الشباب: الواقع والمستقبل
على مر العصور، ينظر أبناء الجيل السابق الى الجيل الذي يليهم من أبنائهم وأبناء مجتمعهم بعدم الرضا الكامل، نظرة يشوبها الأسف والحسرة والقلق والخوف على مصير المجتمع. ولهذا التخوف أسبابه ودوافعه، وليس من الضروري أن يكون تخوفهم بمكانه، فقد يكون مبالغاً فيه، وقد يتأتى عن عجزٍ في فهم قوانين التطور الحضاري والاجتماعي.
تجلس النساء المسنات، يستعرضن الهفوات التي تقع فيها بناتهن وزوجات أبنائهن (الكنَّات) في تدبير أمور أسرهن، ويتندرن في طريقة صنع (الكُبَّة) التي تقوم بها الشابات، ويقارنهن بإتقانها على أيامهن، كما لا يتركن مجالاً إلا وانتقدنهن من النهوض من النوم متأخرات، أو عدم قدرة الشابات على إشباع أطفالهن من حليب أثدائهن، وكثرة زيارتهن للطبيب، ومبالغتهن في طلبات الشراء الخ.
كما يجلس المسنون ويستعرضون مواضيع مثل: ارتخاء أجسام أبنائهم وقلة خشونتهم وعدم قدرتهم على إصلاح خلل في البناء أو الأبواب واعتمادهم على إحضار من يصلح أبسط الأعطال في دورات المياه والكهرباء وغيره، ولا ينسوا المرور على ليونة التعامل مع زوجاتهم لدرجة الخضوع.
وإذا ما كان هؤلاء المسنون ممن كان على قدرٍ من العلم والثقافة، فإنهم يعيبون على أبنائهم جهلهم في اللغة والجغرافية والتاريخ والسياسة، وانصرافهم للاهتمام بتوافه الأمور من تشجيع فريق كرة قدم أجنبي والتباري في شراء أحدث أجهزة الهاتف المحمول والاشتراك في محطات تنقل برامج ترفيهية أو رياضية، لا يرون في الاطلاع عليها أي منفعة، إلا أنها تهدر المال والوقت.
في المقابل، تجلس الشابات المتزوجات أو اللاتي في طريقهن للزواج، يتناولن أمهاتهن وجداتهن بأسلوب ساخرٍ، فهذه بخيلة وتلك حشرية وأخرى (كثيرة غلبة)، وكيفية انتقادهن للملابس وطرق التغذية، مما يجعل الفتيات الشابات يلجأن لإخفاء أسعار السلع التي يشترينها لكي لا يقعن في (نوبة) تقريع وانتقاد.
ويجلس الشباب، يستعرضون أقوال آبائهم وأفعالهم، ويعتبرونها (دَقَّة قديمة) سواء فيما يتعلق بنظرتهم للسياسة أو الحياة بشكل عام. ولا يخفي البعض نفاذ صبره في مسايرة هؤلاء الآباء والأجداد، إذا ما كان هؤلاء الآباء والأجداد على قدرٍ من الغنى فينتظرون ما سيتركون للتصرف به وِفق رؤيتهم هم لا وفق رؤية آبائهم. وإن كان الآباء لا يملكون شيئاً فإنه يكون من باب الكرم من قبل الأبناء أن يهجروهم الى غير رجعة، دون أن يشتموهم ويسألوهم عن سبب إنجابهم لهم دون أن يحسبوا المخاطر التي ستواجههم. وإن كُنَّ بنات ينتمين الى أسر فقيرة، فإن حقدهن على ذويهن سيكون أكبر، لربط الفقر ربطا عضويا بإمكانية زواجهن!
انفلات التتابع الأسري
قبل أن يتطور الطب في بلادنا، وقبل أن يتطور انفتاح أبواب العمل والرزق، كان عدد سكان بلادنا لا يزيد إلا فيما ندر، ففي بلدة من بلدات (حوران) كان عدد سكانها عام 2750 نسمة عام 1927، ثم كان 3200 نسمة عام 1954، والآن يربو عدد سكانها عن 100 ألف نسمة. وهذا المثل قد يمتد لعموم الوطن العربي، والذي كان عدد سكانه 100 مليون في الستينات في حين أنهم يعدون الآن أكثر من 340 مليون، نصفهم أو أكثر من الشباب الذين لا تزيد أعمارهم عن عشرين عاما.
كان الابن والبنت يجدا ارتباطهما بالأسرة من خلال تطور الحياة الاقتصادية، فإن توفر الطعام والقدرة على العلاج والمداواة والكساء، صمد هذا الابن وتلك البنت حتى يبلغ أشده، ويستقل في حياة لا تبتعد عن الأسرة كثيراً. وإن لم يتوفر الطعام والمال، فإن الطفل سيتسرب من الحياة كتسرب التلميذ من المدرسة، إذا تعذر على أهله تلبية احتياجات بقاءه في المدرسة.
كانت الحياة تشكل تتابعا كما هي في سباق التتابع المكون من عدة مراحل، فالجيل الأول يجتهد ويكد ويتعب حتى يؤمن للجيل الذي يليه وسائل البقاء؛ تلك الوسائل تشمل المعرفة والسكن والعلاقات والأحلام والانتساب للأسرة.
وإن كان التتابع في الأسر يفترض التطور والصعود من حالة متواضعة لحالة أكثر استقراراً وأكثر رِقياً، فإن هذا الافتراض يستوجب الإلمام بقوانين الحياة حتى تنهض الأسرة وينهض معها المجتمع بنهوض كل أسره. وبعكسه فإن لم يكن هناك دراية ومعرفة بقوانين الحياة سواء من أرباب الأسر أو من أرباب الدول، فإن هذا التتابع سيشبه تناقص ارتفاع قوة الكرة المقذوفة عالياً فإنها في كل مرة سيقل ارتفاع ارتطامها بالأرض حتى تسكن ويصبح ارتفاع ارتطامها صفراً.
فلو عدنا للبلدة التي تحدثنا عنها، والتي كان سكانها في الخمسينات من القرن الماضي حوالي 3200 نسمة، كانوا يزرعون 18000 هكتار لإطعام أنفسهم والتصرف بجزء من فائض محاصيلهم لشراء حاجات أساسية. أي أن كل فرد كان يحتاج حوالي 5.6 هكتار لكي يبقى حياً، واليوم لا يزرع المائة ألف سوى ثلث تلك الأرض، وطلباتهم ونوعيات احتياجاتهم زادت بتنوع متطلبات الحضارة، ولم يحدث أن تطورت أساليب الزراعة بنفس الدرجة التي تطور بها عدد السكان، فمن أين يحصل هؤلاء السكان على أسباب بقائهم؟
سيقول قائل: أنها من الرواتب والأجور وغيرها، وإن كان هذا الكلام صحيحاً، فمن أين تأتي رواتب هؤلاء والثروات محدودة ومعروفة؟ فالذي سيدفع تلك الرواتب إما الدولة وإما الأهالي وفي الحالتين هما تشكيلان قديمان يفترض أن محصلة دخولهم ستكون مجموع حاصل ما ينتجه الفرد الذي لا ينتج!
إن تداخل العلاقات مع الجوار دفعت الناس الى التنقل من دولة الى أخرى، وما يَرْشَح من دول النفط الى دول الجوار بشكل مساعدات وهبات وأجور العاملين من تلك الدول سيصنع حركة زائفة لرأسمال يتداول حائزوه عناصره فيما بينهم، ليبيع المزارع أرضه، ويبني بها بيتاً أو يدرس ابنه الطب أو الهندسة أو الحقوق، لتتحرك الأموال بين الناس بحركة يبدو للمراقبين أنها (عَفِية)، ولكنها ستجعل الناس يتداينون ويقترضون ويرهنون ويفلسون ويلعنون واقعهم!
هنا، ستتفكك الروابط بين الأجيال، ولا يعود ابن الجيل الماضي بثقافته وأسلوب حياته ونصائحه وتحسره مفيداً لابن الجيل الحالي، فهو لا يجيبه على تساؤلاته ولا يقدم له ما يعينه على تجاوز وضعه (المأزوم)، وعندما تصبح الأسرة لها صفة غير محببة لأبنائها فإن الوطن لن يكون محبباً لأبنائه!
يتبع