات إنتاجيَّة واقتصاديَّة: صناعيَّة وزراعية وغيرها، وانتشار البطالة والفقر والمخدرات والسرقة - وغيرها من الجرائم - بين سُكان الضواحي في باريس وفي غيرها من المدن الفرنسية والأوروبيَّة، وهي أحياء يَقطنها الغالبية من المسلمين، الأمر الذي يدل على ما يَلقاه المسلمون والإسلام في فرنسا وفي أوروبا الغربية عامة من التهميش والتمييز والحِرمان، الذي لا يعكس قِيَم الحرية والعدالة، والمساواة والأخوَّة التي تنادي بها فرنسا وغيرُها في العالَم المتحضِّر، ويدلُّ على حِرص الجهات الرسميَّة وغير الرسميَّة - في فرنسا وفي أوروبا عامَّة - على تجريد المسلمين من عقيدتهم وخصوصيَّتهم الثقافية والتاريخية، ودَفْعهم إلى تَرْك دينهم والكفر به، واعتناق النصرانية؛ لأنَّ الكفر يقول للفقر إذا دخل بلدًا ما: خُذني معك.
فالجالية المسلمة في الغرب الأوروبي تعيش مُعاناة قاسية؛ بسبب اتِّهامها بالعُنف والإرهاب، وبالجريمة بمختلف أنواعها، ويقوم في فرنسا المعاصرة حوار الهُويَّة الوطنية، لا لسببٍ سوى لارتداء المسلمة الفرنسية لباسها الإسلامي، الذي يسترُ جِسمها وعوراتها، فتتحرَّك الحكومة ويتحرَّك البرلمان، وتتحرَّك جميع الأحزاب والمنظَّمات الوطنيَّة المعادية للإسلام، وتَرفع شعار العلمانية في حقٍّ من الحقوق الأساسية، ومن الحريَّات التي يَحميها ويَصونها الدستور العلماني الفرنسي، وكأنَّفرنسا تنقضُّ على نفسها، فتضع القوانين وتُحدِّد المبادئ، وفي الوقت ذاته تنقضُّ على هذه القواعد والمبادئ فتُدَمِّرها، ففي حوار الهُويَّة يدعو الكثير إلى مَنْع النِّقاب على المرأة المسلمة، وإلى طَرْد كلِّ مَن ترتديه زوجته، وحِرمانه من الإقامة في فرنسا، وتمَّ استغلال وسائل الإعلام والاتصال الخاصة والعمومية بكيفيَّة رهيبة، وتوظيف مراكز ومؤسَّسات البحث والدراسة في المجتمع؛ ذلك لأسباب أيديولوجية وأمنيَّة ظاهرة، لكن في الحقيقة توجَد أسباب خفيَّة عقدية نصرانيَّة ويهوديَّة، وهذا يتعارَض تمامًا مع التوجُّه العلماني لسياسة الدولة، ففرنسا ليستْ دولة دينيَّة، حتى تَطرَح وتناقَش قضيَّة البُرقع في حوار وطني، وتستغلُّ في ذلك وسائلَ الإعلام الرسمي، فالدين والتعبُّد والمُعتقد، والحجاب وغيره شؤون فرديَّة ذاتيَّة شخصيَّة بَحتة، لكنَّ العولمة المتوحِّشة الشَّرِسة أتَتْ على الأخضر واليابس، ولَم تَتْرُك مجالاً في الحياة الإسلامية في الدول الكبرى، أو خارج هذه الدول إلاَّ دَهَسته، غير مُبالية بمُقَدَّسات المسلمين، أو بالقِيَم الإنسانية العُليا، التي كانتْ وراء الظروف والأوضاع التي صَنَعَت توجُّه العولمة وفَرَضته.
3- الصِّهْيَونية والعولمة وآثارهما:
ومن جهة أخرى نجد للعولمة أصولاً عقديَّة يهوديَّة غير نصرانيَّة، ارْتَبَطت بها على المستوى الاقتصادي والثقافي والسياسي والاجتماعي، تؤثِّر هذه الأصول العقدية في توجُّه العولمة بصفة مباشرة، وبصفة غير مباشرة، من خلال ما تقوم به العديد من الحركات والتيارات الدينية اليهودية، وكذلك الأحزاب السياسية وعددٌ من الحاخامات في إسرائيل، وفي الغرب الأوروبي، وفي الولايات المتحدة الأمريكية وفي غيرها، من نشاطات مختلفة في السرِّ والعَلن، مستعملة وسائلَ الإعلام المختلفة، والاقتصاد والسياسة، والمال والأعمال، ووسائل أخرى غير مشروعة، مثل: المتاجرة بأعضاء البشر وغيرها كثير، نشاطاتها تَستهدف بالدرجة الأولى فرْضَ نَمَطٍ فكري وثقافي، واجتماعي وسياسي واقتصادي، وحتى عقدي واحد، يتميَّز باحترامه المطلق للديانة اليهودية، وتفضيلها على غيرها من الديانات الأخرى، واحترام الشعب اليهودي وتفضيله عن غيره من الشعوب الأخرى؛ لأنَّ الله اختارَه من بين شعوب الإنسانيَّة والتاريخ، وقدَّمه في درجة التفضيل؛ فهو شعب الله المختار، وهي فكرة ثابتة ومبدأ لا يَقبل المناقشة، واحترام دولة إسرائيل وأراضي إسرائيل، فهي هَديَّة إلهيَّة كرَّم الله بها الشعب اليهودي، الذي كثيرًا ما عانى من التشتُّت والتمزُّق والفُرقة؛ بسبب مَكْر الأعداء وظُلمهم، وفكرة تفضيل اليهود عن غيرهم وحِرصهم الدائم على التقليل من قيمة الشعوب الأخرى، ومن أهمية دياناتها وثقافاتها، ورَدّ كلِّ الثقافات والديانات - التي فيها التنوير والإشراق والقوَّة - إلى مصادر وأصول يهودية، ليْسَت جديدة، بل تحدَّث عنها القرآن بإسهاب وفي أكثر من سورة، وعرَفها التاريخ منذ القِدَم، لقد تصدَّى اليهود ووقَفوا في وجه الأنبياء، وفي وجه رسالاتهم، فقَتَلوا الأنبياء، وألْحَقوا بهم كلَّ أنواع الأذى والظلم، كما جَحدوا على الحضارات والثقافات التي عرَفتها الإنسانيَّة عبر تاريخها الطويل أصالَتها وخصوصيَّاتها وقوَّتها، فالثقافات والديانات الشرقية القديمة ذات مصادر يهوديَّة عبرانيَّة، والتراث الفكري والعلمي والفلسفي اليوناني من أصول يهوديَّة، وحضارة الإسلام مدينة للديانة اليهودية وللفكر اليهودي السابق على كلِّ نهضة في الشرق أو في الغرب، أو في غيرهما، وكذلك الأمر مع الحضارة الحديثة والمعاصرة، فهي مدينة لإسهامات اليهود فكريًّا ودينيًّا، واقتصاديًّا وماليًّا في النهضة الأوروبية الحديثة، وفي الانفجار العلمي والتكنولوجي، وفي الثورة الصناعيَّة، وفي التأسيس لليبرالية وللحداثة، وفي التأصيل للحرية والديمقراطية والتعدُّدية؛ إذ تحوَّلت أوروبا وغربُها عمومًا،والولايات المتحدة الأمريكية، إلى قوَّة كُبرى تقود العالم، ومن وراء هذا كلِّه اليهود والديانة اليهودية، والثقافة اليهودية، الأمر الذي ينبغي أن تستوعِبَه شعوب الدنيا، وتَقبل اليهود وفكرَهم وسياستهم، وكلَّ مُخطَّطاتهم في إسرائيل وخارج إسرائيل، وهو شَكْل من أشكال التسلُّط الذي تُمارسه دول المركز، وإرادة فَرْض الهيمنة وبَسْط النفوذ في العالم، ولَمَّا صارَت دولة إسرائيل تنال من الحظوة ومِن الدعم ومن المساعدة من قِبَل القوى العظمى المُهيمِنة على العالم، ما لا تَناله أيَّة دولة في العالم؛ وذلك لأسباب عديدة أيديولوجية وسياسية واقتصادية، ومن ورائها عواملُ دينيَّة، ولأنها الشَّريك والحليف الأول الذي يَحفظ مصالح دول المركز في المنطقة، ومنه صارَت إسرائيل تتصرَّف كأيِّ دولة من دول المركز، لا تَعنيها سوى مصالحها، وتَضرب بقوة أيَّة مُعارضة من أيَّة جهة، كما صارَت تُصدِّر العولمة وتَفرضها.
ترتبط العولمة بمُخَطَّطات الصِّهْيَونية العالمية، وبممارساتها السِّريَّة والعَلنيَّة، وبالكِيان الصِّهْيَوني، وما يُبديه تُجاه العالم بصفة عامَّة، وتُجاه العالم العربي والإسلامي بصفة خاصة، وبما يُعرف بالمسألة اليهودية في العصرين الحديث والمعاصر؛ إذ انصبَّ الاهتمام بأوضاع اليهود في الغرب بالدرجة الأولى وفي غيره، وطُرِحت قضية وجودهم واضطهادهم على مستوى الفكر الغربي، وتعالَت صيحات المفكرين الغربيين للكفِّ عن اضطهادهم وضرورة تحريرهم، ففي الفكر الليبرالي الألماني يكون تحريرُهم عن طريق الوحدة القوميَّة والفكر الأيديولوجي الألماني، وعن طريق الحرية والانتماء للجماعة، وفي الفكر الماركسي الاشتراكي الشيوعي يكون تحريرُ اليهود من خلال تحرير جميع المضطهدين في العالَم، فالحرية والتحرُّر مِلْك للجميع، وليس لليهود وَحْدهم، ولا يكون ذلك إلاَّ بالقضاء على البرجوازيَّة، ولَمِّ شَمْل المقهورين في العالم، والقضاء على كلِّ صنوف الاستغلال، أمَّا الفكر الفلسفي الوجودي، فمن جهته يسعى إلى الغاية ذاتها، ليس من خلال الأنا اليهودي أو الذات الصِّهْيَونية، أو الأنيَّة المُتَصَهْيِنَة، بل بواسطة الآخر؛ لأن اليهود هم يهود من منظور الآخر، وإذا كان الآخر هو العدو وهو الجحيم، فلا ذنبَ لليهود في ذلك، ولا ذنب لليهود في كون الآخر يُشيِّئُهم ويَقهرهم، فتحريرُهم لا يكون من الداخل، بل من الخارج، والعامل الأساسي في قضية الصِّهْيونية واليهودية، هو إعلان العداء للساميَّة، وإذا كانت الثقافة الغربية والأمريكية علمانيَّة، فهي من حيث المبدأ والنظر تُعارِض الدين بما في ذلك الدين اليهودي، لكن في الحقيقة والواقع أنَّ الفكر العلماني له أصولٌ دينية يهوديَّة؛ لأن اليهود لا يَعنيهم تناقُض مبادئهم، وتحالُفهم مع الشيطان، وقوى الشرِّ والعدوان، فعندهم الغاية تُبرِّر الوسيلة، لا تَعنيهم سوى مصالحهم، ولا تَهمُّهم سُبل ووسائل الوصول إليها؛ "إنَّ اليهودية أنشأت العلمانية في أوروبا في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي؛ لتخريب الشرائع السماوية، والعَبَث بالثقافات؛ لإفساد الجيل الناشئ بالمبادئ والنظريات التي يَدُسُّونها له في التعليم والإعلام والصحافة، والنوادي الثقافية، وإنَّ كلمة العلمانية لا علاقةَ لها بالعلم، وإنما هي "اللادينية"، فالعلمانية والدين مُتضادَّان على الدوام، وتطوَّرت العلمانية في مرحلة فصْل الدين عن الدولة؛ أي: مرحلة القضاء على الدين غير اليهودي، وكان من نتائجها في الغرب تدميرُ الفرد والأسرة والمجتمع أخلاقيًّا ورُوحيًّا، والذي ساعَدها على ذلك أنَّ النصرانيَّة تَسمح بقَبول العلمانية الفاسدة: "أعطِ ما لله لله، وما لقيصر لقيصر"، بعكس الإسلام الذي لا يسمح بوجودها؛ لأنه لا يتَّفق معها في أي مرحلة من مراحل تطورها...".
والهجمة الشَّرسة المتوحِّشة التي تَشنُّها اليهودية الصِّهْيونية العالمية باسم العلمانية وغيرها في السر والعَلانية على الثقافة الإسلامية، تتطلَّب العودة إلى واقع العالم الإسلامي بأكْمله، وفي كافة مجالاته، وتصحيح ما ينبغي تصحيحه، وتقديم الإسلام في صورته الصحيحة، من مَنطق النهوض الحضاري المطلوب في ظلِّ عولمة لا تعترف إلا بالأقوياء، وتَسحق الضُّعفاء؛ لأنَّ "المقومات الثقافية والقِيَم الحضارية التي تشكِّل رصيدَنا التاريخي، لن تُغني ولن تَنفع بالقَدْر المطلوب والمؤثر في مواجهة العولمة الثقافية، ما دامت أوضاع العالم الإسلامي على ما هو عليه في المستوى الذي لا يَستجيب لطموح الأُمة".
ارْتَبَطت قضية اليهود في العالم - وفي الفكر الأوروبي الشرقي والغربي بالدرجة الأولى - بتهميش اليهود من جهة، وبحركة اضطهادهم في البلدان القومية، مثل:روسيا وفرنسا وألمانيا، وتنامَت الهُويَّة اليهودية في البلدان التي تعيش ضَعْفًا في قوميَّتها، كشعوب أوروبا الشرقيَّة، ففيها تعاظَم شأنُ الصِّهْيونية، وظهَر الكثير من دُعاتها، ونشأت العديد من الحركات الصوفية اليهوديَّة؛ لتدلَّ على درجة الانطواء والتقوقع في الأنا؛ لحِفظ الهُويَّة اليهودية، ولليهودية توجُّه ذاتي ضَيِّق - ديني وسياسي - يقوم على أفكار خطيرة، أهمُّها أنَّ الله أبْرَم عهدًا بينه وبين اليهود، ووعَدَهم بالأرض المُقَدَّسة الكاملة، وبالنصر الكامل دون مقابل؛ لأنهم أبناؤه وأحباؤه، وشَعْبُه المختار المفضَّل على كل شعوب الدنيا، وما دام في اليهود مؤمنون متعبِّدون: أسلاف وآباء وأجداد وأوائل، أو أخلاف وأبناء وأحفاد، فالله لا يعذِّبهم جميعًا، حتى ولو اغْتَصَبوا الأراضي، وسَفَكوا الدماء، ونَهَبوا ممتلكات غيرهم ظُلمًا وجَورًا وعُدوانًا، ويوجَد توجُّه آخرُ يتميَّز عن التوجُّه الخاص بكونه عامًّا، يَنفعل ويتفاعَل مع الثقافات والديانات والفلسفات الأخرى منذ القِدَم حتى الآن، فمِن عهود الأنبياء ودَحْض النزعة الخاصة، ورَدِّ الاعتبار للاتجاه العام، إلى غاية عهد الإسلام، ومن قَبْله عهد المسيح واليونان، إلى الفكر الغربي الحديث والمعاصر، هذا الاتجاه العام يَضيق ويَتَّسع بدرجة تجاوب اليهود مع الثقافات والفلسفات والديانات التي احْتَكُّوا بها.
إنَّ لنموذج الدولة اليهودية في فلسطين أسبابًا عقديَّة، ارْتَبَطت بالنزعتين الخاصة والعامة، الخاصة لحِفظ الهُويَّة، والعامة للتواصُل مع الآخر: العدو والصديق، وله ظروف تاريخية تجلَّى فيها الوعي القومي بشدَّة في الغرب الأوروبي وفي أمريكا، فتعاظَمت القوميَّات، القوميَّة الألمانية والروسية، والإيطالية والفرنسية، والأمريكيةالقائمة على تعدُّد المقوِّمات: اللغة، والأرض والتاريخ الثقافة، والمصير المشترك وغيره، وفي هذا الجو تعاظَمت رغبة اليهود ومن ورائهم الحركة الصِّهْيونية التي تحوَّلت من حركة تراثيَّة تاريخيَّة دينيَّة مُتعصِّبة وخطيرة، إلى حركة صِهْيَونية سياسية في إنشاء وطنٍ قوميٍّ لليهود على نموذج الأوطان القوميَّة في أوروبا الغربية، تُصدِّره العولمة ويُصدِّره النظام العالمي لجهة في إفريقيا، مثل الغابون، أو في أمريكا اللاتينية، مثل: الأرجنتين، أو في آسيا، وفي الوطن العربي، مثل: فلسطين، مثلما صُدِّر الاستعمار البريطاني إلى مصر والسودان، وفلسطين والعراق، واليمن والخليج، بعد انهيار الخلافة العثمانية في هذه البلدان، والاستعمار الفرنسي لبلاد المغرب العربي، ولسوريا ولبنان، والاستعمار الإيطالي لليبيا والصومال، كلُّ هذا في ظلِّ الحضارة الغربيَّة الحديثة وتفوُّق الغرب ماديًّا وعلميًّا، وتكنولوجيًّا واقتصاديًّا، وانتصاره على الشعوب الأخرى بقوَّة الحديد والنار التي صدَّرها باسم الحرية الديمقراطية، وحقوق الإنسان والإعمار، ونَقْل التكنولوجيا وغيرها، فكان من نتائج توجُّه العولمة ونظامها العالمي في ذلك الوقت - وتحت مطالب اليهود والصِّهْيونية التي كانت مُتغلغلة في أوساط رجال المال والأعمال، وصُنَّاع السياسة في الغرب وفي أمريكا - تشجيعُ الهجرة إلى فلسطين، إلى أنْ جاء وَعْدُ وزير خارجية بريطانيا بلفور المتضمِّن الموافقة على إنشاء وطنٍ قومي لليهود في فلسطين، وأُنْجِز الوعد، وتأسَّس الكِيان الصِّهْيوني، وتوالَت النَّكبات والنَّكسات على فلسطين وعلى العالم العربي والإسلامي ككلٍّ، فمن تنفيذ وعد بلفور إلى قيام دولة إسرائيل، وحرب 1948 إلى هزيمة 1967 إلى نكسة 1973 إلى استسلام الأنظمة العربية للأمر الواقع، والخضوع لمشاريع التسوية منذ معاهدة كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل حتى الآن، لكن الصِّهْيونية والنزعة اليهودية الخاصة مُمثَّلة في التيارات الدينية والأحزاب السياسية، وفي الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة على السلطة، تَمنع كلَّ بريق أملٍ في تسوية عادلة بين العرب واليهود؛ لأنَّ الكِيان الصِّهْيوني في أبعاده الدينية وأصوله العقديَّة السياسية، يَحلم بالمعجزة، بدولة إسرائيل الكبرى، بأرض الميعاد وتحقُّق العهد والوعد، بالأرض المقدَّسة الكاملة، وبالتفوق وبالنصر الأبدي المبين، تلك الدولة التي يُصبح فيها العرب والمسلمون جزءًا منها في ثقافتهم وأموالهم في عالم العولمة واقتصاد السوق.
بمقتضى المرحلة التي يعيش فيها اليهود ودرجة الانتصار والتفوق التي حقَّقوها، ووجودهم في مراكز القوة والغلبة في العالم - سياسيًّا واقتصاديًّا، وماليًّا وعسكريًّا - صاروا في مركز العالم يُرَوِّجون للعولمة على مقاس الأمركة المُتَصَهْيِنَة، ويُنفِّذون مُخططات الحركة الصهيونية القائمة على مبادئ النزعة الدينية اليهودية الخاصة، التي ترفض العيش مع الآخر، ولا تقبل التساوي معه في الحقوق والواجبات وأمام القانون؛ لأنَّ وجود اليهود مع آخر متعدِّد في الثقافات والهُويَّات والأديان، يُفقدهم مقوِّمات هذا الوجود؛ لذا فهم يحرصون على إذكاء مُعاداة الساميَّة، وإبطال الهولوكوست - المحرقة - من طرف أيَّة جهة ومَهْمَا كانت، بهدف تقوية الصهيونية؛ لأنه كلَّما تعاظَم الاتجاه المعادي للسامية، تنامَت مع ذلك الصِّهْيَونية، ووجَدت مُبَرِّرات شرعيَّتها؛ لذا فالصِّهْيَونية تسعى دومًا إلى تقوية العداء للسامية؛ لتبرير حالة الشَّتات وعُقَد المَحرقة والاضطهاد، والتطهير العرقي، وهو أمر مكشوف ومفضوحٌ في العالم، تَكشفه نشاطاتهم السياسية والاقتصادية، التي تَقْوَى باستمرار؛ لكونهم كانوا وراء أحداث انقلابيَّة سياسيَّة وغيرها، نوعيَّة في العديد من بلدان العالم، ويَبسطون سيطرتهم التامة على جهات القرار والمراكز النافذة في الولايات المتحدة الأمريكيةوفي غيرها، وإلاَّ كيف يرفض بلدٌ كالصين الشعبيَّة التوقيعَ على معاهدة الشراكة الاقتصادية مع البلدان العربية في الأيام الأخيرة، وبينه وبين العرب والمسلمين علاقات تاريخيَّة حميمة وثقافية متينة، واقتصادية وتجارية قويَّة؟! وذلك لتضمُّن بند في الاتفاق ينصُّ على أنَّ القدس الشرقية هي العاصمة الأبدية لدولة فلسطينالعربية الإسلاميَّة، ويقومون بالتخطيط لتنفيذ مطالب الصِّهْيونية، والرد بقوَّة على أيَّة معارضة تقف في وجه أطماع وأحلام إسرائيل الكبرى، لكن قوَّتهم كلما ازْدَادت، ازدادَ معها رفْضُ الآخر لهم وبشدَّة، فماذا تستفيد الإنسانية من حلِّ مشكلة اليهود على حساب شعبٍ ضاعَت أرْضُه وسُلِبت حقوقه، وظَهَرت مشكلة أكبرُ هي مشكلةفلسطين؟
لا تَنفصل العولمة عن إسرائيل وعن كافة مرجعيَّاتها الدينية، فالتيارات الدينيَّة اليهوديَّة وراء توجُّه العولمة سياسيًّا واقتصاديًّا، وثقافيًّا وإعلاميًّا وعسكريًّا، والقوى المهيمنة في العالم شركاتها ومؤسَّساتها المالية تُديرها هَيْئَات ومُنَظَّمات ومُخطَّطات يهوديَّة، كما تُدير السياسة الداخلية والخارجية لهذه القوى، كما يقف الفكر اليهودي وتقف الحركة الصِّهْيونية وراء السياسة الإسرائيلية في فلسطين، وفي المنطقة العربية ومع العرب والمسلمين، ومع كل الجهات التي تَقِف ضد الجرائم اليومية التي تَرتكبها في حقِّ الشعب الفلسطيني، وفي حق الشعور الإنساني، وفي حق القِيَم والمبادئ الإنسانية والأخلاقية والدينية العُليا، لكنَّ إسرائيل لا تبالي بالشعور الإنساني في تمرير خُطَطها ونَشْر ثقافتها، وفي المحافظة على وجودها كقوَّة اقتصاديَّة وسياسيَّة وعسكريَّة، كلُّ هذه القوَّة تَنبعث من القوَّة الدينيَّة، ومن الإيمان الراسخ بدَلالات ومعاني التوراة والتلمود وسائر الشرائع اليهودية، ومن الإيمان الراسخ بأهداف ومُخطَّطات وأساليب الصِّهْيونية العالمية، فالصراع الفلسطيني العربي الإسلامي مع إسرائيل تُديره قوى إسرائيلية تَعتمد على التيارات الدينية، هذه التيارات الدينية التي تقف عقبةً كبرى أمام تسوية المشكلة الفلسطينية اليهودية، وتعتبر الأرضالفلسطينية مُقَدَّسة وهديَّة ربَّانيَّة، لا مساومة عليها، وهي فكرة تُغَذِّيها أسطورة الأرض المُقَدَّسة الكاملة في الفكر الديني الصِّهْيوني المتطرِّف، الذي يقوم على مُعتقدات العهد والوعد والأرض المُقَدَّسة الكاملة العقائد، التي حدَّدت موقف اليهود والصَّهاينة بمختلف تيَّاراتهم الدينية والسياسية، وغيرها من الأنا اليهودي الصِّهيوني، ومن أحلامه ومطامحه، ومن الآخر العدو والصديق في الماضي وفي الحاضر وفي المستقبل.
إنَّ موقف اليهود من الذات، ومن الآخر العدو، ومن الآخر الصديق، منابعه دينية صِهْيَونيَّة، موقف لا يَتغيَّر بتغيُّر المواقف السياسية، ولا بتغيُّر الظروف الاقتصادية وغيرها في العالم، ولا يفقد وَحْدته وتَماسُكه أمام تعدُّد التيارات الدينية، وتبايُن الاتجاهات المذهبيَّة داخل التيَّار الديني الواحد، ولا أمام كثرة واختلاف الأحزاب السياسية، وتعدُّد الحكومات في دولة إسرائيل ذات المرجعيَّات والأصول الدينيَّة، فهناك التيَّار الديني اليهودي الأرثوذوكسي الغالب المتمسِّك بيهوديَّة التلمود والتوراة وشرائعها وبخصوصيَّات اليهود، وهو رَدُّ فعْلٍ للتيَّار الديني اليهودي الإصلاحي التنويري، وعلى الرغم مما يُبديه التيَّار الأرثوذوكسي من انقسام نحو الصِّهْيونية: بعضه يعترف بها، وبعضه لا يعترف بها، وعلى الرغم من انقسام التيار الأرثوذوكسي - وهو الذي يُسَيْطِر على كلِّ المُقَدَّرات والإمكانيات في الولايات المتحدةالأمريكية وفي غيرها - إلى تيار إصلاحي، وتيَّار تقدُّمي، وتيَّار المحافظين، وبالرغم من تعدُّد الأحزاب داخل التيار الأرثوذوكسي: حزب البيت الصِّهْيَوني، وحزب التوراة الموحَّدة، وحزب الشرقيين والقرائيين وغيرهم، فإنَّ هذا التعدُّد في الفكر الديني والسياسي المنبثق عن المعتقدات الدينية اليهودية، لَم يؤثِّر البتَّةَ في نظرة اليهود إلى الذات وإلى الغير؛ سواء في علاقتهم بالعرب والمسلمين في أرض فلسطين المغصوبة، أو خارج فلسطين، ومنذ أن وَطِئت أقدام اليهود الأرض الفلسطينيَّة، وهم يعملون على تسخير كلِّ ما لَدَيهم - من قوَّة وغَلَبة وتفوُّق - لسَحْق الفلسطينيين، ومَحوهم من الوجود، وامْتَهان كرامة العرب والمسلمين، من دون اعتبار للماضي الذي عاش فيه اليهود مع العرب والمسلمين في سلامٍ وأمنٍ طيلة العصور الإسلامية الماضية، وكان تفوُّقهم العلمي والديني والفلسفي في الجو الإسلامي في الأندلس؛ حيث عاش المسلمون واليهود والنصارى تحت راية واحدة في وفاق ووِئام وانسجام، وبلَغَت شخصيات من اليهود أعلى المراتب وأرْقَى المناصب في الدولة الإسلاميَّة، فكان موسى بن ميمون قد تأثَّر بالفلسفة الإسلاميَّة، واشتغَل الطبيب الخاص للكامل، وكان اليهود يرفضون الاحتكام للقضاء اليهودي، ويحتكمون لدى القضاء الإسلامي؛ لِمَا فيه من عدلٍ وإنصاف لا يوجد في غيره، واستطاعَ اليهود أن يوفِّقوا بين العروبة والثقافة الإسلامية، وكلُّ هذا يعود إلى الفرق الموجود بين الإسلام واليهوديَّة وغيرها، فاليهودية غَزَت الشعوب واغْتَصَبت أراضيها، ودمَّرت بنياتها المادية والاقتصادية، وقتَلَت الأطفال والنساء والشيوخ، وأهْلَكَت الحَرْث والنَّسل، واستخْدَمَت وتستخدم الأسلحة المحرَّمة دوليًّا، ومارَست مختلف صنوف القهر والظلم والعدوان: من قتْلٍ وتشريدٍ، وتجويعٍ وسجنٍ وتعذيبٍ، وارْتَكَبت جرائمَ نَكراء ضد الإنسانية في الخَفاء والعلانِيَة، بينما دخَل الإسلام بلدان العالَم فاتحًا لا غازيًا، يحمل عقيدة التوحيد لشعوبها، ينشر بينها العدلَ والمساواة، ويَنبذ التفرقة والتمييز على أساس الجنس والعِرق، لَم يَقتل الأطفال والنساء والشيوخ، ولَم يُدَمِّر المساكن على رؤوس أصحابها مثلما فعَلت الصِّهْيَونية في فلسطين وجنوب لبنان، وما فعَلته الأمركة والغرب في جهات عديدة من العالم باسم الديمقراطية وحقوق الإنسان، وحماية الأقليَّات وغيرها، الإسلام حافَظ على حياة الشعوب وعلى أمْنِهم، وعلى لغاتهم وثقافاتهم وعقائدهم، ولَم يكن هناك أيُّ عدوان من المسلمين على اليهود والنصارى، أو حتى على أصحاب المعتقدات الوثنيَّة، فنظام الإسلام أُممي، كلُّ الفئات تعيش تحت كَنَفه في حماية كاملة، من دون تمييزٍ بينها، وانتشار الإسلام والحركة الإسلامية في الماضي للفتح لا للغزو، ولتعميم عقيدة التوحيد بدل الفكر الوثني، ولرفْع الظلم والاستعباد، وإنزال الحق والعدل، ولإقرار الأخوَّة والمساواة بين الناس من دون اعتبارٍ للألوان والأعراق، أما انتشار الحركة الإسلامية في العصرين الحديث والمعاصر، وكأن الإسلام ينبعثُ وينطلق من جديد، فهذا الوضع ارتبَطَ بمواجهة الاستعمار والتخلُّف العقدي والفكري والاجتماعي وغيره، وجاءَت نهضة الحركة الإسلامية سابقة على العولمة، لكنَّ العولمة في إطار أوْضاع الغرب الأوروبي المعاصر، وفي سياق ظروف الأمركة المُتَصَهْيِنَة تَلقَى كلَّ الدعم والتأييد والمساندة بالمال والأعمال، والقوَّة العسكرية وغيرها، الأمر الذي أخْرَج دولة إسرائيل - التي قامَت على اغْتِصاب الأرض وعلى أشلاء أهلها - من بُلدان الأطراف والمحيط، وجَعْلها عنصرًا فعَّالاً وقياديًّا في المركز، تَصنع العولمة وتُعَمِّمها بالجَمْع بين السبيلين: سبيل المَكْر والخِدَاع، وسبيل قوَّة الحديد والنار.
د- العولمة دين جديد:
إلى جانب ما تقوم به العولمة، انطلاقًا من أصولها الدينيَّة الخفيَّة والعلنية، ذات المَنبع النصراني، أو المصدر اليهودي الصِّهْيوني، فهي جاءَت تحمل الدين الجديد للنُّخبة وعَبَدة المال، وتُمثِّل هذا الدين أحسنَ تمثيلٍ، لقد غَدَت "بطوفانها الجارف دينَ النُّخبة، ومَن اتَّبع تلك النُّخبة، حتى ليُطلق عليها أحدُ الباحثين الغربيين الوصف التالي: "دين الأغلبية الداخل إلى العبيد بقوَّة وسلطان المال والتجارة"، ونحن نجد أحدَ الباحثين يَصِف العولمة، فيقول: "لقد وَحَّدت العولمة مفهومَ الأديان التي لكلٍّ منها في حدِّ ذاته خصوصيَّته وتَميُّزه، وجَعَلت الناس تَعتنق دينًا واحدًا، هو دين المال، فنَسِي الناس يسوع المسيح، ونَسُوا الله تعالى، وتذكَّروا أوْجُه الدولار"، والعولمة بهذه الصفة جعَلَت من العقيدة الدينية - التي هي في حدِّ ذاتها حافظة للمنظومة الأخلاقيَّة والخُلُقيَّة والاعتقاديَّة - عقيدةً أرضيةً ماديةً، فأفْقَدتْها الجانب الرُّوحي من دعوتها الأخرويَّة، ومَسَخت جوهر الإيمان الذي يدعو إلى التآخي والتآلُف بين الناس".
اجتَهَدت العولمة أيَّما اجتهادٍ في العمل على الاختراق الفكري والثقافي للشعوب؛ بهدف تفريغ العقول والنفوس والحفائظ من محتوياتها التراثيَّة الثقافية، والدينية والأخلاقية، والاجتماعية الخاصة، والاقتصار على ما هو إنساني مُشترك عام وعالَمي، فتَحَقَّق انتشارُ فكر وفلسفة وثقافة العولمة والأمركة، وهي ثقافة لها خصوصيَّتها وهُويَّتها، وحَصَل انشطارُ وانصهارُ ثقافات الأطراف في الخصوصيَّة الثقافية للعولمة، وفي عملية الانتشار تبشِّر العولمة بدين جديدٍ هو دين المال والأعمال، والتجارة والاقتصاد والإنترنت، وهو دين يختلف تمامًا عن الدين بمعناه التقليدي، ذلك ما عبَّر عنه أحد الباحثين بقوله: "إنَّ العولمة قبل أن تكون نظامًا اقتصاديًّا، كانت نظامًا قِيَمِيًّا جديدًا أسْهَم كلَّ الإسهام في تغيير عقيدة الناس؛ مما صيَّرهم آلاتٍ منتجة ومُستهلكة، وأعني بالمنتجة أنهم يعملون طوال اليوم؛ ليحصلوا على أجْرٍ يُرضيهم في قرارة أنفسهم، ثم يتحوَّلون من بعد ذلك إلى الاستهلاك على إفرازات الاقتصاد الغربي، فما يأخذونه باليمين يُعطونه بالشمال، وهذه العملية الروتينيَّة أنْسَت الناس الدِّين، فدانوا بدين العولمة وَحْده لا غير".
إنَّ الدين الجديد الذي تدعو إليه العولمة والأمركة في ظاهره دينُ المال والاقتصاد، وكل مظاهر وآليات وأهداف العولمة والمركز، طابعها علماني، إذًا فالعلمانية عقيدة ومذهب، واليهودية تستعمل العلمانية - التي لا تلتقي مع الدين - وسيلةً لتحقيق غايات دينيَّة مَحضة، لكنَّها في باطنها لها أصولٌ عَقَدية يهودية، وأفكار ماسونيَّة خطيرة، أهمُّ هذه الأفكار: تحقيق وَحْدة الأديان في دين واحدٍ.
"إنَّ أساس الدعوة التي تنادي بها الصِّهْيَونية العالمية، وصِنْوها الماسونية، هي دعوة وَحْدة الأديان في دين واحدٍ يمحو النصرانية والإسلام وكلَّ الديانات التي وُجِدت على الأرض، وهو دين العامة؛ تفريقًا له عن دين النُّخبة، (الدين اليهودي حسب زعمهم)، وذلك ما نجده في ظهر ورقة لدولار بالعبارة الشهيرة (بالله نحن نَثِق)، من غير تحديد لأيِّ إله يتجه القصد، إله الدم اليهودي، أم إله (الوهيم) إله الدمار اليهودي، أم إله القتل الذي خوَّل يوشع (حسب زعمهم) أن يقْتُل أهل أريحا، ويتعرَّضهم بحدِّ السيف؛ لفَرْض دينه واقتصاده المحرَّر وقتها، وهذا الأمر لا يختلف عن ذلك الأمر قَيْد أُنْمُلة؛ كما تقول العرب".
وينبُّه كثير من المفكرين والباحثين في العالم العربي والإسلامي المعاصر، إلى خطورة العولمة كدين جديدٍ يَستهدف ضَرْبَ الأديان الأخرى - وفي مقدمتها الإسلام - باسم وَحْدة الأديان، وهي دعوة لَم يَأْت من ورائها سوى انهيار القِيَم والانحلال الخُلُقي والخَلْقي - بفَتْح الخاء - والرِّبح الفاحش، والظلم والاستبداد بكافة أشكاله، والاستغلال بجميع أنواعه، وجاءت إستراتيجيَّة العولمة الداعية إلى عقيدة المال والاقتصاد، ووَحْدة الدين المعتقد، ووحدة الثقافة، ووحدة الحاضر والمستقبل، والانصهار في الأمركة، عقيدة قواعدُها لا تَنسجم البتةَ مع كل الأديان السماوية والوضعية؛ لأنها لا تَزرع في العالم إلا التفرِقة والعُنصرية، ولا تُنَمِّي سوى مشاعر الكراهية والحقد، والضغينة والبغضاء، وحصادُها لا يقتصر إلاَّ على قتْل وتشريد الأطفال والشيوخ، وتدمير البيوت على رؤوس ساكنيها، ولا تُنتج غير العُنف والعنف المضاد، وشعاراتها برَّاقة كاذبة ومخادعة، هي عبارات حقٍّ وصِدْقٍ أُريدَ بها باطلٌ ونفاق، والتاريخ يَشهد على انهيار المنظومات الأيديولوجية المعادية لمكارم الأخلاق والمجانبة للحقائق الدينية، وسقوط الإمبراطوريات التي شُيِّدَت على الظلم والطغيان والتعسُّف، وأُفول مراحل الظلام؛ لتُفْسِح المجال لنور العلم والحق والعدل، "عندما اجتاحَت جيوش هولاكو بغداد عاصمة الخلافة العباسية، واحتلَّ المغول بعض البلاد الإسلامية، واحْتَكُّوا بالشعوب الإسلامية والثقافة والدين الإسلامي، وبعد فترة آمَن المغول بالدين الإسلامي، بعد أن آمَن أحدُ حُكَّامهم به؛ حيث عَمِل على نَشْره في ربوع الإمبراطورية المغوليَّة، وحلَّت الثقافة الإسلامية محلَّ الثقافة المغولية في بلاد كثيرة من آسيا؛ نتيجة لإيمان شعوبها بالدين الإسلامي".
تدعو العولمة إلى التديُّن بالمال والاقتصاد، والمروق عن العقائد المألوفة في الديانات السماوية والأرضية؛ "إنَّ العولمة في دعوتها اللاظاهرية إلى الاقتصاد دينًا، جعَل المال ربًّا، وترَك النُّظُم الأخلاقية؛ لأنها لَم تَعُد محرَّرة، إنما تَنبع من منابع مُوغلة في ضلالتها، ومن عجيب أنَّ بعض الباحثين لا يَرون في العولمة إلاَّ مذهبًا اقتصاديًّا، تُطَوَّر فيه الرأسمالية إلى العولمة، ويَنْسَوْن أن العولمة هي دعوة يَصْدُق عليها قول الباحث الذي قال: "إنَّ العولمة في هذه الدراسة، حوَّلت قِيَم عالمنا إلى قِيَم مُعَوْلَمة، فَقَدت صِلَتها بماضيها الذي كان يحضُّ على التسامح والإيثار، ولقد سَيَّرت العولمة الناسَ في طريقٍ لا رجوعَ عنه إلا بالموت، فصار الناس - إذ يمشون في هذا الطريق - يكتبون كلَّ يوم قِيَمًا جديدة، تختلف عن قِيَمهم الدينية والخُلقية، فنَسُوا الدين والخُلق، لقد صارَت العولمة - كما قدَّمنا - دينَ الاقتصاد المحرَّر في العصر الحديث، وما أراها إلا عقيدةَ الشيطان في حدِّ ذاته؛ لِمَا احْتَوَتْه من فِسقٍ اقتصادي، وتخريبٍ قِيَمي، وإلحادٍ ديني؛ سواء أشعر الناس بها، أم لَم يشعروا.
إن غاية الأفكار الاقتصادية المدنية التي تَشيع في المجتمع كلَّ يوم، لتدعو إلى إصلاح قِيَم المال بدلاً من قِيَم الإيمان وفضائل الأخلاق، وهي ما نراه في منظومة العولمة التي صَبَغت الحضارة الغربية بصبغة إلحاديَّة أبْعَدَت الناس عن الكنيسة إلى بيت عبادة جديد، هو المعمل، أو المكتب، أو مكان العمل الذي غدا بديلَ الكنيسة والمسجد".
إنّ كلَّ الدلائل تؤكِّد بجلاءٍ أنَّ العولمة في عصرنا دينٌ جديد، وعقيدة التوجُّه الحضاري للقطبيَّة الأُحادية، مُتَمَثِّلة في الغرب الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية، فالعولمة دين النُّخبة الاقتصادية وعَبَدة المال، لا الفضائل والقيم الإنسانية العليا، والضمير الخُلقي والوازع الديني، دينُ المادة لا الرُّوح والعقل والوجدان، دينُ الغريزة والشهوة و"البورنوغرافيا"، لا التربية الرُّوحية والأخلاقية والدينية، وتهذيب اللذات والسلوك، وترشيد الرغبات والميول والأهواء والعواطف، دينُ الانتماء إلى العالم الذي هو دون انتماءٍ يَعيش في غموض وإبهام، وشمول وضبابية، لا ولاء فيه لوطنٍ، أو لأرضٍ، أو لقوميَّة، أو لدينٍ ما، أو لأُمَّة أو لغيرها، دينٌ كلُّ شيءٍ فيه مفتوح وبحرية، لا يَعترف بالحدود الجغرافية والسياسية والثقافية وغيرها، دين يَحرِص على الانتشار والانصهار، انتشارِ العولمة والنظام العالمي وعقيدتهما في كلِّ مكان، وانصهار كلِّ الشعوب وكلِّ الثقافات وكلِّ الديانات في بَوْتقة واحدة، هي وَحْدة الجنس البشري؛ ليعيش تحت مِظَلة العولمة وبقيادة سلطة المركز، هذا هو مَطمح الحركة الصِّهْيَونية العالمية، وصِنْوها الماسونية منذ ظُهورهما.