الحب ـ الغزل ـ الجنس... في بلاد الرافدين
سلام مراد
إن الجنس مثل الغذاء من الغرائز الموجودة عند الكائنات، والإنسان واحد من هذه الكائنات التي تتكاثر عن طريق العملية الجنسية، حببت للإنسان الغريزة الجنسية فهو من أكثر الكائنات في امتلاكه للشهوة الجنسية، يستطيع أن يمارس الجنس في أغلب الأوقات، بعكس الأكثرية من الحيوانات فالأنثى عند الحيوان ترفض الذكر إلا في فترات التهيج، وبالتالي يحصر الجنس عند الحيوان في دائرة أضيق من الدائرة الموجودة عند الإنسان.
قبل حصول العملية الجنسية تكون هناك مقدمات بين الذكر، والأنثى، يكون هناك إعجاب وحب ثم يكون هناك كلام، وغزل إلى أن تتطور العلاقة بين الطرفين.
من خلال النصوص الأدبية نلاحظ مدى أهمية الحب، والغزل، والعلاقات الجنسية في بلاد الرافدين.
فقد تغزل الشعراء بحبيباتهم وقدموا لنا وصفاً كاملاً عن طبيعة العلاقات الغرامية.
هناك نصوص على شكل قصائد غزلية يدور معظمها حول موضوع ما يسمى بالزواج الإلهي أو الزواج المقدس، أي الزواج بين إله وإلهة الحب.
ويقوم الملك، أو الحاكم وكاهنة عليا بتمثيل الإله والإلهة في ذلك الاقتران المقدس.
صيغت قصائد الحب في بلاد الرافدين على شكل حواري، غالباً ما يصاحبها عزف موسيقي، هذه القصائد تبدأ بداية حب وغزل، وتنتهي بنهاية عاطفية تبين الشهوانية، والحب والرغبة الجنسية للمحبوب.
ومعظم هذه القصائد تعود إلى مجموعة دموزي رانانا.
الغزل في اللغة العربية
الغزل هو الشغف بمحادثة النساء والتودد إليهن، والغزل هو اللهو مع النساء ومغازلتهن ومحادثتهن ومراودتهن، والتغزل هو تكلف الغزل، ويقال تغزل بالمرأة، وغازل المرأة حادثها وتودد إليها.
والعرب تقول أغزل من الحمى، ويريدون بها معتادة للعليل متكررة عليه، فكأنها عاشقة له متغزلة به.
والغزل، ولد الضبية الشادن قبل الإثناء حيث يتحرك، ويمشي، وتشبه به الجارية في التشبيب.
ويقال للضعيف الخائر عند الشيء غزل، ومنه رجل غزل صاحب النساء لضعفه عن غير ذلك.
والغزالة مؤنث الغزال، وهي الشمس عند طلوعها، يقال طلعت الغزالة ولا يقال غابت الغزالة، ويقال: الغزالة الشمس إذا ارتفع النهار، وقيل الغزالة عين الشمس.
مفهوم الغزل في البغاء المقدس
لقد سلم سكان بلاد الرافدين القدماء بأنه كان للجنس عنصر ديني، فقد كان هناك بغاء ديني مارسه الذكور، والإناث وكذلك المخنثون meuter الذين ارتبطوا ببعض المعابد بممارستهم الجنسية التي ضمت في بابل اللواطية، ويبدو أن الذين مارسوا ذلك كانوا غالباً من الطواشي إلا أن الحالة لم تكن كذلك دوماً.
إن ما سجله هيرودتس عن مشاهداته في المعبد البابلي تعتبر على جانب كبير من الأهمية بالنسبة لدراسة موضوع البغاء المقدس، وهي أنه في بابل كان على كل امرأة أن تستسلم في معبد عشتار لأول غريب يطلبها، وتأخذ منه أجراً رمزياً غير محدد تسلمه إلى الهيكل هبة منها لإلهة الحب، توكيداً على إنعدام الأهداف الفردية لفعلها الجنسي، ولم تكن المرأة بقادرة على العودة إلى بيتها قبل أن يمر بها ذلك الرجل الغريب، لذا كان فناء المعبد مليئاً على الدوام بنسوة في الانتظار، وربما قضت بعضهن سنوات قبل أن يقع عليهن اختيار أحد.
لقد ربط البعض هذه الممارسات بعبادة الإلهة عشتار، ومعابدها لغرض تأكيد هذه الرواية كما سارع بعض الباحثين إلى اعتبار أصناف معينة من الكاهنات في بلاد بابل على أنهن كن بغايا مقدسات.
لكن النصوص المسمارية القديمة لا تشير إلى وجود مثل هذه الممارسة في مضامين ديانة العراق القديم، ومعابدها، فقد كانت تلك الديانة تنحو منحى مختلفاً، كما أن القوانين والشرائع العراقية القديمة كان تحدد ضوابط صارمة على مثل تلك الممارسات، والأكثر من هذا كله أن المركز الاجتماعي لكاهنات القاديشتو، والكلماشتو على وجه التحديد قد وضع بالشرائع القديمة، وأشهرها شريعة حمورابي.
إن البغاء المقدس هو ممارسة الجنس بين أطراف لا يجمعهم رابط شخصي، ولا تحركهم دوافع محددة تتعلق بالتوق الفردي لشخص بعينه، أو تعلق بالإنجاب، وتكوين الأسرة، هو ممارسة جنسية مكرسة لمنبع الطاقة الكونية مستسلمة له منفعلة به ذائبة فيه، وكانت عشتار هي البغي المقدسة الأولى لأنها مركز الطاقة الجنسية الشاملة التي لا ترتبط بموضوع محدد وهي (عشتار) تقول عن نفسها (أنا العاهرة الحنون) وأنا (من يدفع الرجل إلى المرأة، ويدفع المرأة إلى الرجل).
وفي نص هبوط عشتار إلى العالم الأسفل نقرأ ما نصه:
بعد أن هبطت السيدة عشتار إلى أرض اللا عودة
اضطجع الرجل وحيداً في غرفته
ونامت المرأة على جنبها وحيدة
بالمقابل جاء في أحد المصادر الأدبية عن رجل حكيم قدم نصائحه محذراً من زواج البغي حيث جاء في النص:
لا تتزوج المومس (لأن) أزواجها كثيرون.
لا تتزوج البغي (لأن) المعجبين بها كثيرون
لا تتزوج البغي (لأن) أزواجهن ست مرات ستمائة في ضيقك لا تقف معك.
في خصوماتك سوف تسخر منك
ليس هناك توفير، أو إطاعة معها
هل تستطيع أن تسيطر على بيتك، اطردها خارجاً حيث أنها وجهت اهتمامها في مكان آخر.
وقد أظهرت بعض الأشكال والألواح الطينية رسوم وتمثيل لجسد الأنثى صورت باستمرار بشكل عاري، وشعرها منثور، واحتوت بعضها على مشاهد الشراب، أو عزف الموسيقى حيث فسرها البعض على أنها نوع من احتفالات العبادة من خلال إنجاز الفعل الجنسي، أو أنها تمثل الحانات حيث توجد البغايا عادة.
إن بغايا المعبد لم يكنّ بالمعبد تحديداً، هؤلاء النسوة بالحقيقة اجتمعن في مجموعات وميزن من خلال أسماء خاصة، وعملن تحت حماية الآلهة، وعلى الأغلب تحت حماية الإلهة عشتار، وكان هؤلاء يتواجدن قرب أسوار المدينة في وسط الطريق بين الداخلين من الخارجين، أو بين العالم المتحضر والهمجي.
وقد اعتبروا (البغايا) جزء من المجتمع، ومن ثم كانوا نساء من اللواتي فقدن قدرهن اللائق ذلك لأن الزواج، وحمل الأطفال يعطي الطمأنينة على استمرارية المجتمعات، هذه المجموعات عرفن بوساطة اسم عام horimtu (أدبياً المرأة المنفصلة) بينما أسمائهن المحددة في المجتمعات (الأسماء الشخصية) خبئت تحت أثوابهن حيث كن مترفات نوعاً ما أو شاذات، وإن حضورهن العام، أو ملاقاتهن قد ميزتهن عن النساء الأخريات.
وإذا كانت البغايا قد أبعدن عن قدرهن العادي (بالقسمة والنصيب) فإن رجل بلاد الرافدين وضمن أخلاق عائلته لا يزال يسمح له بممارسة الحب الحرفي بعض الحالات لأن هذا الحب اعتبر جزءاً من البشرية، وإن هذا الازدواج في الموقف تجاه الجنس في بلاد الرافدين لم يربط بالزواج والإنجاب، وقد عبر عن ذلك في قصة أنكيدو كما ذكر عندما أرسلت إليه البغي لكي تجلبه من الحياة الهمجية إلى الحضارة.
بقي الإنسان خلال العصور الجليدية، والعصور الحجرية الأولى يمارس العمليات بصورة غريزية دون إدراك، أو اهتمام لنتائج هذه العمليات، ولاسيما أن الطبيعة قد هيأت في الأعضاء التناسلية قوة وجاذبية فيزولوجية لا تحتاج إلى الإدراك أو المعرفة.
ولكن الإنسان عندما بدأ يستغل الموارد الطبيعية المنتجة للقوت، ويسخرها حسب إرادته شعر بأن بقاءه وسلطته تعتمدان أساساً على الخصوبة ووفرة النتاج (الزراعي والحيواني) فصاحب هذا التطور بعض المبادئ والمعتقدات.
لقد جسد الإنسان ظاهرة الخصوبة، والتكاثر بشكل امرأة حبلى تتميز بثديين كبيرين ممتلئين وبطن منتفخة، وأفخاذ ممتلئة، وأخذ يصنع منحوتات صغيرة على هذا الشكل من العاج والعظام والحجر والطين ويحفظها في مسكنه، ويدفنها مع موتاه، وكانت هذه الدمى تهيئ له الشعور بقدرته على السيطرة على القوة المنتجة، وتعرف هذه الدمى الآن بمصطلح الآلهة الأم Mother goddess.
وبعد أن سيطر الإنسان على طرق الزراعة، وعرف كيف يختار الأرض الصالحة، وينتج البذور الجيدة كما عرف أنواع الحيوانات التي يمكنه الاستفادة منها، وتعلم سبل تكاثرها وتحسين أنواعها أخذ يشعر، ويتحسس بأهمية دور الرجل في عملية الإخصاب والتكاثر.
وهنا بدأ الرجل يشارك المرأة في عقيدة الخصوبة، والتكاثر ويدرك أهميته ودوره في عملية التكاثر، ولهذا فإنه أخذ يصنع الدمى الرجالية مع التركيز على الأعضاء التناسلية للذكر، ولكن الآلهة الأم بقيت محتفظة بدورها الرئيسي في عقيدة الخصوبة والإنجاب.
إن طقوس الأكل والشرب، الحب والجنس تنظمها الفطرة في طبيعتها البدائية العميقة، وإن كل ثقافة أو مجتمع أوجد له مكاناً متميزاً في نظامه، وصفاته، وطريقة فهمه الخاصة.
ونحن لا نعرف كيف كان أجدادنا في عصور قبل التاريخ يتعاملون مع أسلوب طبخهم ولا نعرف كيف كانوا يمارسون الحب، المعلومات الكتابية هي وحدها التي يمكن أن تزودنا بتفاصيل ذلك.
مثلاً هناك نص هو حوار بين عبد وسيده يخاطب فيه السيد خادمة قائلاً:
أيها الخادم أصغي لي
نعم سيدي نعم
أريد أن أحب امرأة
افعل ذلك سيدي، فالرجل الذي يحب امرأة ينسى أحزانه وهمومه
كلا أيها الخادم لن أحب امرأة
لا تفعل ذلك يا سيدي لا تفعل
المرأة بئر، إنها حفرة وخندق، المرأة خنجر من حديد
صارم يقطع عنق الرجل
كانت الخطوات المتبعة للزواج عند سكان بلاد الرافدين هو أن يتقدم الشاب، أو والده إن لم يكن كبيراً بما فيه الكفاية، أو عند ارتباط الابن مالياً بأبيه... إلى والدي الفتاة، أو ذويها يطلب يد ابنتهم، وهذا ما يسمى بالخطوبة، إلى والد عروسه المرتقبة، ويلتقي العروسان بعد ذلك فتخاطب العروس خطيبها بعبارة معينة تشير إلى قبولها به زوجاً كما يؤدي الزوج القسم ويرفع قلنسوة عروسه، ويضعها على رأسه كدليل على احترامه لها.
قدمنا فيما سبق جزءاً يسيراً من ممارسات الحب، والغزل، والزواج في بلاد الرافدين ونقول لا تكفي مقالة واحدة للإحاطة، وتناول الحياة والمعيشة في حضارة، بلاد الرافدين. ونختم هذه المادة بنص يبين استعداد امرأة للقاء حبيبها من خلال تزيين نفسها، وإبراز مفاتنها وإغرائها للحبيب.
لقد غسلت، غسلت بالصابون
غسلت نفسي في الإناء المقدس
غسلت بالحوض الأبيض
ارتديت أردية ملوكية، ملوكية السماء
لهذا السبب اقتعدت بالبيت
طليت عيني بالكحل
ثبت تسريحة شعري...
أرخيت شعري المتشابك
فحصت السلاح الذي سينصر حكمه
عدلت شفاهي الملتوية
خصلاتي المفككة جمعتها في العلا
تركتها تنحدر حتى حاشية مؤخرة عنقي
وضعت في يدي سواراً من الفضة
ثبت حول عنقي خرزاً صغيرة
ثبت حول أوتار عنقي.
المراجع
1 ـ الأسود ـ حكمت ـ أدب الغزل ومشاهد الإثارة في الحضارة العراقية القديمة ـ المدى دمشق 2008م.
2 ـ باقر ـ طه ـ مقدمة في أدب العراق القديم ـ بغداد 1976م.
3 ـ باقر ـ طه ـ ملحمة كلكامش ـ بغداد 1980م.
4 ـ البدري ـ عبد اللطيف ـ من الطب الأشوري ـ بغداد 1976م.
5 ـ حنون ـ نائل المعجم المسماري بغداد 2001.
6 ـ رو ـ جورج ـ العراق القديم ـ ترجمة وتعليق حسين علوان حسين بغداد 1984.
7 ـ الراوي ـ فاروق ـ جوانب من الحياة اليومية في بلاد الرافدين ـ حضارة العراق بغداد 1084م.
8 ـ رشيد فوزي ـ الشرائع العراقية القديمة ـ بغداد 1979.
9 ـ ساكس ـ هاري ـ عظمة بابل ـ ترجمة وتعليق د. عامر سليمان الموصل 1979م.
10 ـ علي ـ فاضل عبد الواحد ـ وعشتار ومأساة تموز بغداد 1986م.
11 ـ كريمر ـ صموئيل نوح ـ من ألواح سومر ـ ترجمة ـ طه باقر مراجعة د. أحمد فخري بغداد 1957.