اللهجة العراقيةيعتقد كثير من العراقيين حتى الآن بأن الحية لا تموت. وأنها تغير جلدها بدل الموت، وأن من يريد قتلها يجب عليه أن يسحق رأسها وإلا نمت من جديد وعادت فانتقمت منه. والتقيت شاعراً هندياً في دبي سنة 1995 أكد وجود الأسطورة نفسها عن الحية في الهند. ولست أدري إن كان هناك شعوب أخرى تقول بذلك أم لا. فمن أين جاءت الأسطورة؟
18 حزيران (يونيو) 2013بقلم محمود سعيد
جاءت الأسطورة من ملحمة الخليقة السومرية المعروفة بملحمة كلكامش. أو قلقميش كما يصر بعض دارسي الآثار على تسميتها. فقد دفع الحزن قلقميش على البحث عن سر الحياة بعد رؤية صديقه أنكيدو يموت أمام عينيه من دون أن يستطيع تقديم العون إليه. فقرر أن يبحث عن سرّ الحياة ليجنّب الأحبة الفناء. ترك ملكه وعزه وسافر وتعب وجاع وكاد يموت عدة مرات فأثار عطف الآلهة فدلّته على مكان عشبة الخلود، وحينما غطس واقتلع العشبة من قاع الهور، وخرج تعباً أدركه النعاس، فغفا. ثم استيقظ على صوت غريب، وعندما فتح عينيه شاهد الأفعى تلتهم عشبة الخلود وتهرب. ولذا أصبحت الأفعى خالدة لا تموت، وربما دعا ذلك الأطباء ليبحثوا في سمّها عن دواء يشفي من الفناء العاجل فتوصلوا إلى استخلاص ترياق من ذلك السمّ القاتل يشفي بعض الأمراض وبذلك حققوا شيئاً من معنى الأسطورة فتركوا علامتها لتدل على الدواء الشافي وعلقوه على محلات الصيدليات في جميع أنحاء العالم، ليكون شاهداً على فاعلية الأسطورة البابلية الخالد.
مضى على هذه الأسطورة أكثر من سبعة آلاف عام، لكن بعض العراقيين ما زالوا متمسكين بها. فلماذا؟
فرقة أم علي البصرية
من أبرز وأثمن الآثار السومرية في المتحف العراقي قيثارة من العاج يعلوها رأس ثور من الذهب مطعماً بالأحجار الكريمة، ولست أدري أسرق هذا الأثر بعد الاحتلال أم لا. وفي السبعينات من القرن الفارط شاهدت فرقة أم علي الشعبية الرائعة، وكنت آنئذ في البصرة، وفرقتها متكونة من مجموعة من النساء يغطين وجوههن بأقنعة أشبه بأقنعة المصارعين في الولايات المتحدة، فلا يبدو من وجه عضو الفرقة الغنائية سوى العينين وأرنبة الأنف والفم وهذا هو المهم لأن الفرقة غنائية. لكن الملاحظ أن أهم آلة عزف عند فرقة أم علي الشعبية الغنائية هي القيثارة. وعندما أمعنت النظر فيها رأيتها نسخة مشوهة عن الأصل السومري، إذ لم تكن من العاج، كما لم يكن رأس الثور من الذهب. كانت كلها من الخشب المصبوغ بألوان فاقعة زاهية. ثم وفق الله أم علي فانتقلت إلى الكويت، تفرعت من هناك إلى بضعة أفرع شملت معظم دول الخليج. وفي التسعينات رأيت في دبي فرقة شعبية عراقية ربما تكون هي فرقة أم علي أو إحدى أفرعها. ولم أفاجأ حينما رأيت القيثارة السومرية نفسها مازالت أبرز آلات أم علي الموسيقية.
فكيف واصلت الفرق الشعبية العراقية إبقاء آلة موسيقية مستعملة مدة سبعة آلاف سنة بينما تخلت الفرق الموسيقية المحلية الرسمية عن تلك الآلة، ونبذتها، ولم تعترف بها قط؟ فاحترمها الغربيون واقتبسوها وطوّروها وجعلوا منها أحجاما عدة كالكيتار والهارب وو. ودربوا الكثير على العزف بها فبرح بها خبراء موسيقيون فيها يشار إليه بالبنان. لم أستطيع أن أجد أي تفسير لهذا السلوك العدواني لرمز من رموز حضارتنا القديم.
أكو ماكو:
نستعمل في العربية الفصحى يوجد ولا يوجد. موجود وغير موجود.
ويستعمل أهل الشام بأقطاره كلها ودول الخليج: في. وما في.
أما المصريون فيستعملون: في وما فيش
وتستعمل شعوب المغرب العربي: كاين وماكاينش.
في العراق نشأت أهم الدراسات العربية، والعلوم العربية، والنحو العربي، والقواميس والمعاجم العربية وأوزان الشعر العربي كما يعرفه الجميع، لكن الشعب العراقي لا يستعمل لفظتين عربيتين كباقي الشعوب العربية بل لفظتين سومريتين كقول طه باقر: هما أكو وماكو.
ويقول إبراهيم السامرائي: إنهما أكديتين. أما الجيل اللاحق من علماء الآثار فيقول: أكو سومرية. وما عربية. وبهذا يزاوجون بين اللغتين.
إن أهم سؤال يطرح نفسه لماذا أبقى العراقيون على هذه اللفظة ولِمَ لم يغيروها كباقي أشقائهم في الدول العربية بالرغم من أنهم يفهمون الكلمات: موجود وغير موجود، وفي وما في وو؟
الرز:
تستعمل الشعوب العربية كلها كلمة الرز للدلالة على الحبوب التي نعرفها ونطبخها ونأكلها بشكل مستمر، وانتقلت الكلمة إلى معظم لغات العالم. لكن العراقيين وحدهم من دون الشعوب العربية كلها يستعملون كلمة التّمن للدلالة على الرز.
فمن أين جاءت؟
وفي أول مربد عقد في العراق في بداية السبعينات التقيت العلامة جلال الحنفي (توفي قبل أيام عن نيّف وتسعين عاماً)1 وسألته بضعة أسئلة منها عن الطيور التي تحوم فوق دجلة فقد كان الكتاب يطلقون عليها بضعة أسماء مختلفة كطيور الماء فقال إنها النوارس وسألته وعن كلمة تمن. فقال إنها صينية. وكان المرحوم عبد الكريم قاسم أرسله ليكون أول أستاذ للغة العربية في جامعة صينية بعد ثورة 14 تموز. ثم غضبت عليه السلطة بعد 1963 فاستقدمته قبل أن يكمل مشروعه المهم أول قاموس عربي صيني عربي. وعندما استشارته الصين في أن يرسل بديلاً عنه بعد نحو عشرين سنة رشح المرحوم هادي العلوي مكانه.
ثم أكدّ العلوي هذا الشيء في أحد كتبه. ومن هذين الاثنين علمت أن كلمة التمن هي صينية، وربما يكون الصينيون هم الذي أدخلوا الرز اللذيذ إلى المطبخ العراقي فأراد العراقيون مكافأتهم على تلك الوجبة اللذيذة فاحتفظوا باللفظة الصينية إلى حد الآن. بعدئذ ردّ الصينيون المكافأة إلى العراقيين بأحسن منها فقالوا: كل العالم عميانٌ إلا العراقيين فهم عورٌ.
وهذا المثل ليس حديثاً وإنما يعود إلى أربعة آلاف سنة حيث كان في المنطقة التي تسمى الآن بحر النجف خليج كبير كانت السفن الصينية الخشبية ترسو فيه وتنزل بضائعها لتتوزع في المنطقة كلها. ويبدو أن العلاقات الصينية العربية توطدت زمن الحكم العباسي، وحسبما يقول هادي العلوي إن السجل الإمبراطوري الصيني يذكر بالتفصيل طلب أحد أباطرة الصين الذي عزل في مؤامرة داخلية نجدة من الخليفة المنصور لإعادة ملكه، فأختار المنصور ثلاثة آلاف فارس جيد التدريب وأرسلهم، وطلب من عماله تجهيزهم بخيول قوية في كل مرحلة من مراحل طريق الحرير الذي يمر من خلال إيران وأفغانستان وباكستان وشمال الهند ويصل الصين. وبالفعل مكنتهم تلك الجياد من الجري المتواصل طيلة النهار، وأوصلتهم الصين بوقت قياسي فاستطاع الإمبراطور بهم إرجاع عرشه، ثم خيرهم بين البقاء في الصين أو الرجوع فاختار معظمهم البقاء. ويبدو أن ماركو بولو التقى بعض أحفادهم في الصين وأشار إليهم.
الشاي:
يعدّ العراقيون الشاي بطريقة تختلف عن الآخرين، ويحبونه، ويغنون له وهناك أغنية مشهورة تمجده، وترفع من شأنه: خدري الجاي خدري. عيوني لمن أخدره.
وهي تحكي قصة حبيب يطلب من حبيبته إعداد الشاي، فيقول لها: أعدي الشاي ياعيني. فتجيبه الحبيبة: يا عيني لمن أعدّه؟
وهناك شاعر موصلي "ذو النون شهاب" وصفه بجملة رائعة فقال: الشاي خمر الكادحين. وكان أحد شيوخ منطقة الفرات الأوسط يحب الشاي وعندما سئل لماذا تحبه: قال أحبه لأن لونه أحمر جميل. ولأنه مذاقه حلو جميل. ولأنه موضوع في إناء جميل.
ولا أعتقد أن شعباً آخر غير العراقيين يعدّونه بطريقة فريدة مثلهم قط، ورأيت الكثير ممن زاروا العراق فبقي طعم الشاي العراقي على ألسنتهم سنواتٍ طوال. فهم لا يقدمونه "فطيراً" خفيفاً كالسوريين واللبنانيين وأهل الخليج، ولا عميق اللون يؤكسده الغلي الطويل كالمصريين والسودانيين، بل وسطاً رائقاً صافياً مخمراً بتركه بضع دقائق قريباً من نار خفيفة جداً عند ذاك يبدو للشاي طعم رائق حبيب لا مثيل له. وربما يعده الشعب المغربي وحده على طريقة مماثلة للعراقيين لكنهم لا يتركونه مدة كافية كي يتخمر بعيداً عن النار. ولحب العراقيين الشاي احتفظوا باسمه واسم أدواته الأجنبية كلها كما وردت لهم من غير تعريب. فهو يقدم بزجاجة يطلقون عليها الإستكان. فما أصل هذه اللفظة؟ لفظة استكان تشبه لفظة التمن. فكل العرب يستعملون كلمة قدح أو كأس للزجاجة التي يصّب فيها الشاي إلا العراقيين فهم يستعلمون كلمة استكان ولا يعلم معظمهم من أين أتت؟
قبل مئات السنين كان الكأس الزجاجي الصغير يصنع في روسيا، في منطقة تسمى استراخان. وكان يتواجد في المدينة نفسها معمل للسكر يطلق عليه العراقيون "القند" وعندما جاء الشاي في بداية القرن العشرين إلى العراق، استورد العراقيون السكر من استراخان لاستعماله مع الشاي، ووجدوا تلك الأقداح الزجاجية الجميلة فجلبوها هي وأطباقاً صغيرة جميلة جداً توضع فيها الاستكان مع السكر، ثم جلبوا معها من نفس المكان "السماور" فاتخذه الأغنياء وسيلة لإعداد الشاي، أما الطبقة الوسطى، فكانت تستعمل إنائين لإعداد الشاي، واحداً لغلي الماء أبقوا لفظها الإنكليزي كما هو "الكتلي"، والثاني لتحضير الشاي ويجب أن يكون من الفخار الصيني، ويطلقون عليه "قوري الشاي" وهي لفظة صينية محرفة عن اسم إمبراطور صيني كانت تلك القوارير تستورد في زمانه، بينما يطلق العرب جميعهم لفظتين عربيتين على ذلك الإناء إحداهما: إبريق الشاي. والثانية براد الشاي. وهكذا نرى أن العراقيين ينظرون إلى الجاي نظرة أشبه بالتقديس، وتغيير الاسم نوع من التزييف، ولما كان المقدس لا يقبل التزييف فلذا أبقوا على الأسماء الأجنبية كما هي عليه احتراماً وتقديساً لهذا الشراب اللذيذ. (ومن نافلة القول ذكر أنهم يلفظون كلمة جاي كالصينين بالجيم لا بالشين كبقية العرب)
لذلك بقي كل ما يتعلق بالجاي على اسمه العجمي: الجاي "صينية" بدل الشاي. السماور "روسية" الكتلي إنكليزية بدل براد. القوري صينية بدل إبريق. القند فارسية بدل سكّر. الخاشوقة. فارسية أو تركية بدل ملعقة الشاي الصغيرة. لكنهم احتفظوا بلفظة عربية واحدة من أدوات الجاي مداهنة كي لا يغضبوا لغتهم الأم "اللغة العربية" وهي لفظة الصحن الذي يوضع فيه الاستكان، فأبقوها عربية: صحن.
الكرات الزجاجية. الدعابل، التبل
يطلق السومريون على اللؤلؤ عيون السمك، ومازال بعض الخليجيين يطلقون عليها هذا الاسم، وكانوا يظنون أن الأسماك عندما تنفُق تسقط عيونها على محار فيلتقطها ويحتفظ بها. ولقد شاهدت في الخليج العربي نوعاً من الأسماك لا يبقى من أعينها بعد الطهي إلا كرات صغيرة بيضاء أشبه باللؤلو. ويطلق العراقيون كلمة دُعبُل على عيون السمك.
ثم أخذوا يطلقون على الكرات الزجاجية التي يلهو بها الأطفال في لعبهم كلمة دعبل.
فهل هناك تفسير لهذا التلاقح الحضاري بين هذه الشعوب؟ هناك الكثير من الكلمات السومرية ككور تنور. وشه "شعير" وأدبا مدرسة. ما تزال مبثوثة في التعبيرات العامية العراقية بالرغم من اندثار الحضارة السومرية قبل آلاف السنين، ومن الغريب أن اسم أحد أبواب إحدى أقدم المدن العربية في التاريخ وهي الموصل اسم سومري. هذا الاسم مازال يستعمل إلى حد الآن. ومثّبت في الوثائق الرسمية. وهو باب "لكش" المتجه إلى جنوب العراق، بالرغم من أن لكش هذه مدينة أهملت قبل آلاف السنين، بعد موت حمورابي وطواها النيسيان. ما سرّ احتفاظ العراقيين بالأسماء غير العربية؟
أمثلة أخرى:
أكو طوز هوايا فوق الجرباية.
ومعناها: يوجد غبار كثير فوق السرير.
يضرب المرحوم فاضل عبد الحق العبارة أعلاه مثالاً على انتقاء اللهجة العراقية لألفاظ معينة لتزيين رقعة الفسيفساء التراثية.
أكو سومرية يوجد
طوز تركية غبار
هوايا مغولية كثير
فوق عربية
جرباية فارسية. السرير
إذا سمع أي عراقي عبارة: يوجد غبار كثير فوق السرير. يفهمها حق الفهم ولا يحتاج إلى شارح أو مترجم. لكنه عندما يتكلم عن نفس المعنى يقول: أكو طوز هوايا فوق الجربايا.
ومن يتتبع اللهجة المحلية في العراق يراها تحتفظ بألفاظ أشبه بمعادن صدئة تحتاج إلى من يحك ذلك الصدأ ليستخرج لآلئ ثقافية تاريخية مهمة، فمثلاً يطلق العراقيون على الفوضى كلمة هوسة. وهي غير عربية، لكني عرفت بعدئذ أن كلمة هوسه تطلق على إحدى أكبر القبائل الإفريقية. وقرأت عن اتفاق قديم جرى بين تجار أثرياء في زمن الدولة العباسية وبين شيوخ تلك القبيلة "الهوسة" لتصدير عمال زراعيين، يعملون في البصرة ثم تكاثر هؤلاء حتى عُدوا مئات الألوف، ومن ثم تزعمهم شخص تدعي كتب التاريخ أنه فارسي، لكني لا أعتقد بذلك. ألحق زعيمهم هذا نسبه بالرسول وثار بهم، واحتل البصرة وخربها، ودمرها تدميراً كاملاً بحيث أنه استطاع أن يمحو معظم آثارها، وكانت تلك أعظم ثورة يقوم بها العبيد في التاريخ، واستمرت أربعة عشر سنة بالمقارنة مع ثورة سبارتكوس التي لم تدم سوى بضعة أشهر. قضى الخليفة الموفق على ثورة الزنج، لكن بعد فوات الأوان، فأصبح خراب البصرة مثلاً شائعاً في الأدب العربي. فيقال دائماً: "بعد خراب البصرة" ما آلت إليه البصرة يعزى إلى فوضى تسببت بها قبائل الهوسه فأطلق العراقيون لفظة هوسه على كل فوضى.
وهنا يعود السؤال مرة أخرى: لماذا يحتفظ العراقيون بآثار الماضي وكلماته حية إلى حدّ الآن؟
جميل جمال.
جميل جمال مالوش مثال
صدق اللي آل جميل جمـال
هذا هو المقطع الأول لكلمات أغنية المرحوم فريد الأطرش السوري الجنسية والمصري لحناً وغناءً وفناء ولهجة وحباً وهجراناً وحياة وموتاً. غناها فريد الأطرش يطري فيها جمال الراقصة الغادة السمراء الجميلة سامية جمال التي أثرّ فنها في عموم الوطن العربي آنئذ.
لكن الأغنية لا علاقة لها بموضوعنا إلا بتاريخ هذين الاسمين.
يعتقد كثير من المؤرخين أن أقدم اسم عربي هو يعرب والد قحطان اليمني، وأخذوا ذلك عن الرواية الشفوية التي سجلت بعد الإسلام، ولما كانت الرواية الشفوية تحتمل الصدق والكذب فلذا لا يعتد بها في أحيان كثيرة. لكن الوثائق المستخلصة من الرقائم الآثورية والبابلية والسومرية تذكر أن اسمي جمال وجميل كانا شائعين في الزمن السومري والأكدي والبابلي. إن اسم جمال مأخوذ من الجمل. لأن الجمل حيوان وسيم جداً ومن ينظر إلى الجمل عن قرب يرى فيه معالم كبرياء وأنفة وتناسق شديدة، ومن الجمل اشتق العرب المصدر جمال والفعل جَمُلَ ومئات الكلمات الأخرى ومنها جميل كصيغة مبالغة للجمال. ومن أنثى الجمل "الناقة" اشتق العرب الشق الثاني من الجمال وهو الأناقة والتناسق. ثم رحلت ناقتنا وأناقتها إلى بريطانيا، إذ لا توجد كلمة عندهم لتدل على معنى الأناقة، فاستعملوها لها: Eloquent، وعندما وجدوا أننا نستعمل كلمة بلاغة، التي لا يوجد لها مثيل عندهم استعملوها لمعنى البلاغة أيضاً.
نعود إلى جمل، وجمال وجميل، عندما ننظر إلى اللغات الشقيقة للعربية كالأكدية والبابلية والعبرية والآشورية والأثيوبية والبربرية والآرامية الخ ، نرى أن ليس فيها ما يعني الجمال والأناقة بنفس الألفاظ والأحرف.
إذن فكلمتي جمال وجميل هما أقدم اسمين عربيين في التاريخ كانا متداولين منذ أكثر من خمسة آلاف سنة ولحد الآن.
استعملت كلمة جميل أكثر من جمال. بسبب أن جميل صفة، وجمال مصدر، ولم تستعمل جمال إلا في العصور القديمة والعصر الحديث، أما كلمة جميل فكانت تستعمل باستمرار، وأول مومس اشتهرت في العصر الإسلامي كانت أم جميل، وهي من الكوفة، وتسببت في القضاء على مستقبل أحد أدهى دهاة العرب السياسيين المغيرة بن شعبة، فقد كان والياً لعمر بن الخطاب، وشهد ثلاثةٌ أنهم رأوا المغيرة في وضع مشبوه معها، وعندما سألهم عمر: أ رأيتم الميل في المكحلة قالوا نعم. فقال لهم أين رابعكم؟ وأقام عليهم الحد، لأن المفروض أن يكون عدد الشهود أربعة في مثل هذه القضايا، ثم عزله، طيلة حياته، وأعاد التاريخ نفسه فقد جرت حادثة مماثلة قبل سنوات قليلة إذ قضت مونيكا لونسكي على مستقبل الرئيس الوسيم كلنيتون بحادثة شبيهة لحادثة المغيرة وأم جميل.
الطعام.
لست أدري هل هناك شعب غيرنا يحتفظ بأكلات يعود أصلها إلى أكثر من ألف سنة؟ نعم لكن ليس مثلنا (نحن العراقيين) فلم أعثر إلا على مثل واحد. فقد دخلت التأريخ أم علي "شجرة الدر" بأكلة لذيذة ما زالت تعدّ في مصر من الحليب والحلوى، وتسمى الأكلة: أم علي. وكان لي قريب متدين درس في الأزهر. ودعاه يوماً صديق مصري، قائلاً له: سندعوك إلى أم علي. فلم يذهب. وصارح صديقاً آخر وهو غاضب: ألا يخجل؟ كيف يدعوني إلى أم علي وأنا وهو أزهريان؟ ودخلت بوران زوجة المأمون التأريخ بأكلة شهية أخرى، هي البورانية وتعدّ من الباقلاء الخضراء ولحم الضان بالثوم والتوابل وقليل من الرز.
لكن هناك عشرات الأكلات ظلت في العراق منذ العصر العباسي وإلى حد الآن. منها الهريسة، الكليجة، اللوزينة، المحلبية، واللوزينج الخ. ومن يتتبع كتب التراث يرى المئات منها، لكني أشير إلى ما صادفني في قراءاتي وهو قليل مقارنة بالمختصين. ولا يزال المواصلة يستعملون إلى الآن كلمة (جلاب) للماء البارد، المثلج، وكلمة الشربت العباسية، واصطلاح الرز المفلل. وهذه الألفاظ كانت مستعملة في العصر العباسي أيضاً.
فرقعة الإصبع.
ذكر أحد كتب التراث أن ثلة من القضاة الأصدقاء كانوا يسهرون في العهد العباسي المجيد على الكاس والطاس وأغاني الكواعب الملاس. وحينما يأخذ الطرب منهم مأخذه يخلعون العذار ويغمس كل منهم لحيته بالشراب ويرشه على الآخرين كماء الورد، وأنهم يتجاوبون مع الشادن الصداح فيرددون مقاطع الأغنية ويفرقعون الأصابع.
الخبر عادي جداً بحيث ترى مثيلاً له الآن في أي بار من بارات شيكاغو أو لندن أو القاهرة أو باريس أو بغداد. لكن ما يستلفت النظر هو فرقعة الأصابع.
فما هي فرقعة الأصابع الخالدة تلك؟
هي إخراج أصوات معينة بتحريك سبابة اليمنى إلى فراغ السبابة والخنصر من اليد اليسرى فيحدث صوتا يعبر به من يأخذه الطرب فينسى نفسه وينطلق مع اللحن.
سرسري، بلشتي، لوتي، هتلي، بربوك.
توجد في العربية عشرات ألفاظ السباب والشتم، ويذكر أحد كتب التراث، نحو أربعين لفظة، اندثر معظمها، واستبدلوها بكلمات أخرى، لكن أكثر ألفاظ السباب استعمالاً في العراق الحالي هي: سرسري، بلشتي، هتلي، لوتي، بربوك، وكلها انكليزية الأصل إلا بربوك.
سرسري: sorcerer وتعني ساحر، ولما كان السحر في الذهن العربي الإسلامي يرتبط بالحيلة والخداع، ويرتبط هذان باللؤم فقد أطلقها العراقيون على من ينحدر أخلاقياً إلى أقصى حد. بلشتي: bullshit ولا تحتاج للشرح.
لوتي: السلب، والنهب، واللصوصية، من: looting
هتلي: hatred وتعني في الانكليزية الكراهية، والحق. واستعارها العراقيون للؤم والانحطاط، فالكراهية تنزل بصاحبها إلى الحضيض.
لم يبقَ الانكليز في العراق سوى بضع سنوات، لكنها كانت كافية لزرع شر ألفاظهم في شعبنا، وحينما ذهبوا اختفوا لكنهم تركوا هذه الكلمات الشريرة لتذكرنا بهم، ولست أدري كم سيلقف هذا الشعب من المحتلين الجدد إن بقوا في العراق مدة طويلة.
أما كلمة بربوك فتطلق على المرأة الفاسدة، وهي آرامية- أكدية، أي منا وبنا، وتتكون من بر الآرامية، وبوكا الأكدية.
وهكذا نرى أن العراقيين رموا بألفاظهم القذرة جانباً، واستعاروا ألفاظا أخرى من لغات أخرى، وكأنهم يريدون أن يقولوا إن أسوأ ما لدينا قادم من غيرنا.
الاستنتاج.
مما تقدم نرى أن العراقيين يتفردون عن سائر معاصريهم من الشعوب الشقيقة والمجاورة بتمسكهم بأشياء صغيرة من الماضي ليست بذي بال أشبه بالنمنم الملون. فما سبب هذا التمسك وهل هو ظاهرة صحية أم مرضية.
في رأيي يعود تمسكهم بهذه المنمنات لأن العراق كان مركز إمبراطورية حضارية أولى لمدة أكثر من خمسة آلاف سنة، والتمسك في الأصول مع تطويرها مبدأ أساس في كل حضارة. ولا شك أن الازدهار الحضاري الذي بلغ أوجه في العهد العباسي يرجع إلى ثقة العراقيين آنئذ بأنفسهم وبلغتهم ففتحوا الأبواب لكل كلمة أجنبية تدل على معنى جديد، ولم يطردوها ويبحثوا عن لفظة عربية قديمة تعبر عن المعنى نفسه، فقد كان القرآن الكريم لهم مثلاً أعلى في استعمال ألفاظ أجنبية كثيرة تبناها كإستبرق وجهنم وطه وياسين ..الخ. وهذا ديدن اللغات الحية ونجده الآن بشكل واضح جليّ في اللغة الإنكليزية التي تتوسع يوماً بعد يوم، وتأخذ ألفاظاً من لغات أخرى باستمرار، ذلك أن الانفتاح على لغة أجنبية، لا يعني التبعية قط، لا يشين لغة حية إطلاقا، بل يعني تلاقحاً حضارياً سلمياً، ما أحوج شعوب العالم كله إليه الآن أكثر من أي وقت آخر.
جلال الحنفي: هو أخر من رحل إلى الحياة الآخرة من مستواه الرفيع ولست أدري أبقي أمثاله في أي قطر عربي أم لا. ويلقب بذاكرة بغداد، فقد كان موسوعياً كالجاحظ، وهو أفضل الخبراء في عهده باللغة العربية والنحو العربي، والمقام العراقي، وعلم التجويد، والعروض، وقراءات القرآن، والأمثال العربية الخ. وكان جريئاً في مواقفه بشكل عام فقد اتخذ موقفاً فريداً وهو في الثمانينات من عمره وكان خطيب الجمعة في أقدم جامع من جوامع بغداد "جامع الخلفاء" إذ منع استعمال مكبرات الصوت في الجامع قائلاً: إن المكبرات تزعج غير المسلمين والأطفال والمرضى والعجز وليس لها داعٍ فكل الناس يمتلكون ساعات ويعرفون أوقات الصلاة من الراديو والتلفزيون. وأفتى أجرأ فتوى في التاريخ المعاصر فقد فضل التبرع بتكاليف الحج للفقراء أيام الحصار معللاً ذلك بأن ملأ أفواه الجياع أفضل أنواع العبادة. ولو لم أضطر للهرب من العراق لتفرغت في الكتابة عنه وملازمته. وعسى أن ترقد روح هذا العبقري الزاهد المتقشف في سلام دائم.