الفندق
ليلتي الأولى بهذا الفندق كانت عجيبة بحق.نظر لي صاحب الفندق وأنا أحمل حقيبتي الضخمة شذرا ثم أشار إلى خادمه ليصحبني إلى غرفتي وما أن رأى خادمه حقيبتي حتى أبطأ في سيره وتظاهر بانشغاله مع زبون آخر عل زميلا تعسا له تقع تلك الحقيبة في يده وراق لي الأمر ولكن يد صاحب الفندق امتدت إلى كتفي فالتفت إليه فأشار أن الإيجار يدفع مقدماً ففعلت دون أن أسأله ولم أكن بحاجة إلى تبرير ولكنه أصر أن يلقي على أذني أنه يفعل هذا الأمر ويطلب الإيجار مقدماً لأن كثيرا من الزبائن يهربون قبل دفع الإيجار وأقبل الخادم إذ لم يجد من صواحبه من يحمل عنه أثقاله التي هبطت على رأسه وحمل الحقيبة وهو يسألني عن الذي تحتويه حقيبة كهذه فأجبته أنها متعلقاتي.كتب و أوراق.ووصلنا أخيرا إلى حجرتي وأخذ يعدد لي مزاياها وأنا أنظر لهذا الأثاث البالي دون أن أوليه بالا و أعطيته ما وقف من أجله ودرت في الحجرة ثم فتحت حقيبتي وأنا فرح بما تحتويه الحقيبة.كثير من الكتب.هذا ميراثي عن أبي.عدت من دراستي بالخارج إزاء خطاب من عمي حوى مرض أبي الشديد وعدت لأجده مات ولم يشأ عمي أن يخبرني بالحقيقة في خطابه وأخبرتني أختي أن عمي أخذ كل شيء ولم يترك من ميراث أبانا شيئا قط فلم أبال بما قالته ورجوت أن آخذ الكتب فأحضر تلك الحقيبة وهو ينظر نحوي ساخراً يخبرني أنه كان مدركاً أني لن أطلب سواها فأنا ابن أبي أحمق مثله أهدر سني عمره على الكثير من الورق وكان دوماً يرقب أبي ساخراً وهو يوصيني بالكتاب خيراً وأنه السبيل إلى صحة العقل واستقامة البدن من الداء ويعقد مقارنة بين الرقص والكتاب وأيهما أجدى للجسد والعقل أيضاً ورغم غضبي إلا أني دوما أظل جالساً حتى ينتهي من مقارنته التي تثير فضولي دوما بينما أختي ترقبني وتودعني بصراخها وأنها تعيسة الحظ شقية برجل تزوجته يؤثر الغرق وأخ وحيد أحمق لا يرى من حياته إلا أوراق أبيهما التي أضاع عليها الكثير.ودعت أختي وقدمت لهذا الفندق أبيت ليال حتى أعود لدراستي مجددا بعد تدبير أمري.صراخ امرأة وقوادها فشل في إقناعها!!وابتعدت عنهم إلي كتاب كان أبي ينصحني باستمرار أن أقرؤه له وبدأت أقرأ لكني بوغت برجل يدخل مترنحا مندفعا نحو سريري وتمدد سريعا عليه وأنا أنظر له ذاهلا وبصعوبة أخرجته.أغلقت الباب جيدا وحاولت أن أنام بعدما شعرت أني مرهق. وتذكرت أبي وأنا أتقلب علي السرير وتتذكر أختي التي كانت ترعانا بعد رحيل أمي وهي حائرة بيننا نادمة على أنها ابنة هذا الرجل وأختي حتى تزوجت فلم تعد تأتينا إلا لتقضى لنا حاجاتنا.واستيقظت على صراخ متواصل لم يتقطع وطرقات عنيفة فقمت غاضبا أرتدي جلبابي اتقاء لنزلة برد أخشى أن تأتيني فيزداد حرصي منها على مرور الزمن.صاحب الفندق وخلق كثير دفعوني للداخل.أحدهم سرق الكثير وهرب من حجرتي واتجهت الشكوك نحوي فأنا آخر النزلاء وبدأت أقاويل تتناثر لكن سرعان ما هدأت الأمور.حاولت أن أنام ثانية ولم أستطع وعدت للكتاب مرة أخرى.عمي وميراث أبي الذي استولي عليه في غيابي وابتسامته إذ يدرك أني لن أبحث عن هذا الميراث فلا يعنيني سوى كتبه.حاولت أن ألملم أشتات نفسي. طرقات جديدة على الباب.لعنتهم في نفسي وتركت من يطرق الباب طويلا دون أن أوليه بالا ولكنه مصرا على أن يلج حجرتي بتواصل طرقه المزعج فقمت ممتعضا وفتحت الباب غاضبا.صاحب الفندق ثانية يحذرني من السرقات وأنه ليس مسئولا عما يجرى وما ممكن أن يجرى لي فشكرته على تحذيره لي ضاحكا أني لا أملك شيئا يستدعي السرقة أو التفكير في سرقته. وأخيرا نمت.وسريعا استيقظت.رجل يصرخ في وجهي.وجدوا مسروقاته في حجرتي,ولم أدر بما حدث سوى أني حملت في العربة وقدمت للمحقق الذي أمر أن أوضع سجينا ريثما ينته التحقيق.ونظرت إلي وجوه تتبدى أمامي تنظر نحوى بدهشة وكنت أنظر إليهم كرسام يقتفى منمنمات صغيرة لتظهر لوحته براقة جذابة.وأرسل لي أحدهم سريعا سيجارا فدفعتها إلي فمي وأنا أفتش في الوجوه.تذكرت أختي بغتة وكيف أنها ظلت تصرخ تندب حظها في أخيها الوحيد الذي سار على درب أبيه.وتذكرتها هي الأخرى.تنظر إلي بعينيها تعاتب في الرجل الجهول بالمرأة المحبة إياه التي ملت ولكنها لا تحيد عنه لما أحبته إذ المرأة مقبلة على الحب مدبرة عما سواه لا تني عن المحاولة دوما بقربها من حبيب أسرها وده وغرابته ولم تستطع أن تبتعد عنه ولكنها عادت لعقلها فقبلت رجلا آخر لما أدركت جنوني بالورق.إني تركت كل لذة للإنسان في الحياة.عافت نفسي كل لذة فأصبحت لذتها الورقة والقلم.وسيجارة جديدة أدفعها لفمي بينما هو مقبل نحوى متسائلا عن سر قدومي فأشير له بيدي أني لا أعرف.قضيت أياما لا أبالى بشيء.مرست نفسي أن تعتاد كل ما يمر عليها دون أن تكترث كثيرا وأن تتقبل ظروفها الصعبة مدفوعا بقوة غريبة إلي أن تتوارى خلف حجب الخوف.حقيقة ندمت على فراقي لها.أحببتها بجنون.وكذلك هي.لم تقاومني طويلا . تركض نحو أمل نما في أعماقها وبدأ عندي لكن الأمل أفل إذ رأى أبي أن تجربته مع أمي أفسدت عليه متعته وحياته بولدين.فتى يشبهه وفتاة ليس لها إلا الزواج وعليه أن يقي شبيهه من جنون الحياة !!
وأصغيت له وتركتها.وقمت من مكاني أنظر من الشباك.تبدلت الحياة كثيرا. مضت أياما أخرى ولازلت في سجني أعاني أمرا جديدا.حياة غريبة أحياها تتبدى لي الحياة كماء راكد ولا أفعل شيئا سوى أني أرى الحياة بطيئة.أفرجوا عنى أخيرا وأنا أضحك وهو الآخر يضحك.كان صاحب الفندق يحرض عامليه على سرقة النزلاء.
وتسلمت حقيبتي الضخمة وبينما أنا في الطائرة أودع وطني من السماء تذكرت أختي والحقيبة التي أثارت حنق الجميع.إرثي من أبي !!


حمادة البيلي
نشرت بأدب ونقد