بِ حَذقٍ مِنْ مُعَاناة قَلمٍ قَد سَأِمَ نَزف ثَروته التي تَنحَصِر في مُكوِّنَاتِ الحِبرِ , تَمكُثُ الأوجَاع .
و بِخَليطِ فَرحةٍ مَع وَجعٍ يَندُب القَلب الذي خُلِقَ بِ دَاخلِه , تَرقُص أفكَار الرّحيل عَلى سِحر الإيقاع .
أرحَلُ مِنْ ضَريحِ الجَناح السّادس و العِشرين , لأبقى في غُرفَةٍ سَافَرت مَا بين انتهاء الضّباب إلى آخرِ مَدٍّ مِن وَاجِهَةٍ بَحريّة , فَوق تَراقص شُطئآن الألم عَلى مَرمَىً مِنْ مُثول غَضبِ الأموَاج ِ .
يُخيَّلُ لِي بأنّ الطُّرقَات كُلّها مَملُوكَةٍ بَين ارادتي و طَوع يَدي , و تُصدَمُ مشَاعر إثر صَفعَةٍ تلقّتها مِن نَهمِ القَدر , و هُروب لذّة الذّكريات التي خُلِّدَت على لوحٍ خشَبيّ .
ذهُولٌ أصَابَ مُتطلِّعَةٌ مِن الوُرود التي نمَت في طَرفِ البُستَان , عِندما اعتلَت أغصَانها لِـ تُطِلُّ مِن نَافِذة الكُوخُ الذي بهِ تَعيشُ أشلاءٍِ بَقَت !
أشلاءٌ !
يَستعْمِرُهَا الوَهن , و تَمضَغُهَا روحٌ شيطَانيّة , لا لونَ لها .. لا رائِحَة .. لا وُجود !
أشلاءٌ , انتهَت و هِيَ تَرتَسِم عَلى مَلامِحِ العَزاء الأسوَد , و تجُرُّ أذيَال الحَسرَة .
تُجَابِهُ التّفكِير , و تَنحَصِر نبضَاتها عَلى وَتيرةٍ وَاحدة , طِيلة العَام .. امتداداً مِن المَمرّ السّادس و العِشرين .
أشلاءٌ لا توَدُّ أنْ تَرحَل مِن حيَاة ِ غُربتها , لا سُيّما بَعد أنِ التَقت بـِ جَمعٍ قَليلٍ مِنْ أشلاءٍ تلاشَت مِنها الأرواح , لِـ تبقى جَاثِمَة على تمخُّض الأقدَار .. و ينتأُ بهَا التّفكير لِـ تُصبِحُ فَارِغَةً مِن الحيَاة ِ .
هُنــــاك , في طَرفِ الكُوخ عَلى أرِيكَةٍ تمزّقَت أطرَافُهَا مِنْ وَجعِ أناخَ حُمولَته عَليها .
يُثَرثِرُ الألَم , و يَهدأ فِي النِّصف الأخِير مِنْ هَزيعِ الليل .
و كأنّ لَعنَةٌ مِنْ زوَابِع الغُربَة لا تُرِيدُ أنْ تَبرَح هَذا الكُوخ , فَـ أبقى مُتأمِّلاً مُبتَسِمَاً لِ تَصويرِ الذّكريات أمَامي .. و أستَبِيحُ قصُورَاً بُنِيتْ مِن مُخيِّلَةِ طِفلٍ يُناهِزُ سَبعاً و عِشرينَ لَعنة !
مُرَتِّلٌ تِلاواتِ البَقاء .. البَقاء
و رَغبَةٌ فِي البَقاء , تَصرخُ فِي أرجَاء جسَدي لِـ يَسقِطُ جسَدي فِي قَاعِ الألَمِ .
و أيُّ بَقاءٍ هَذا الذي يَفرِضُ حُمق ركَائِبه مُتسَلِّطَاً و مُبتغيَاً عَناء الكُوخِ بِمَن فيهِ .
و تَنْسَكِبُ زَمجرَةً مِنْ قَارورةٍ لِـ يَبدأُ مَشهَدَ الشُّعور الصَّامِت .
فِي فَصلِ شِتاءٍ قَد مَضى , بَل في نَسْجِ خيُوطِه البَارِدَة , كنتُ أستَظِلُّ تَحتَ شَجرةٍ تُعاني جِوار كُوخي .
أستَظِلُّ بِـ ظِلٍّ عَن ظِلِّ الظّلام , لأبقى ضَليلاً ضلَّ في ضلالتهِ سبعاً و عِشرينَ ضلالة !
و يَهتِفُ القَمر بِ انحنائَةٍ انثويَّةٍ تُعطِّرُ أنفاسي بِـ شُهبٍ تَجعَلني أغفو و يَغفو استيعَابي .
و في ظِلِّ ثرثرة الظلام , تَمتَدُّ يَداً إلى يَدي , و تأخُذَني تَحت وَضْحِ القَمرِ , و يَدورُ المَشهَد بِـ صَمتٍ بَاكي , لأرى نَفسي وَاقِفاً يَكادُ يَهوى فِي أحضَانٍ نَاعمَة , مِنْ هَولِ القَدر لا تَستَطيعُ رَدّة فعلي أنْ تَكتَمِلُ سِوَى بِ ابتسَامةٍ مُندَهشَة تُخَالِطُها الدُّموع ِ .
و أغفُو مَرّةً أُخرى حَتى يَحتَضِرُ استيعَابي عَلى مَلمَسِ تِلكَ اليَدِ , و كأنّها رَحمَةٌ إلهيّة أمدّتني بِهَا السّماء حَتى تَنمُو أشلائي مَرَّة أخرى .
جسَدُ أنثَى , بأكمَلهِ و بِطهَارَتهِ و بِعُذوبَةِ مُحيطِه , يُحِيطُ بِي و يَحجِزُ الهَواء الذي أدمَنَتْهُ أنفَاسي .
جسدٌ يَلثِم جسَدي , لِ يَسقطُ جسَدي إثرَ اغمَاءَة البَقاء و الرَّغبة بِـ قَدحٍ اعتَادت أجْهَزِتي عَلى تَلقّي مَا سُكِبَ فِيهِ .
أُنثَى تَقطعُ ثرثرة الظلام !
تنَاولَت مِعطَفي مُبتَسِمَة , تَزخَرُ بِـ عُذوبةٍ طَاغية , رأيتُ فِيهَا الكَون كُله , رَأيتُ ذِكرياتِي و مُستَقبلي , بَعد أن رأيتَ " مُضَارعي " يَحتَضِر مَا بَين صَدرها و أعلى عُنقهَا الذي يَحمِلُ جَمالاً بَاهضاً .
تمَاثلَت بالرُّكوعِ لِـ تُمسِك يدَ جُثماناً بَقِيت مِنهُ أشلاءً تناهَت و استقرّت في غيَاهِبُ الألمِ .
لِـ تَهمِسُ " أملاً بربِّ جُنونٍ قَد رحَل أملاً " .. و تَستَمِرُّ فِي الحَديث و أنا لا أكَادُ أسمَع سِوَى تمتمَاتٍ لا تُفهَم .
أُنثَى تَقطعُ ثرثرة الظلام !
تُرَاوِدُ جسَدي ابتغَاء رَقصَةِ اللقاء , و أهمِسُ بِ صَوتٍ مُتثَاقِل :
هُزِّي إليكِ بجذعِ الألمِ تسَاقط عليكِ وجعاً مَخفيّا ً !
و أوزعِيني ذاتَ صَحوةٍ حَتى أكُونُ كـ أولئِكَ الذين يَشكُرون سوَابغ النِّعَم .
لا طَاقَةَ لِي عَلى الرّحيل , فَـ قَد شَرِبتُ ذاتَ سُكرٍ مَع أرِيكَتي نخبُ البَقاء , و ثَمِلتُ عَلى عَهدٍ تقدّس بِـ عَهدٍ يَقطَعُ دَابرَ الرّحِيل .
أُنثَى تَقطعُ ثرثرة الظلام !
بِ غيِّهَا و دَركات عَذابها مُجونِ رُوحٍ تكلّلَت بِـ نَهمِ مُشَاهدَة نَاظرٍ كَلَّ عَنِ النَّومِ حَتى كلَّ مَتني .
فلمّا كلَّ مَتني كَلَّمَتني !
وشَايةٌ تُمْطِرُ تَحت شَجرةٍ ضَاقت ذَرعاً مِنْ جِوارِ كُوخي , و كأنّ مَا يَلفُّ المَجرّات , يَلُفُّنِي .
تَغلَّفتُ بِها , و غَلَّفتُهَا بِ ثَرثرةٍ مِنَ الظّلامِ , لـِ تُعَاودُ مِنْ جَديد سَحبَ مِعطَفي مِن مُحيط جسَدٍ مُتهَالِك .
لِ تَكونُ رَدَّةَ فِعلي هَذهِ المَرة , بِ تجَاوبٌ يَقطَعُ لَعنة استرسَالِ الوَجع فَـ تَستَفِيقُ جوَارحي .
و أحتَوِي جسَداً مَبعُوثَاً مِنَ السَّمَاءِ فِي قَبضَة جسَدي , و أرقُصُ رَقصَةَ مَن لا يَرقُص بكلِّ مَا أوتِيتُ بهِ مِن وجع .
مُتخَبِّطَاً يَضحك و يَنظُرُ إلى السَّماء , لأنَّ ثمَّة شِهَاباً زُرِعَت بِـ أنفاسَه خيَانة النُّجوم , دون استئذَانٍ مِنَ القمَر , بِـ جَبروت أنوثتهِ هوَى بِـ سُكْنَاي !
و أبقى بَعدَ ثرثرةِ الظّلامِ مُمسِكَاً أُنثى تَناولَت مِعطفي و رَاقصَت جُثمَاني , مُوَدِّعَاً حَذقِ المُعاناةِ ..
مُودِّعَـاً كُـــــــلِّ الأشلاء , مُحَطِّمَاً كُلّ الأشيَاء , مُمَزِّقَاً سِحرَ الآلاء ..
و أبقى مَع أنثى السّمــاء , تَحت بَردٍ و وفَاء , مُستَظلِّينَ أروَع الأفيَاء ..
تَقدَّسَ بِ تَاريخ 16/ أبريل / 2010
ياسر المعلا .