التجديد الحضاري مدلوله وأبعاده في فكر مالك بن نبي/الدكتور جيلالي بوبكر
1- مدلول التجديد الحضاري
للإحاطة بمدلول التجديد الحضاري عند فيلسوف الحضارة "مالك بن نبي" ينبغي البدء بالفصل بين اللّفظيين المكونين للمفهوم أو التصور "التجديد الحضاري"، فالتصور مركب من كلمتين هما: التجديد والحضارة، وينبغي كذلك تعريف كل لفظة بمفردها لغة واصطلاحا ثم الجمع بينهما في تصور واحد.
قد تختلط لفظة تجديد فيما تدل عليه مع ما تدل عليه ألفاظ أخرى مهمة ومرتبطة بالحضارة مثل معاني التغير، التحول، التقدم، التطور، الإبداع، الابتداع والاكتشاف وغيره، لذا ينبغي تحديد معاني هذه الألفاظ والتمييز بينها وبين التجديد وتحديد الصلات التي تجمعها بالتجديد في إطار الحضارة.
بعد التمييز بين لفظة التجديد وبقية الألفاظ الأخرى لغة واصطلاحا وتحديد الصلات التي تجمع تلك الألفاظ بالتجديد في اللغة وفي الاصطلاح في إطار الحضارة، تتناول صلة التجديد بالحضارة بشكل عام ثم ننتقل إلى تحديد معنى التجديد الحضاري عند "مالك بن نبي" فهل هو البناء الحضاري أم تغيرات تجري داخل الحضارة ذاتها ؟، فإن كان التجديد الحضاري يعني البناء الحضاري، فما هي عناصر ومواد هذا البناء ؟، وإذ كان التجديد الحضاري تغيرات تطرأ على الحضارة فما هي عوامل ومظاهر هذه التغيرات وما هي نتائجها؟، أهي الاستمرار والدوام والقوة أم هي الإنهيار والأفول؟.
كلمة "تجديد" في الفرنسية Innovation وهي مصدر لفعل جدّد، يجدد والمصدر تجديد "وجدّد الشيء صيّره جديدا، والتجديد إنشاء شيء جديد أو تبديل شيء قديم، وهو مادي كتجديد الملبس والمسكن أو معنوي كتجديد مناهج التفكير وطرق التعليم، ويغلب على التجديد أن يكون مذموما في المجتمعات الزراعية الشديدة التمسك بتقاليدها، وأن يكون محمودا في المجتمعات الصناعية التي تقدس روح الاختراع".[1]ويعرفه "أندريه لالاند" في قاموسه بما يلي:
Innovation : production de quelque chose de"[2]"nouveau. فالتجديد عند "أندريه لالاند" هو إنتاج شيء جديد، والشيء الجديد قد يكون ماديا وقد يكون معنويا فالطائرة، والهاتف، والتلفاز، والمذياع وغيره من الأشياء المادية كلها أشياء جديدة أنتجها الإنسان، أما المنطق الصوري، ونظرية التحليل النفسي والمنهج التجريبي وجمهورية أفلاطون كلها مناهج في التفكير جديدة أنتجها عقل الإنسان.
لكن التجديد لا يرتبط بإنتاج الأشياء فقط بل يعني كذلك تبديل شيء قديم، وهذا الشيء الذي يجري عليه التبديل قد يكون هو الآخر ماديا أو معنويا ، فتبديل كوخ من طين وقش إلى مسكن من حجارة إلى عمارة من حديد وإسمنت وغيرها يُعد تجديدا ماديا، أما تبديل القياس بالمنهج التجريبي في دراسة الظواهر الطبيعية، وتبديل منهج الإلقاء والتلقين في تعليم التفلسف بمنهج الحوار، وتبديل طريقة التعليم بالأهداف بطريقة التعليم بالكفاءات، كل هذا يعد تبديلا معنويا وفكريا.
نستنتج مما سبق أن كلمة تجديد في اللغة العربية مصدر لفعل جدّد وجدّد الشيء يعني صيّره جديدا، "والتجديد هو الابتكار، إعادة التنظيم،قال ابن الرومي: أهي شيء لا تسأم العين منه أم لها كل ساعة تجديد؟".[3]
فالتجديد يكون حيث يكون الجديد، هذا التجديد إما في الأشياء وإما في الأفكار، وهو جديد في الإنشاء أو تبديل شيء قديم. ويقابل التجديد الجمود والخمول والثبات وعدم مبارحة وضعية ما.أما في الاصطلاح فهو فاعلية إنسانية مصدرها الفرد والمجتمع تقوم على مبارحة وضعية الجمود والخمول والثبات، وتأخذ بالمبادرة والنمو والتغيير في الفكر والعمل، وبوسائله في كل مجالات الحياة، فالتجديد يرتبط بالإنسان وبما يملكه من قدرات وطاقات في مستوى الفرد و في مستوى المجتمع، فهو متصل بالجانب النفسي والذهني عند الإنسان كما يتصل بحياته الاجتماعية وسائر مكوناتها، فالتجديد اصطلاحا يتصل بالحضارة، وإذا كانت الحضارة هي نتاج تفاعل النشاط الإنساني مع سائر القوانين أو السنن الكونية في الفرد والمجتمع والطبيعة لأجل تطوير حياة الإنسان المعرفية والروحية والمادية في حياته الواقعية، يصبح التجديد الحضاري شرطا ضروريا لبناء الحضارة وسابقا عليها. فالحضارة هي كذلك بالتجديد ولا حضارة في غياب التجديد، بمعنى الانتقال بحياة الإنسان من وضعية راكدة جامدة إلى وضعية فيها جديد وفيها حضارة.
إنّ التجديد الحضاري يمثل كما رأينا شرطا ضروريا لوجود الحضارة لكن مفهوم التجديد تلازمه مفاهيم أخرى، يظهر من خلال المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي أنّه لا يقوم التجديد بدونها بحيث نجد بعضها يمثل شرطا سابقا عليه وبعضها يمثل عنصر ملازما له وبعضها يمثل نتيجة حتمية له.
إذا كان التغييرChangement في اللغة هو التحوّل والتبدّل ويعني عند "القاضي الجرجاني" "انتقال الشيء من حالة إلى حالة أخرى".[4]
وعند " التهانوي" يعني " كون الشيء بحال لم يكن له قبل ذلك".[5]
فالتجديد هو عملية تغير يجريها الإنسان على الأشياء فينشأ بها الجديد وينتجه أو يبدل شيئا ما من حالة إلى أخرى، فيصبح التغيير ضروري للتجديد، يحدثه ويشرف عليه ويظهر من خلاله، أما التحوّل Mutation فيرتبط بالتغيير والتجديد معا، فهو يعني في اللغة التبدّل والتغيّر والتنقّل "ونقطة التحول هي الحد الفاصل بين أمرين يكون الأمر الثاني أحسن حالا من الأول".[6] فالتحوّل "تغير يلحق الأشخاص أو الأشياء، وهو قسمان: تحول في الجوهر وتحول في الأعراض".[7]فالتجديد تحوّل يجرى من قبل الإنسان على ذاته وعلى محيطه.
ينتج التقدم عن التجديد والتقدم Anteriorite لغة السير إلى الأمام ومبارحة المكان أو الوضعية، والتقدم من الشيء يعني التقرب منه، وهو عند الفلاسفة تقدم بالطبع وتقدم في الزمان وفي الرتبة وتقدم بالشرف وبالعلة، وفي جميع الحالات يبقى التجديد ضربا من التقدم باعتباره ابتكار شيء أو تبديل شيء بشيء آخر، كما يظهر التقدم عند كل تجديد فهو نتيجة من نتائجه.
يرتبط مفهوم التجديد بمفهوم التطور، ولفظة التطور تدل على تحول الشيء من طور إلى طور، والطور في اللغة يعني الحال. وطوّر الشيء نقله من حالة إلى أخرى. ومعنى التطور لدى الفلاسفة متعدد، فهو النمو أو التبدل الموجه أو الانتقال من البسيط إلى المركب أو العكس، أو الارتقاء من الأدنى إلى الأعلى أو العكس، وكلمة الارتقاء تتضمن بالضرورة التبدل لكن ليس في كل تبدل ارتقاء، "وضد التطور التكوّرInvolution وهو التّضام والتقبض والتقلّص والتراجع، ويطلق التكوّر في الاصطلاح على الرجوع إلى الأصول أو على الانحطاط والتأخر والفساد والانحلال والبلى".[8] من خلال هذه المواجهة بين التطور والتكور يتضح الارتباط الوثيق بين التجديد والتطور فهما مترادفان، إذ التطور يتضمن التجديد والتجديد يتضمن التطور ولا سبيل للفصل بينهما.
من جهة أخرى لا يحصل التجديد عند الإنسان في غياب قدرته على الإبداع، Creationفالإبداع شرط ضروري عليه يتوقف التجديد الحضاري، فكلمة إبداع في اللغة تدل على صناعة الشيء بإتقان أما الابتداع فيعني الاختراع والإنشاء أي اختراع الشيء وإنشائه، أي "إحداث الشيء على غير مثال سابق وعند البلغاء: اشتمال الكلام على عدة ضروب من البديع".[9] للإبداع عدة معاني عند الفلاسفة، فهو إنشاء شيء جديد من عناصر قديمة. أو إيجاد شيء من اللاشيء مثلما هو الحال في الخلق الإلهي. أو إنشاء شيء لم يكن موجودا ويعرف بالصنع، والإبداع نوعان اختراع Invention واكتشاف Découverte،فالاختراع هو إنشاء شيء جديد لم يكن موجودا من عناصر قديمة، ويتعلق الأمر بإنشاء المصنوعات المادية وإنشاء الأفكار وتنظيم العمل ووسائل العمل، أما الاكتشاف فهو إطلاع الإنسان على الجديد المتقدم في الوجود كاكتشاف النار واكتشاف المعادن، واكتشاف "كريستوف كولومبس" لقارة أمريكا.
إنّ التجديد الحضاري فاعلية بشرية ترتبط بعدة فاعليات أخرى، هذه الفعاليات بعضها يمثل شرطا ضروريا لحصول التجديد الحضاري وهو قدرة الإنسان على الإبداع بشقيه الاختراع والاكتشاف، فلم يعرف التاريخ حضارة بدون اختراع ومخترعين واختراعات ولا بدون اكتشاف ومكتشفين ومكتشفات، فهناك حضارة الزراعة وحضارة التجارة وحضارة الصناعة والحضارة الحديثة والمعاصرة هي حضارة هذه المعطيات ككل، وأي مجتمع يخلوا من المبدعين في الجانب الفكري والجانب الاجتماعي والمادي فهو مجتمع يخلو من الحضارة وليس فيه تجديد حضاري، وأي مجتمع فيه إبداع وتحضر فيه التغير والتطور والتقدم والتحول وهي مفاهيم ترادف مفهوم التجديد الحضاري وتعبر عنه وتدل عليه.
إذا كان التجديد الحضاري مفهوم مركب من أمرين هما التجديد والحضارة فالتجديد كما سبق وأن عرفنا هو إنتاج الأشياء الجديد المعنوية والمادية، وبهذا فهو تطوير للأفكار وللعمل ووسائل العمل، يدخل هذا التجديد في إطار استراتيجية البناء الحضاري الذي تمثله الحضارة كظاهرة بشرية تاريخية اجتماعية للفرد الدور الكبير في إيجادها، وإذا كانت الحضارة هي انتقال الإنسان من حياة بسيطة بدائية إلى حياة مدنية مزدهرة تتوفر فيها شروط الحياة الإنسانية الراقية بما يكفل لكل فرد مطالبه وحاجاته في كل مرحلة من مراحل حياته، فإن التجديد الحضاري هو شرط ضروري سابق على كل حضارة ومن جهة أخرى فإن التجديد في الحضارة بعد قيامها أمر واجب لضمان قوة الحضارة واستمرارها، فالعلاقة بين التجديد والحضارة هي علاقة العلة بالمعلول والشرط بالمشروط والنتيجة بالسبب، إذ أنه لا حضارة في غياب التجديد الحضاري ولا تطور في الحضارة ذاتها في غيابه أيضا، لكن الدورة الحضارية التاريخية حسب "مالك بن نبي" وغيره قد تصل إلى مرحلة في التجديد والتطور تفقد فيها الحضارة قوتها وقدرتها على الاستمرار أمام طغيان الترف والبذخ بفعل قوة الشهوة والغريزة، فتتعرض الحضارة إلى الانهيار وينطفئ نورها. إنّ فيلسوف الحضارة "مالك بن نبي" درس فلسفة التاريخ والحضارة عند العديد من المفكرين، كما درس التاريخ الإسلامي وواقع المسلمين في عصره، وتوصل في النهاية إلى عدة أفكار وأراء ومواقف شكّلت في الأخير نظريته في الحضارة، والحضارة عنده ليست شكل من أشكال التنظيم للحياة الإنسانية لأن هذا يجعل الحضارة حالّة في أي مجتمع من المجتمعات النامية أو المتخلفة وبالتالي يتساوى التحضر مع التخلف والضعف مع القوة وهذا غير مألوف في منطق التفكير السليم.
يتضح الفرق بين الحضارة واللاحضارة في كون الحضارة تضمن الهدف الذي لأجله يحيا الإنسان وهو أن يجد كل الدوافع وكل الضمان الضروري لوجوده، وهو يعيش وضعية تخلف وانحطاط وتواق إلى النمو والازدهار، مما يجعل الحضارة ذات وظيفة يحددها التعريف التالي: » فهي مجموع الشروط الأخلاقية والمادية التي تتيح لمجتمع معين أن يقدم لكل فرد من أفراده في كل طور من أطوار وجوده من الطفولة إلى الشيخوخة، المساعدة الضرورية له في هذا الطور أو ذاك من أطوار نحوه".[10]
إنّ ميلاد حضارة ما أو نهضة تاريخية معينة لا يكون من صنيع الصدفة أو التلقائية، بل وفق خطة واستراتيجية محددة هي استراتيجية البناء الحضاري أو النهضة الحضارية، هذه الإستراتيجية تتحدد فيها بدقة المبادئ والوسائل والسبل والغايات في البنية الحضارية كما تتحدد نقطة الانطلاق ونقطة الوصول في الحركة النهضوية، والتجديد الحضاري يشكل المحرك في هذه النهضة وجوهر البناء الحضاري ولبه لأنه عملية تنفيذ الخطة المحددة في استراتيجية البناء الحضاري، كما يمثل من جهة أخرى مظاهر الحضارة وعلاقات تظهر في كل طور من أطوارها وفي كل عنصر من عناصرها، كما تظهر في مبادئها وسبلها ووسائلها وغاياتها ومنتجاتها بشكل عام.
لا شك أن تكوين الحضارة ونموها وقيامها لدى مجتمع ما وفي مرحلة تاريخية من مراحله كل هذا يتطلب تغيير في الأنفس والأفكار والأشياء وهذا لا يتأتي إلا بمجهودات تصدر عن إنسان يعيش التغير في نفسيته وذهنيته ويغير من أخلاقه وسلوكه كما يغير محيطه الاجتماعي والطبيعي، هذا التغيير في إستراتيجية البناء الحضاري والنهضة الحضارية هو ما يعرف بالتجديد الحضاري، فهو يمثل فاعلية إنسانية هادفة إلى الانتقال بالإنسان من مرحلة الانحطاط والضعف إلى مرحلة النمو والتحضر.
فتجديد المسلم لإيمانه باستمرار على العبادة ومراجعة العقيدة والتمسك بتعاليم الكتاب والسنة والاقتداء بالصحابة والامتثال لأوامر ونواهي الشرع هو تجديد حضاري، والصحوة التي يعرفها المسلم بعد الغفلة والانغماس في مغريات الدنيا والصحوة التي يعرفها الشباب التائه في الضلال أو التائه في الجهل ذلك من التجديد الحضاري، وحركة الإصلاح التي بادر بها عدد من المفكرين في العالم الإسلامي أمثال "جمال الدين الأفغاني" و"محمد عبده" و"عبد الحميد ابن باديس" وغيره هي من التجديد الحضاري، والثورة الجزائرية هي من التجديد الحضاري، وكل فعل فيه جديد يستهدف الوصول إلى التحضر هو تجديد حضاري ضروري ومطلوب في كل عصر وفي كل مصر.
كل نهضة وكل حضارة وكل صحوة حضارية تشترط التجديد الحضاري باعتباره تغيرا في الإنسان والمجتمع، هذا التغير يحدث الحضارة ويصنعها كما يعمل على تنميتها وتطويرها، فهو شرط البناء الحضاري وشرط تطور الحضارة، فالحضارة الإسلامية قامت بعدما غيّر المسلم نفسه وعقليته ومحيط المجتمع الجاهلي، وزوده بالطاقة الروحية والرغبة في البناء فدفعته تلك الطاقة الروحية إلى الجهاد والإعمار وإلى العلم والبحث فتكونت العلوم والفنون والصنائع، وتطور الحضارة الإسلامية أساسه التغييرات والتجديدات التي أدخلها المسلمون على حياتهم وبصورة تدريجية في المجالات الفكرية والثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية ونتيجة لاحتكاكهم بثقافات وديانات الشعوب والأمم الأخرى.
فالتجديد الحضاري لا يكون وراء تكوين حضارة فحسب بل يكون كذلك شرط تطورها، وما دام التجديد هو إنشاء شيء جديد في الجانب المادي أو المعنوي فإن تطور الحضارة يعني تجديد جانبها المادي والمعنوي باستمرار، فمن العين المجردة إلى المجهر الضوئي "الميكروسكوب" إلى المجهر الإلكتروني وهكذا مع تطور وسائل النقل والاتصال. ومن طريقة الإلقاء والحفظ في التعليم إلى طريقة التعليم بالحوار وبالأهداف إلى طريقة التعليم بالكفاءات. كل هذا يؤكد الدور الذي تلعبه ظاهرة التجديد الحضاري ليس في تكوين الحضارة فحسب بل في تنمية مجالاتها وتطوير منتجاتها ومنجزاتها. وتطور العلوم بفضل تطور مناهج ووسائل ونتائج البحوث العلمية في الحضارة المعاصرة يدل على عدم استغناء أي مجتمع يريد الحضارة عن عوامل ومبررات التجديد الحضاري.
يتضح مما سبق أن التجديد الحضاري يكون سابقا على الحضارة كما يكون ملازما لها، لكن عند "مالك بن نبي" لا يتساوى التجديد الحضاري مع التكديس، فالتجديد الحضاري هو فاعلية ومبادرة تُغيّر الإنسان والأفكار والأشياء بما ينسجم مع القوانين والسنن في الطبيعة والإنسان لتوفير جميع الدوافع والشروط لتحقيق الوجود الإنساني، أما تكديس المنتجات من خلال استيرادها من حضارات أخرى فهذا يتنافى مع التجديد الحضاري والتحضر "إنّ المقياس العام في عملية الحضارة هو أن "الحضارة هي التي تلد منتجاتها" وسيكون من السخف والسخرية حتما أن تعكس هذه القاعدة، حين نريد أن نصنع حضارة من منتجاتها".[11]
إنّ التاريخ يؤكد أن للحضارة عمر ميلاد ونهضة وأوج وأفول، وكل طور من هذه الأطوار يقوم بفعل ظاهرة التجديد الحضاري، وكذلك بالنسبة للانتقال من طور إلى آخر، وعليه يُعتبر التجديد الحضاري سببا في أفول الحضارة، لأن المجتمع يصل إلى مرحلة فيها من التجديد ما يكبح دور الروح والعقل ويطلق العنان للشهوات والملذات فيغرق المجتمع في الترف والبذخ وينتظر ليل اللاحضارة.
فالتجديد الحضاري فعل إنساني مرتبط بقدرة الإنسان على الإبداع وإرادته في ذلك في مختلف المجالات يدخل في استراتيجية البناء الحضاري ككل بل هو جوهرها وروحها، ويكون وراء أي نهضة حضارية كما يلازم جميع أطوار الحضارة وقد يكون سببا في أفولها.
ومدلول التجديد الحضاري يأخذ عدة معاني ودلالات في فكر "مالك بن نبي"، فهو بمعنى البناء الحضاري إذ يحتاج إليه ميلاد أي حضارة، كما يعني تطور الحضارة واستمرارها وقد يكون سببا في أفولها كما تؤكد بحوث ودراسات تاريخ الحضارة، ويأتي بمعنى الإصلاح وإزالة المفاسد والعودة إلى حقل الحضارة، كما يعني البعث والإحياء، وهو في جميع الحالات شرط لقيام الحضارة وبناء المجتمع وتطويرهما والمحافظة على بقائهما.
2- أبعاد التجديد الحضاري
لكل موضوع يقوم بوظيفة في حياة الفرد والمجتمع أبعاد يرتبط بها تمثل دوافعه ومبرراته كما تشكل أهدافه والغايات التي وجد لأجلها، وبعد أي شيء يتعلق بوظيفته وأسباب وجوده القبلية والغائية، وللتجديد الحضاري عند "مالك بن نبي" أبعاد مختلفة تتعرف عليها في هذا المطلب يقول الله سبحانه وتعالى:﴿ولقد كرّمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلّناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا﴾.[12]
يتضح من الآية الكريمة أنّ الله خلق الإنسان وبقية المخلوقات الأخرى وخص الإنسان وحده بالتكريم والتفضيل، فوهبه العقل والقدرة على الإبداع والتجديد، أي القدرة على بناء الحضارة، ومن هنا يتجلى البعد الإنساني في الحضارة والتجديد الحضاري. إنّ الإنسان متميز عن غيره بالعقل واللّغة والإبداع، وهي عناصر لا يتم التجديد الحضاري إلا بها، فأقوى سلاح يملكه الإنسان هو سلاح العقل الذي يستعمله في الخير كما يستعمله في الشر، والحضارة تطلب الخير وتنمو في مساره لهذا استُقبح الشرُّ لأنه تحطيم للحضارة وهدم للتجديد الحضاري الذي هو شرطها.
لقد وُهب الإنسان الشروط التي تضعه في أعلى درجة في هرم المخلوقات من خلال امتلاكه لكافة عوامل وعناصر التحضر، فهو ينشأ الحضارة بالعقل والقدرة على الإبداع وله القدرة في أن يتأثر بغيره ويؤثر في غيره من خلال استعماله للغة وسيلة التواصل. فالطبيعة البشرية وما تتوفر عليه من دوافع فيزيائية ونفسية وعقلية وأخلاقية واجتماعية هذه الدوافع تتحول إلى فاعليات قوية تخط طريقها نحو التجديد الحضاري، فتصبح الحضارة ظاهرة إنسانية تكرس رسالة الإنسان في هذا الوجود كما تميزه عن غيره من المخلوقات التي لا تشهد الحضارة إطلاقا، وهي من خلال عناصرها وشروطها ومنتجاتها تجسد القيّم الإنسانية هذه القيّم لا تكون في غير العالم الإنساني مثل التفكير، الحرية، التعاون، التحضر إلى آخره. وانهيار الحضارة يعني انهيار القيّم الإنسانية وسقوط الإنسان إلى مرتبة تسيطر فيها الأهواء والشهوات والملذّات لا خصوصيات الإنسان الروحية والعقلية والاجتماعية. فالتجديد الحضاري ذو أبعاد إنسانية في منطلقاته ومبادئه وشروطه وعوامله وفي إنجازاته ونتائجه على الفرد والمجتمع معا.
عندما نفصل البعد الإنساني في التجديد الحضاري عند الأبعاد الأخرى لا يعني أن هذه الأخيرة ليست أبعادا إنسانية، فقط التحليل المنهجي النظري يقتضي منا أن نعددها ونفصل فيما بينها فبقية الأبعاد كلها إنسانية ومنها البعد التاريخي.
إنّ التجديد الحضاري ينطلق ويبدأ في بناء الحضارة عندما يتحرك الإنسان ليدخل إلى التاريخ، لأنّ التجديد الحضاري حركة إنسانية تنطلق من نقطة ما لتصل إلى أخرى داخل مجال التاريخ، فالتاريخ هو الذي يسجل هذه الحركة منذ انطلاقها ويسجل مراحلها وكل ما يصيبها ويطرأ عليها من تغيرات إلى غاية وصولها "من الملاحظات الاجتماعية أن للتاريخ دورة وتسلسل، فهو تارة يسجل للأمة مآثر عظيمة ومفاخر كريمة وهو تارة أخرى يلقى عليها دثارها ليسلمها إلى نومها العميق".[13]
فمن خلال التاريخ يمكن للإنسان أن يحدد مكانته في الدورة التاريخية بل في الحياة ككل ويدرك أسباب التخلف والانحطاط وعوامل النمو والنهضة، كما يعرف أسباب الحياة والموت في الحضارة الواحدة، فيصبح التاريخ بهذه الأهمية والوظيفية أداة تقويم للذات وللغير، فهو يمد الإنسان بالمعايير اللازمة للوصول إلى الحقيقة فيما يخص التجديد الحضاري من حيث شروطه وعوامله والحضارة من حيث عوامل قيامها وأسباب انهيارها.
شهدت الإنسانية عبر تاريخها الطويل عدة حضارات واستقراء هذه الحضارات يثبت أن قوة الحضارة مشروط بالانسجام بين جهد الإنسان وغاياته العليا وحاجاته، أما ضعف الحضارة وانحلالها سببه تحلل الإنسان في فكره وسلوكه "فالتاريخ يبدأ بالإنسان المتكامل الذي يطابق دائما بين جهده وبين مثله الأعلى وحاجاته الأساسية والذي يؤدي في المجتمع رسالته المزدوجة كممثل أو كشاهد ... وينتهي التاريخ بالإنسان المتحلل...".[14]
أي حضارة من الحضارات ماضية أو حاضرة أو تكون في المستقبل تتكون بفعل التجديد الحضاري الذي يتفرد به الإنسان في مرحلة من المراحل التاريخية، والتاريخ هو الذي يسجل هذه المرحلة والنهضة الحضارية التي شهدتها من البداية إلى النهاية، وميلاد الحضارة وميلاد التجديد الحضاري لا يكون بالصدفة ومن العدم بل من معطيات تاريخية سابقة، كما تتخطى الحضارة الحدود المحلية لتصير أممية أو عالمية، وكل هذا يجري أمام التاريخ يحيط به ويسجله، فالتاريخ هو الإنسان والحضارة والتجديد الحضاري، تمثل المعطيات التاريخية لأي نهضة حضارية شروطا وأسبابا تنتج النهضة والتجديد والحضارة، وهي أسباب مرتبطة بالفرد ككائن له تأثير على المجتمع كما يتأثر بالمجتمع، والفرد له ذات زاخرة بالميول والرغبات والأهواء والعواطف، تبدأ الذات بطابع فردي خاص ثم تشق طريقها داخل المجتمع فتصبح حاجات ومطالب اجتماعية، وما رغبة الإنسان في تغيير حياته ونمط عيشه نحوالأحسن إلا ضرب من الرغبة التي تحرك الإرادة فتتحرك سائر القوى الذهنية والنفسية ومعها القوى العضوية فيحصل التجديد، حتى أن البعض يرى أن العنصر الانفعالي هو الخميرة التي لا يتم الإبداع إلا بها، كما نجد البعض يؤكد على أن العمل الإبداعي ينتج عن حالة من الانفعال لا يمكن التعبير عنها.
ليس موضوعنا هنا هو الشروط النفسية للإبداع لدى الإنسان إنما هو الإطار النفسي الذي ينتج فيه التجديد الحضاري وتتكون فيه الحضارة في مرحلة تاريخية ما تعرف بالتاريخ في دورة من دوراته، هذه الحضارة يلعب في بنائها الفرد في صلته بمجتمعه وفي علاقته بالتاريخ دورا رئيسيا.
أي تجديد في الحضارة هو من صنع أسباب وعوامل نفسية زمنية تاريخية "وعلاج أي مشكلة يرتبط بعوامل زمنية نفسية ناتجة عن فكرة معينة تؤرخ من ميلادها عمليات التطور الاجتماعي".[15] فالحضارة الإسلامية لها عواملها النفسية والحضارة المسيحية لها عواملها النفسية وهكذا مع بقية الحضارات الأخرى.
إنّ الشروط النفسية تكون وراء أي حضارة كما تلازمها وهي تنجز وتصنع منتجاتها، وتمثل هذه الشروط كذلك غايات وأهداف الحركة التاريخية لأن إستراتيجية التجديد والبناء الحضاريين تقوم على التخطيط وربط المبادئ والأفكار بالأهداف والغايات، هذه المبادئ والغايات نابعة من الفرد الطموح إلى الحضارة، "وهكذا تتجلى لإفهامنا حقيقة جوهرية في التاريخ هي "دورة الحضارة" وكل دورة محددة بشروط نفسية زمنية خاصة بمجتمع معين فهي حضارة بهذه الشروط".[16] فالتجديد الحضاري يشترط العوامل النفسية في أي دورة حضارية .
تحتاج النهضة في حياة أي أمة إلى شروط تاريخية نفسية واجتماعية، والشروط النفسية تكون في البداية ذات طابع ذاتي خاص ثم تتبلور وتشق طريقها داخل المجتمع فتصبح ذات طابع اجتماعي. وبعض الشروط التاريخية يفرضها الاجتماع البشري وشبه العلاقات الاجتماعية والحياة داخل المجتمع، فدعوة "الرسول صلى الله عليه وسلم" إلى الإسلام بدأت من بيته ثم انتشرت في جميع بقاع الكرة الأرضية، ودعوة "كارل ماركس" إلى الاشتراكية بدأت كفكرة نادى بها صاحبها ثم صارت عقيدة يؤمن بها ويدعوا إليها الكثير، هذه من جهة ومن جهة أخرى نجد الحياة في المجتمع تقتضي النظام وأشكال أخرى من العلاقات والأنشطة مثل المعاهدات والاتفاقيات وتقسيم العمل والتعاون وغيره، وهذا يعني أن التجديد الحضاري في أي نهضة تاريخية يشترط جملة من العوامل الاجتماعية بعضها نابع من أفراد المجتمع وبعضها صادر عن المجتمع ذاته، وفي الحالتين معا الحضارة مشروطة بعوامل اجتماعية وتحقق غايات اجتماعية كما تلازم المجتمع بكافة معطياته.
إنّ البعد الاجتماعي لأي تجديد حضاري ولأية حضارة يحدد بحاجة الفرد إلى الاجتماع الإنساني، فالفرد قوي داخل الجماعة ضعيف خارجها، فهو لا يستطيع أن يوفر لنفسه كل ما يحتاج إليه من ضروريات وكماليات ولا يقدر على بناء الحضارة بمفرده، وبالمقابل فالاجتماع البشري في حاجة إلى الفرد لأن الاجتماع ذاته هو اجتماع أفراد يجمعهم حاضر واحد ومصير واحد، فتتوحد الجهود وتتحدد الغايات والسبل والوسائل وتتحد لضمان حياة اجتماعية، هذه الحياة الاجتماعية في حاجة إلى علاقات تنظم حياة الأفراد داخل الاجتماع، فيصبح الاجتماع في حاجة إلى النظام فيتشكل المجتمع، والمعنى الأدبي الذي يعطيه القاموس للمجتمع هو"تجمع أفراد ذوي عادات متحدة، ويعيشون في ظل قوانين واحدة، ولهم فيما بينهم مصالح مشتركة".[17]
للوقوف أكثر على ماهية المجتمع باعتباره بعدا أساسيا من أبعاد الحضارة ضرورة ربطه بالزمن أي التاريخ والشروط النفسية والاجتماعية، فيصبح المجتمع هو"الجماعة التي تغيّر دائما خصائصها الاجتماعية بإنتاج وسائل التغيير، مع علمها بالهدف الذي تسعى إليه من وراء هذا التغيير".[18]
والواقع أنّ حركة المجتمع التي تحدث التغير والتطور تمثل حركة التجديد الحضاري في التاريخ، هذه الحركة هي التي تبني المجتمع وتصنع الحضارة وتحدث التطور التاريخي، وحركة المجتمع تميز بين المجتمع وأشكال الجماعات الإنسانية التي لا توصف بالمجتمعات التاريخية الحضارية، فهي "تكسب الجماعة الإنسانية صفة "المجتمع" عندما تشرع في الحركة أي عندما تبدأ في تغيير نفسها من أجل الوصول إلى غايتها وهذا يتفق من الوجهة التاريخية مع لحظة انبثاق حضارة معينة".[19]
يتضح مما سبق أنّ الحضارة تشترط المجتمع والمجتمع يشترطها، وانهيار حضارة أي مجتمع هو انهيار للخصوصيات التي يتميز بها هذا المجتمع، وأي اجتماع بشري بدون حضارة يغلب عليه الطابع البدائي ويسوده قانون الغاب وتحكمه الهمجية، فالحضارة هي التي تحمي المجتمع من الهمجية، ويؤيد تاريخ الحضارات ما يذهب إليه "مالك بن نبي"، فالعرب في الجاهلية كانوا بدوا رحلا تسيطر عليهم الوثنية والنعرة القبلية ووأد البنات وغيرها من العادات الفاسدة، فإذا بالإسلام يبعث فيهم روح التآلف ويدفعهم إلى التحضر، فكان لهم ما هو معروف من حضارة، ففي مجتمع الحضارة يتوفر مناخ الحرية والحماية للفرد، وتقدم الحضارة لأبنائها كل ما يحفظ وجودهم ويقيهم من الانحدار في مختلف مجالات الحياة الفكرية والاقتصادية".[20]
فالتجديد الحضاري حركة تشترط المجتمع لتنطلق داخله فتغيره وفق إستراتيجية تتحدد فيها المبادئ والغايات، والمجتمع لا يتطور ولا يحافظ على حياته ولا يشهد الحضارة ولا يعرف التجديد الحضاري إلا بفعل هذه الحركة.
الواضح أن الإنسان هو المخلوق الوحيد الذي يملك القدرة على التقييم والتقدير استنادا إلى جملة من القيّم والمعايير بعضها رفيع وبعضها وضيع، وهذه القيّم والمعايير متعددة ومتنوعة، منها القيّم الأخلاقية والقيم الجمالية، والتطور الذي شهده الفكر الإنساني والبحوث المتعددة في هذا المجال نظر الفكر إلى هذه القيّم ودرسها فظهرت جملة من العلوم المعيارية منها علم الأخلاق وعلم الجمال،وعلم المنطق وغيره، وموضوعنا ليس هو هذه العلوم وإنّما البعد الأخلاقي الجمالي للتجديد الحضاري.
تؤكد دروس تاريخ الحضارة أنّ كل حركة تجديد حضاري تنطلق داخل المجتمع والتاريخ بتوجيه أخلاقي وضوابط أخلاقية، فالمجتمع في حاجة إلى قوة تماسك لأفراده لممارسة التجديد الحضاري وبناء الحضارة، ويحصل التماسك لدى الفرد بفعل الغريزة أما المجتمع التواق إلى الحضارة الناهد إلى الرقي والسمو فإنه يستعمل الغريزة نفسها، "ولكنه يهذبها ويوظفها بروح خلقي سامي، هذا الروح الخلقي منحة من السماء إلى الأرض، يأتيها مع نزول الأديان عندما تولد الحضارات ومهمته في المجتمع ربط الأفراد بعضهم ببعض".[21] ويستشهد "مالك بن نبي" على هذه الفكرة بقوله تعالى: ﴿وألّف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألّفت بين قلوبهم، ولكن الله ألّف بينهم، إنّه عزيز حكيم﴾.[22]
يبيّن لنا "مالك بن نبي" البعد الأخلاقي للتجديد الحضاري والحضارة من خلال ما يلي:"1- إنّ مجتمعا معينا لا يمكن أن يؤدي نشاطه المشترك دون أن توجد فيه شبكة العلاقات التي تؤلف عناصره المختلفة النفسية والزمنية.
2- وأنّ كل علاقة هي في جوهرها قيمة ثقافية يمثلها القانون الخلقي والدستور الجمالي الخاص بالمجتمع".[23]
فالقانون الخلقي تتضمنه العلاقة الاجتماعية التي هي في جوهرها قيمة ثقافية، وجد القانون الخلقي لأجل بناء المجتمع والمحافظة على تماسكه وإدخاله في التاريخ من خلال تمكينه من التجديد الحضاري وتكوين الحضارة وتحريك التاريخ، "وكلما حدث إخلال بالقانون الخلقي في مجتمع معين حدث تمزق في شبكة العلاقات التي تتيح له أن يصنع تاريخه".[24] فقوة التماسك التي أوجدتها العلاقة الاجتماعية المتضمنة للقيم والقوانين الأخلاقية الإسلامية هي جعلت المهاجرين والأنصار يصلون إلى درجة التآخي والإيثار فيعرض الرجل في المجتمع الجديد على أخيه "أن ينكحه من يختار من أزواجه بعد أن يطلقها له، كي يبني بذلك أسرة..؟؟".[25]
إنّ قوة التماسك بين أفراد المجتمع الواحد الناشئة عما تفعله القوانين الأخلاقية داخل المجتمعات يقدم صورة جمالية تختلف عن تلك الصورة التي يظهر عليها مجتمعا ممزقا في طريقه إلى الأفول، فالقبيح لا يوحي بالخيال الجميل، والجمال يمثل أحد مكونات المنظومة الثقافية، والثقافة تمثل المحيط الذي يعكس حضارة المجتمع، "والإطار الحضاري بكل محتوياته متصل بذوق الجمال بل إنّ الجمال هو الإطار الذي تتكون فيه أيّة حضارة".[26]والجمال ينبغي أن يشاهد في المجتمع المتحضر في جميع الأماكن والمجالات، في الشارع والبيت والسينما والمسرح، وقيمة الجمال تكبر في عين "مالك بن نبي" فهو عنده "وجه الوطن في العالم، فلنحفظ وجهنا، لكي نحفظ كرامتنا ونفرض احترامنا على جيراننا الذين ندين لهم بنفس الاحترام".[27]
نستنتج مما سبق أن التجديد الحضاري مشروط بجملة من القيّم الأخلاقية والجمالية تشكل عوامل تحرُّك التاريخ وتبني الحضارة، وهذا يتطابق مع ما يدعوا إليه الإسلام فالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بُعث لإتمام مكارم الأخلاق، والله يقول : ﴿إنك لعلى خلق عظيم﴾.[28] كما اعتنى الإسلام بالبعد الجمالي في حياة الفرد والمجتمع والأمة، ويظهر ذلك بوضوح من خلال التأكيد على طهارة النفس والبدن والمحيط.
إنّ النتيجة التي انتهينا إليها بعد تحديد البعد الأخلاقي والبعد الجمالي للتجديد الحضاري والحضارة تؤكد أن وراء البعدين بعد آخر يمثل الأرضية والمرجعية لجميع الأبعاد المختلفة حسب "مالك بن نبي" وهو البعد الروحي الديني، فالعلاقات الاجتماعية المتضمنة للقيم والقوانين الأخلاقية وحتى الجمالية هي من صنع علاقة روحية بين الله وبين الإنسان، وهي التي تكون وراء ميلاد أي مجتمع يدخل التاريخ ويصنع التجديد الحضاري ويبني الحضارة "فالحضارة لا تظهر في أمة من الأمم إلا في صورة وحي يهبط من السماء، يكون للناس شريعة ومنهجا".[29] والحضارة الإسلامية من إنتاج الوحي الإلهي، الذي هبط من السماء على "محمد صلى الله عليه وسلم" فكان ذلك الوحي شريعة ومنهاجا سار عليه المسلمون ولازال حتى الآن.
يؤيد "مالك بن نبي" فيلسوف الحضارة والتاريخ "كسرلنج" في أن دورة الحضارة تبدأ حينما تدخل التاريخ فكرة دينية أو مبدأ أخلاقي ما، وتنتهي هذه الدورة عندما تفقد روحها تماما وتفقد ذلك السلطان الذي كان لها على الشهوات والغرائز المكبوحة، فالحضارة المسيحية وليدة الروح المسيحية والحضارة الإسلامية وليدة الروح الإسلامية وهكذا مع بقية الحضارات للأخرى.
إنّ الفكرة الدينية تشترط سلوكا لدى الإنسان به يكون قادرا على أداء الرسالة، ودوره لا يقف عند بعث التجديد الحضاري ودفع معتنقيها إلى الحركة في التاريخ وتشكيل الحضارة بل تعمل على ضمان استمرار هذه الحضارة وحمايتها من عوامل وأسباب الإنهيار والأفول. "فهي تحل لنا مشكلة نفسية اجتماعية أخرى، ذات أهمية أساسية تتعلق باستمرار الحضارة، فالمجتمع لا يمكنه مجابهة الصعوبات التي يواجهه بها التاريخ ما لم يكن على بصيرة جلية من هدف جهوده".[30]
غير أنّ نجاح النشاط الاجتماعي مرهون بالغاية التي لأجلها يحيا الإنسان ولأجلها وجد المجتمع، فإذا كانت الفكرة الدينية تشترط السلوك الفردي ليقوم الفرد برسالته ويبني حضارته في التاريخ فإن ارتباط الأفراد بغاية ما يصنع في قلوبهم الرغبة في البناء والتجديد ويمنحهم الإرادة القوية لفعل ذلك وتصبح مع ذلك "الحياة ذات دلالة ومعنى وهي حينما تمكن لهذا الهدف من جيل إلى جيل ومن طبقة إلى أخرى فإنها حينئذ تكون قد مكنت لبقاء المجتمع ودوامه وذلك بتثبيتها وضمانها لاستمرار الحضارة".[31]
يؤكد "مالك بن نبي" أنّ المشكلات المرتبطة بالحضارة وبالفرد وبالمجتمع هي مشكلات نفسية واجتماعية متصلة بعلم النفس الفردي والاجتماعي مثلتها الفكرة الإسلامية منذ ثلاثة عشر قرنا من الزمن.
فالتجديد الحضاري "عند مالك بن نبي" امتداد لأبعاد كثيرة ومختلفة وهي إنسانية ونفسية واجتماعية وأخلاقية وجمالية وهذه الأبعاد كلها ذات طابع روحي ديني تعود إلى بعد روحي، يكون ورائها يصنعها جميعا ويحرك التجديد الحضاري ويضع الإنسان في التاريخ ويمكنه من بناء الحضارة ويحافظ على استمرارها ويحقق الوجود الإنساني بتحقيق غاياته القريبة والبعيدة وهي غايات الإسلام ومبتغاه ومقصده.
[1] - جميل صليبا: المعجم الفلسفي، ص242.
Lalande:vocabulaire technique et critique de la philo-p 516-517. -[2]
[3] - جماعة من الباحثين: القاموس الجديد للطلاب، ص171.
[4] - جميل صليبا: المعجم الفلسفي، ص311.
[5] - المرجع السابق: ص311.
[6] - جماعة من الباحثين: القاموس الجديد للطلاب، 176.
[7]- جميل صليبا: المعجم الفلسفي، ص259.
[8] - المرجع السابق: ص295.
[9] - المرجع السابق: ص31.
[10] - مالك بن نبي: آفاق جزائرية، ص46-47.
[11] - مالك بن نبي: شروط النهضة، ص61.
[12]- قرآن كريم: سررة الإسراء،الآية 70
[13] - مالك بن نبي: شروط النهضة، ص69.
[14]- مالك بن نبي: وجهة العالم الإسلامي، ص28.
[15] - مالك بن نبي: شروط النهضة، ص 70.
[16] - مالك بن نبي: وجهة العالم الإسلامي، ص23.
[17] - مالك بن نبي: ميلاد مجتمع، ص13.
[18]- المرجع السابق: ص 15.
[19] - المرجع السابق: ص 16.
[20] - أسعد السحمراني: مالك بن نبي مفكرا إصلاحيا، ص143-144.
[21] - مالك بن نبي: مشكلة الثقافة ،ص11.
[22] - قرآن كريم: سورة الأنفال، الآية 63.
[23] - مالك بن نبي:ميلاد مجتمع، ص45.
[24] - المرجع السابق: ص 49.
[25] - مالك بن نبي: مشكلة الثقافة،ص114.
[26] - المرجع السابق: ص120.
[27]- المرجع السابق: ص121.
[28] - قرآن كريم: سورة القلم، الآية 4.
[29] - مالك بن نبي: شروط النهضة، ص 75.
[30] - المرجع السابق: ص107.
[31] - المرجع السابق: ص109