رجل قاسى أحبه

(1)
نظرت الى ساعتها ففوجئت بأنها تمام الثانية ونصف موعد انتهاء وقت العمل , لم تشعر بمرور الوقت من جراء العمل المتكدس عليها , لملمت الأوراق التي لم تنتهي منها بعد الى الغد .. فتحت حقيبة يدها التقطت منها هاتفها المحمول نظرت فيه ولم تجد أي مكالمات لم يرد عليها , تساءلت بداخلها عن سبب عدم اتصاله بها إلى الآن .
غادرت مكتبها محملة بإرهاق يوم من العمل الروتيني الشاق الممل , استقبلتها شمس يونيو الحارقة , التقطت أذنها صوت هاتفها فارتبكت وبسرعة التقطته وإذا به خطيبها ولكن كان فقط يرن ولم يكن يتصل , تمتمت بصوت غير مسموع ( ياله من بخيل ) .
أمسكت الهاتف في يدها ووقفت منتظرة الأتوبيس , ولحسن حظها لم تنتظر كثيرا حيث كان يتهادى ببطئه المعهود من بعيد , أشارت له فتوقف ما ان همت بالصعود حتى سمعت صوت هاتفها يعلن وصول رسالة شعرت بأنها منه فتجمدت في مكانها ولم تصعد , فتحرك الأتوبيس مصحوبا بلعنات من السائق وبعض الراكبين لم تهتم رغم شعورها بالخجل الشديد ولكن دست وجهها في شاشة الهاتف لتقرأ الرسالة التي أعلنت صدق إحساسها بأنها منه ,
( حبيبتي أزورك اليوم في تمام السابعة )
ابتسمت وهى تقول بصوت هامس ممزوجا بنوع من الرضا الجزئي ( حتى في الرسائل بخيل ).
* * *
(2)
لم تكمل الجملة حتى رن الهاتف ولكن هذه المرة كان طويلا معلنا أنه هو .. انتعشت ونست أو تناست كل الإرهاق والملل وأشعة الشمس الحارقة ولعنات الناس في الأتوبيس وهى تضع الهاتف على أذنها وتكاد تضمه إليها ..
قالت فى همس : حبيبي
جاءه الرد بنفس درجة الصوت والعذوبة الهامسة : كم افتقدت هذا الصوت الجميل اليوم .
ضحكت ولكن حاولت أن تكتم تلك الضحكة وقالت متصنعة الجدية والغضب : إذا كنت افتقدته حقا لكنت اتصلت بي, أنت لم تتصل اليوم بي نهائيا أيها البخيل .
أجابها قائلا : العمل اليوم كان شاقا ولم يكن هناك وقت حتى لأتناول الطعام .
شعرت بقلبها يخفق خوفا عليه وقالت في لهفة : ألم تأكل إلى الآن .
لم يجبها وقال لها بجديته التي تقتلها أحيانا : لا يهم .. سأحضر اليوم كما أخبرتك في الرسالة
أجابته وهى تشعر بالخجل : حسنا سأنتظرك يا حبيبي .
رد عليها بسرعة : إلى اللقاء , وأغلق الهاتف .
* * *
(3)
هذا هو حبيبها جاد دائما رقيق المشاعر أحيانا , تزوره الرومانسية على فترات متباعدة , مقاطع تماما للكلمات الرقيقة , أما المشاعر المرهفة فيطلق عليها أشياء تافهة يستخدمونها فقط في الأقلام الهابطة أما الحياة العملية ففي غنى عنها .
كانت دائما تحاول أن توضح له أنها فتاة وتحتاج أحيانا إلى مثل تلك الأحاديث الهامسة والحوارات الرومانسية التي تدغدغ المشاعر وتحرك الأحاسيس وتذيب الثلوج التي يصر على أن تكون حائلا بينهما , ولكن كان دائما يخبرها أن حبه لها ليس بالكلمات بل بأن يوفر لها مستوى راق تستطيع أن تعيش فيه , فما فائدة المشاعر والكلمات في حياة قاسية فقيرة .
كل اهتماماته العمل وجنى الأموال التي توفر له أعلى مستوى من الراحة والرفاهية فيما بعد , ورغم أنه يملك من المال ما يغطى مصاريف الزواج إلا أنه يريد أن يحقق الأكثر والأكثر .
كانا كقضيبى القطار دائما متوازيان ولا يمكن أن يتلاقيا إلا عند التحويلة , والتحويلة في علاقتهما هي فقط عندما تبتعد عنه فترة طويلة أو تغضب منه وتمنع نفسها من أن تحدثه , فقط في هذه الحالة كان يحضر إليها محملا بعبير الأشواق وعذاب الفراق وما كانت تحتمل أن تراه في هذه الحالة فترة طويلة فمن كلمة أحبك التي تخرج من فمه وكأنها شيء يخجل منه كانت تعلن له أنها لا تستطيع أن تغضب منه , وفى لحظتها يعود إلى طبيعته الجافة الدائمة القسوة ولا يكون أمامها إلا أن تبتسم فتبتسم.
* * *
(4)
كانت عقارب الساعة تتجه نحو تمام الثالثة فقررت فى لتك اللحظة أن تستقل تاكسى رغم طول المسافة وارتفاع أجرة التاكسى فى مثل هذا الوقت الا أن ميعاده أهم عندها من أى شىء .
أشارت لتاكسى فتوقف حددت له الاتجاه واستقلته , ما أن دلفت فيه حتى تذكرت عندما استقلا تاكسى فى احدى المرات القليلة التى ضحى فيها واستقل تاكسى , فى تلك المرة سألها دون مقدمات : لماذا تحبينى ؟
كان السؤال كالصاعقة الكهربية لها نظرت له فى بلاهة ولم تنطق .
فسألها ثانية : لماذا أنا ؟ أعتقد أننى رجل عادى ولاأحمل من المميزات الا القليل ذلك وان كنت أحمل منها شيئا , ورغم ذلك تحبيننى وتصرى على استمرار خطبتنا رغم أنها تعرضت للهزات القوية مايفوق الاحتمال .
صمت منتظرا الاجابة ولكنها الى اليوم لم تجب .
ولكن لماذا فعلا أحبه ؟
حاولت أن تطرد هذا السؤال من ذهنها ولكن ماكاد يختفى حتى يظهر مرة ثانية بصورة أقوى وبالحاح غريب .
تمتمت بكلمات حذرة : انه أول انسان فى حياتى .. جاءها صوت من أعماقها : ليس الأول هو الأفضل .
قالت للصوت الداخلى الغاضب بحذر أشد محاولة اقناعه : لم يفعل أى شىء خاطىء حتى الآن.
رد عليها الصوت أكثر قوة وحزما : معظم أفعاله تثير غضبك ولكنك تلتمسين له كل الأعذار .
لم يمهلها الصوت هذه المرة فرصة للرد وضرب عليها بقوة قائلا : أنت حساسة وحالمة ورقيقة تطلقين لمشاعرك العنان , رومانسيتك هى سر جمالك , والحب هو أساس حياتك .. هل تجدين من كل هذا شىء فيه , هو كالصخرة مهما سقط عليه سيول حبك المنهمرة القوية لايلين أو تتحرك خلجة فيه .
سدت أذنيها بكلتا يديها قائلة كفى .. كفى .
انزعج سائق التاكسى فبحركة لاارادية ضغط على فرامل التاكسى فأصدر صريرا عاليا وكاد أن تصدم به عربة من الخلف .
نظر اليها شذرا قائلا : فى حاجه يا هانم ؟
أجابته بنظرة اعتذار امتصت غضبه : أبدا يا أسطى صداع مفاجىء .
تمتم قائلا : ربنا يشفيكى يا هانم ثم بدأ يروى لها عن حكايات من يركبون التاكسى ويصابون بأمراض مفاجئة .
تركته يسرد حكاياته التى يقصها على كل الركاب حتى يقتل الوقت وملله , وأخذت نفسا عميقا وأرخت أعصابها استعدادا لزيارة حبيبها فى تمام السابعة .
* * *
(5)
ما ان هبطت من التاكسى حتى بدأت تفكر فيما سترتديه اليوم , والشكل الذى ستظهر به , أخذت تحصى بذاكرة تحسد عليها الملابس التى ارتدتها فى الشهرين الماضيين واستبعدتهم من تفكيرها فهى متجددة دائما تقبل التغير وتسعى الى ألاتكون تقليدية رغم أنه أعلن لها عشرات المرات أنه يكره التجديد ويحب التقليدية والاستقرار.
ضحكت عندما تذكرت عندما أخبرها ذات مرة أنه لم يعتاد حتى الآن على وجهها نظرا للتغير الدائم الذى تقوم به. وأعدت فى خيالها الملابس التى سترتديها واطمأنت لأن لونه ملائم للماكياج الذى ابتاعته منذ أسبوع .
دلفت الى المنزل معلنة للجميع أنها قد وصلت , استقبلتها امها .. أخبرتها بحضوره اليوم فى تمام السابعة , استقبلت أمها الخبر بنوع من الفتور فهى لاتحبه ولاتكرهه .. هو صورة كربونية لزوجها نفس الفكر ونفس الميول والحرص.
عندما تقدم لخطبة ابنتها كانت غير راضية , ولكن رغبة ابنتها الوحيدة وقفت عائقا بينها وبين رغبتها الرافضة .
هى تشعر دائما بأن ابنتها غير سعيدة ولكنها لاتشكو , هى أم وأهم شىء سعادة ابنتها , تحدثت معها مرارا وتكرارا محاولة أن تستشف منها سبب حزنها المكتوم , ولكن كانت الاجابة دائما الصمت .
دخلت غرفتها وضعت حقيبتها اليدوية , وهاتفها على الكومودينو الذى يحمل صورة الخطوبة .
أمسكت بالصورة وجلست على حافة السرير وتذكرت ذلك اليوم وكيف كان متوترا حتى أن المصور أعاد تلك اللقطة أربع مرات حتى يبتسم ابتسامة تمكنه من التقاط الصورة , سمعت الصوت الغاضب يقول .. أنت هادئة وهو متوتر دائما , انت مبتسمة معظم الأوقات وهو عابس دائما .. أنت راضية قانعة بكل شىء وبأقل شىء , وهو ثائر على وضعه وحياته الرضا عنده نادر الاحساس به .. سمعت صوته يقول : لماذا تحبيننى ؟
لم تجد اجابة سوى أن تضع الصورة مكانها وأن تقوم لتستعد لقدومه .

* * *
(6)
دخلت على أمها فى المطبخ وسألتها عن الحلوى التى يحبها , ولكنها لم تكن موجودة , ارتدت حذائها بسرعة , فتحت باب الخروج ,ضغطت زر المصعد ولكنه لم يستجب معلنا أنه معطل وهذا يعنى أن تهبط سبعة أدوار على قدميها ثم تعود وتصعدهم مرة ثانية .. لمحت وجهه أمامها فابتسمت فى رصا عجيب وقالت لنفسها الثائرة الغاضبة لايهم اليوم عنجما يحضر سيعوض كل هذا الارهاق والتعب بكلماته التى أحبها .
هبطت الأدوار السبع وكل جزء فى جسمها يعلن أنه متعب , ولكنها أصرت .
ابتاعت الحلوى المفضلة لديه وعادت الى الرحلة العضلية الشاقة , وما أن بلغت باب المنزل حتى دخلت وهى تتمنى أن تخلد للنوم حتى لربع ساعة فقط , نظرت الى الساعة التى تسابقه وتتحداها اليوم فوجدتها تمام السادسة .
الوقت غير كافى للنوم , دخلت غرفتها أعدت الملابس والماكياج والعطر الذى يحبه .
رغم ارهاقها الا أنها كانت تبدو فى كامل أناقتها وهى تخط أحمر الشفاه على شفتيها الدقيقتين فى مهارة تحسد عليها.
نظرت الى المراة محدثة نفسها الغاضبة : عندما يرانى اليوم سيعلن استسلامه , وستعلمين أن بداخله انسان جميل وحدى أنا من أراه .. سمعت صوت ضحكة ساخرة ولكنها لم تهتم .
تعانق عقربى الساعة معلنين التوحد فى تمام السابعة .. خرجت من الغرفة , تلقت كلمات الاعجاب من أخيها الأصغر منها , نظرة غيرة محملة بحنان الأخ الأكبر , صمت مصاحب بغضب مكتوم من الأم .
لم تهتم بكل هذا فالارهاق يكاد يقتلها , جلست على المقعد المجاور لباب المنزل , دق جرس الباب , قفزت من مكانها مسرعة الخطى نحوه لتفتح .
أصيبت بالاحباط فقد كان والدها عائدا من عمله , نظر اليها نظرة تسائل عن كل تلك البهرجة قائلا : هل سيأتى سيف اليوم .
أجابته : نعم
احتضنها بقوة قائلا : يا ليتنى كنت سيف .
جلس والدها جانبها منتظرا قدومه رغم ارهاقه وصراعه مع النوم والجوع .
مرت الدقائق سريعة حتى دقت الساعة معلنة السابعة والنصف , هنا سمعت صوت هاتفها المسجى على الكوميدينو معلنا وصول رسالة .
قامت متكاسلة .. التقطت الهاتف .. فتحت الرسالة .. قرأت
" لن أستطيع الحضور أنا فى العمل ان استطعت سأتصل بكى عندما أعود "
سمعت ضحكة عالية تهز جدران الحجرة .. لم تستطع سوى أن تجلس أمام المراة لتزيل اثار المكياج ودموعها تتساقط .
يحي هاشم
الجمعة 17/6/2005