أولا: فضل الوالدين في القران الكريم:
حقيقة عندما تقترب من هذا الموضوع تحس بأنك تزلزل داخليا معه، يكاد قلبك أن ينخلع، بل يكاد لحم وجهك يسقط، بل لا تستطيع التحكم في سيل الدمع ولا شكوى اللسان خجلا وحياء واستحياء من الله لتقصيرنا في هذا الحق العظيم، والذى جاء به قرآن يتلى ويتعبد به إلى يوم الدين، فالأم والأب ودائما نقول: الأم قبل الأب لأن الذي قدمها هو المصطفى كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن رجلا جاء إلى النبي فقال له: من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: ((أمك))، قال: ثم من؟ قال: ((أمك))، قال: ثم من؟ قال: ((أمك))، قال: ثم من؟ قال: ((أبوك)).
إذا ذكرتهما ذكر البر والإحسان، وإذا ذكرتهما ذكر الوفاء والعرفان، وإذا ذكرتهما ذكر فضلهما في السنة والقرآن، وإذا ذكرتهما أسعفتك بالدموع العينان، ذهبت أيام حياتهما، وانقضى شبابهما، وقفا على عتبة هذه الدنيا ينتظران منك قبا رقيقا رقراقا عطوفا حنونا، ينتظران منك كلمة حانية وبرا وإحسانا وجودا وعرفانا، كيف لا والأم قد لاقت من الآلام والمصاعب ما لاقت، يود المرء أن يكون معه نسيا منسيا؛ من حمل وولادة ووضع ورضاعة، جعلت لك بطنها وعاء ودمها لك غذاء وثديها لك سقاء وحنانها وعطفها لك غطاء، تبكي لتضخك أنت، تجوع لتشبع أنت، تسهر لتنام أنت، تمرض لتشفى أنت، تحزن لتسعد أنت. والأب يلاقي ما يلاقي في هذه الحياة من متاعب ومشقات ومصاعب؛ ليوفر لك لقمة العيش الحلال والبيت السعيد والمال الوفير، لتعيش مرفوع الرأس بين الناس.
من هنا كان الملك الجليل جل وعلا يعلم فضلهما وعظم مكانتهما، ورفعها وجعلها مكانة سامية تتوارى معها كل مكانة مهما علت أو سمت، بل قرن المولى جل وعلا هذه المكانة بأهم حق لله تعالى على عباده على الإطلاق، ألا وهو حق التوحيد إذ قال تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء: 23، 24].
قرن عبادته وتوحيده وتمجيده والخضوع له والتذلل له مقترنا بالإحسان إلى الوالدين ولين الجانب وخفض الجناح لهما وجعلهما فوق الرأس، بل وضع أقدامهما فوق الرؤوس كما كان يفعل محمد بن المنكدر، كان يضع خده على التراب ويقول: يا أماه ضعي رجلك على خدي.
قال تعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [النساء:36]، وقال تعالى: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الأنعام:151]، وقال تعالى مخاطبا الأمم السابقة: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا [البقرة:83]، بل وصى الله تعالى وصية خالدة إلى يوم القيامة نزل بها سيد الملائكة على سيد البشر والأنبياء والمرسلين ، فقال: وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا [العنكبوت:8]، وقال: وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنْ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ [لقمان:14]. فأي فضل هذا؟! وأي منزلة ومكانة هذه؟! بل قال ابن عباس رضي الله عنهما: (ثلاث آيات نزلت مقرونة بثلاثة، لا يقبل الله واحدة بدون قرينتها، أما الأولى فهي قوله تعالى: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [النور:54]، فمن أطاع الله ولم يطع الرسول فلن يقبل منه، وأما الثانية فهي قول الله: وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَءَاتُوا الزَّكَاةَ [البقرة:43] فمن أقام الصلاة وضيع الزكاة لن يقبل منه، أما الثالثة فهي قول الله تعالى: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ [لقمان:14]، فمن شكر الله ولم يشكر لوالديه لن يقبل منه).
فشكرك والديك هو برهما والإحسان إليهما والقيام على خدمتهما وأن تجثو على الركب تحت أقدامهما كالعبد الذليل بين يدي مولاه؛ لأن هذا من مقامات النبوة ومن أخلاق الأنبياء، فهذا نبي الله نوح يقول: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِي مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [نوح:28]. وهذا نبي الله إبراهيم الذي علم البشرية كلّها معنى البر، انظر كيف يتحبّب إلى والده بأحب كلمة له كلمة يا أبي، والله الذي لا إله غيره منّا من يتمنى أن يسمع هذه الكلمة ولو لو مرة واحدة، نداء غالٍ له قيمة روحية عالية، انظر مع أن أباه على الكفر يصنع الأصنام ويبيعها ويروّج لها في الأسواق، ومع ذلك انظر إلى هذا النداء الرقيق الرقراق الذي يلين القلوب القاسية: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا إِذْ قَالَ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنْ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا يَا أَبَتِ لا تَعْبُدْ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنْ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا [مريم:41-45]، ما أجمل هذا الأدب والبر من خليل الرحمن بعد أن رفض أبوه دعوته، انظر إلى حسن المعاشرة والبر والأدب من الخليل: سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي. وهذا نبي الله يحيى، وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا [مريم:14]. وهذا نبي الله عيسى، وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا، بل وإن كان الأب والأم على الكفر فقد أمر الله سبحانه بالإحسان إليهما بالمعروف في الدنيا، قال تعالى: وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ.
أي فضل هذا أيها الحبيب حين تصبغ بصبغة البر والإحسان والصدق والإخلاص ستجنى ثمرات هذا البر من الله، وهذا هو عنصرنا الثاني.
ثانيا: ثمرات البر:
1- أيها الأخ الكريم، اعلم ـ رحمك الله تعالى ـ أن البر من أعظم الطاعات وأجلّ الأعمال إلى الله تعالى؛ لأن البر بلغ عند الله مكانة عالية سامية، وعند المصطفى أيضا، كما في الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سألت النبيّ : أيّ العمل أحب إلى الله؟ قال: ((الصلاة على وقتها))، قلت: ثمّ أيّ؟ قال: ((بر الوالدين))، قلت: ثمّ أيّ؟ قال: ((الجهاد في سبيل الله)).
انظر إلى هذه المنزلة العظيمة للبر عند الله تعالى، بل في البخاري من حديث ابن عمرو أن رجلا جاء إلى النبي قال: أبايعك على الهجرة والجهاد أبتغي الأجر من الله تعالى، فقال: ((فهل لك من والديك أحد حيّ؟)) قال: نعم، بل كلاهما، قال: ((فتبتغي الأجر من الله تعالى؟)) قال: نعم، قال: ((فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما)). فجلوسك تحت أقدام والديك وتقبيلهما وغرس السعادة في قلبيهما ويد حانية وكلمة رقيقة وقبلة حانية أعظم قربة لله تعالى بحبّ وإخلاص، بل راجيا من الله لهما البركة في العمر والرزق والصحة، وهذا شيء مهم جدا، لا بدّ من الحبّ بإخلاص، جاء رجل إلى الفاروق عمر رضي الله عنه فقال له: إن لي أمًا بلغ بها الكبر، وإنها لا تقضي حاجتها إلا وظهري مطية لها، وأوضئها وأصرف وجهي عنها، فهل أديت حقها؟ قال: لا، قال: أليس قد حملتها على ظهري وحبست نفسي عليها؟! فقال عمر: إنها كانت تصنع ذلك بك وهي تتمنى بقاءك وأنت تتمنى فراقها.
نعم أحبتي، يجب الإخلاص في حبهما، بل قال أبو موسى الأشعري: شهد ابن عمر رجلاً يطوف بالبيت قد حمل أمه وراء ظهره يقول:
إني لها بعيرها المذلّل إن أذعرت ركابها لم أذعر
فقال: يا ابن عمر، أتراني جزيتها؟ قال: لا، ولا وبزفرة واحدة، ولكنك أحسنتَ، والله يثيبك على الإحسان.
إنهما بابان إلى الجنّة تدخل منهما إلى الجنّة، كما قال أحد الصالحين إياس بن معاوية عندما ماتت أمه فبكى بكاء مريرا، فلما سألوه: لِمَ تبكي هكذا؟ قال: كيف لا أبكي وقد كان لي بابان إلى الجنة، واليوم أغلق أحدهما؟! الله أكبر.
2- البر سبب في دخول الجنة:
كما في مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((رغم أنف ثم رغم أنف ثم رغم أنف من أدرك والديه عند الكبر أحدهما أو كلاهما فلم يدخل الجنة))، خاب وخسر ولصق وجهه بالتراب، إنها تجارة رابحة مع الله جل وعلا، رأس مال مع الله ينمو ويزيد، فاز به من برهما، وخاسِر ومغبون من عقهما، بل في الحديث الذي رواه البيهقي ورواه ابن ماجة وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة من حديث معاوية بن جاهمة أن جاهمة عندما جاء إلى النبي فقال: يا رسول الله، أردت أن أغزو ـ أي: في سبيل الله ـ وقد جئت أستشيرك، فقال: ((هل لك أم؟)) قال: نعم، قال: ((فالزمها، فإن الجنة عند رجلها)).
انظر إلى الصالحين كيف كانوا، هذا زين العابدين علي بن الحسين قيل له: إنك من أبرّ الناس بأمّك، ولسنا نراك تأكل معها في صحفة! فقال: أخاف أن تسبق يدي إلى ما سبقت إليه عينها، فأكون قد عققتها. وأنت لا تعرف أإذا كانت أمك أكلت أم لا، وكذلك الأب لا تعرف أكل شبِع جاع، لا تعرف. وكان طلق بن حبيب لا يمشي فوق ظهر بيت وأمه تحته إجلالاً لها وتوقيرًا، بل وكان الفضل بن يحيى يُدِْفئ الماء لأبيه وهما في السّجن، فيضع الدلو عند المصباح ويمسكه طوال الليل، فعرف السجان ذلك فأخذ المصباح في الليلة التي بعدها، فجعل الفضل يضمّ الوعاء إلى جلده وبطنه طوال الليل، فإذا طلع الفجر كان الماء فاترًا فأعطاه أباه ليتوضأ به، فاتَّقِ الله عبد الله.
3- البر سبب لرضا الله تعالى:
كما في الترمذي بسند صحيح من حديث ابن عمرو أن الحبيب قال: ((رضا الرب من رضا الوالدين، وسخط الرب من سخط الوالدين)).
فيا من تهينهما ولا تكرمهما، يا من تغضبهما ولا ترضيهما، احذر عضب الجبار جلّ وعلا، ألك قدرة على الله؟! ألك قدرة على النار؟! إن أخذه شديد مرير عسير، أخذ عزيز مقتدر. ويا من حرصت على رضاهما، هنيئا لك برضا الله الذي هو أكبر من الدنيا، بل أكبر من الجنة وما فيها، وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللهِ أَكْبَرُ، وخدمتهما شهادة لك بين يدي الجبار جل وعلا، ورضاهما ثروة لك في الدنيا قبل الآخرة. وانظر حينما يكون الأب والأم في رضا عن ولدهم؛ كان رجل يقال له: كلاب بن أمية بن الأسكر، له أبوان شيخان كبيران، وكان يأتيهما بصبوحهما وغبوقهما ـ الصبوح: شرب اللبن في الصباح، والغبوق: في المساء ـ، فجاءه رجلان فلم يزالا به يرغبانه في الغزو حتى اشترى غلامًا فأقامه مقامه وخرج للجهاد، فجاء الغلام ذات ليلة بغبوق الأبوين وهما نائمان، فقام ساعة فلم ينبههما فذهب وتركهما، فانتبها في بعض الليل وهما جائعان فقال الشيخ:
لِمن شيخان قد نشدا كلابا كتابَ الله إن قبل الكتابا
تركت أباك مرعشـة يداه وأمك ما تسيغ لها شرابا
إذا نعب الحمـام ببطن وج على بيضاته ذكرا كلابا
أتـاه مهاجـران تكنفـاه ففارق شيخه خَطِئا وخابا
أنـاديه فيعـرض في إبـاء فلا وأبي كلاب ما أصابا
وإنك والتماس الأجر بعدي كباغي الماء يتبع السرابا