محمد الرفيع



مقدمة:
إن مبدأ الاختلاف الفكري بين بني البشر، قديم قِدَم الإنسان على هذه الأرض، كما أشار إلى ذلك الحق سبحانه بقوله: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِين. (هود: 118) إنّ اختلاف مدارك الناس، وطباعهم، ومصالحهم، وبيئاتهم من جهة، واختلاف الظواهر الكونية من حولنا من: ليل ونهار، وصيف وشتاء، وبر وبحر، إلخ، من جهة أخرى، يفرض علينا تصحيح نظرتنا إلى حقيقة الاختلاف؛ إذ هو آية من آيات الله في الآفاق، وفي الأنفس، مصداقا لقول الله تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعَالِمِينَ. (الروم: 22)
وإذا كان من البديهي أن تتنوع الثقافات، والأفكار، والعادات، والتقاليد، والمذاهب حتى ضمن المجتمع الواحد، فإنه من غير الطبيعي النظر إلى هذا الاختلاف، على أنّه ظاهرة مَرَضية يجب القضاء عليها؛ لأن كل محاولة لإلغاء الآخر لن يكتب لها النجاح، كما حدث للتجربة الشيوعية، التي حاولت بكل ما أوتيت من وسائل القمع، إلغاء كل ما هو غير شيوعي، فكانت النتيجة انهيار كل ما هو شيوعي، وبقاء الآخر المخالف صامداً.
ومن تجليات الرحمة في آية الاختلاف، ما أثبتته الدراسات (السيكو اجتماعية) من أن القدرات العقلية للفرد، لا يمكنها أن تتطور إلا مع الآخر المُختَلِف؛ أي في ظل التدافع المعرفي، والجدال العلمي، بوصفه المجال الأفضل للتطور الذهني والمعرفي، وتتعزز نتائج هذه الدراسات بنتائج الأبحاث الميدانية في مجالي: التربية، وعلم النفس؛ إذ تؤكد على أن التقدم المعرفي، وإثراء الفكر، لا يحصل، إلا إذا وجد الأفراد أنفسهم في وضعيات اختلاف ومواجهة، مع أفراد متنوعي المستويات والتوجهات.
والتدافع المعرفي المفضي إلى إثراء الفكر، يتوقف على وجود اختلافات في آراء الأطراف المجتمعة حول عملية اكتساب المعرفة، وكل ذلك متوقف على حُسْن إدارة هذا الاختلاف، وتدبيره في الاتجاه الصحيح المنتج.
لقد بدأ الوعي بأهمية البحث عن منهجية تدبير الاختلاف الثقافي والفكري يتنامى في الدراسات الفكرية المعاصرة، فبدأت كلمة الحوار تتردد على كل لسان، وتتكرر في أكثر من خطاب ومقال، وتُعقد لبحث أبعاده ودلالاته المؤتمرات والندوات؛ لأن الجميع أدرك مركزية الحوار في التدبير الأمثل للاختلاف الثقافي والفكري، في اتجاه بناء أجواء التفاهم والتعايش السلمي، وفضّ النـزاعات مع الآخر المخالف.
وغياب الحوار بين أطراف الخلاف، سواء أكان داخل مجتمعاتنا العربية والإسلامية الإثنية، أم بين مجتمعاتنا والمجتمعات الغربية قديماً وحديثاً، أدّى إلى فشل ذريع في تدبير الاختلاف في كثير من القضايا، وهو ما أدّى -على المستوى الداخلي- إلى إثارة النـزاعات في صغائر الأمور، وتضخيم الخلاف على حساب الوفاق، وبددت طاقات الأمة في صراعات هامشية، كثيرا ما كانت السبب في إجهاز العدو على مصالح الأمة الكبرى.
وعلى المستوى الخارجي، شجر الخلاف، وغدت النظرة حادة أحادية من كلا الطرفين، ونسي الجميع المشترك الإنساني الواجب تنميته، والمختلف اللازم احترامه، فآل الأمر إلى إشعال الحروب المتكررة، التي أهلكت الحرث والنسل.
ومن جانبنا، فإن مسؤوليتنا فيما نعيشه من أزمة في العلاقة مع الآخر الوطني، أو الأجنبي، راجع في العمق إلى عدم تشبعنا بهويتنا الثقافية الإسلامية، التي تمتلك رؤية أصيلة واضحة لثقافة الاختلاف، وضربت أروع الأمثلة في تدبير قضية الاختلاف.
فالقرآن الكريم قدّم لنا منهجاً متكاملاً للحوار في عرض مضامين رسالته، ولم يكتف بأسلوب النصيحة والموعظة، وأنتجت لنا مباحثُ أصول الفقه، والكلام، والجدل، معرفةً متكاملة أسّست لثقافة الاختلاف، وقعّدت منهجاً محكماً لاستثمار الاختلاف في إنتاج المعرفة وتصحيحها.
وتأتي هذه الدراسة؛ لتسهم في تأصيل قضية تدبير الاختلاف مع الآخر المخالف في المرجعية وتقعيدها، من خلال أصول التراث الإسلامي، وسواء كانت مخالفة هذا الآخر كلية أو جزئية؛ لأن ضوابط التدبير هنا تمثل في مجموعها منهجاً عاماً في إدارة حالات الاختلاف.
أولاً: الأسس المرجعية لتدبير الاختلاف مع الآخر في التراث الإسلامي
إذا كانت الشريعة الإسلامية أقرت الاختلاف ظاهرة متأصلة في الإنتاج المعرفي للإنسان، فإنها دعت نظرياً -كما في الكتاب- وعملياً -كما في السّنة- إلى حُسْن تدبير هذا الاختلاف واستثماره، حتى يكون عامل إثراء وبناء، لا عنصر فرقة وبلاء، وذلك على أساس الحوار العلمي الهادف الذي يعترف بالآخر ولا ينفيه. وأهم هذه الأسس:
1. الأساس القرآني:
تستمد قضية تدبير الاختلاف مع الآخر المخالف أصالتها ومشروعيتها من المرجعية العليا للفكر الإسلامي: الكِتاب والسُّنة، ذلك أننا إذا نظرنا إلى القرآن الكريم نظرةً كليةً، ألفيناه خطاباً ربانياً موجهاً إلى إنسان ذي خصوصية فكرية، وطبيعة جدلية، كما وصفه الحق سبحانه: وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الأِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً (الكهف: 54) لذلك سيقت رسالة هذا الخطاب، مساق جَدَل وحِجَاج، ولم تقدم عارية عن البراهين والحُجَج، مراعاةً وتقديراً للمُخاطَب المُخالِف.
وقرر الحق سبحانه ركائز يتأسس عليها الحوار وإدارة الخلاف، منها قوله سبحانه: لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ، (البقرة: 256) وقوله: فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ، (النحل: 82) وقوله: لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ، (الغاشية: 22) وقوله: وَمَا أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ. (ق: 45)
ونظراً لأهمية تدبير الخلاف وحيويته، تولّى الحق سبحانه -بنفسه- وضع منهجية عملية في التعامل مع المُخالِف، فقال سبحانه: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ. (النحل: 125) ولم يكتفِ القرآن الكريم، وهو المصدر الأعلى للفكر الإسلامي، بإقرار مبدأ الاختلاف، وإنما قدم نماذج تطبيقية لإدارة هذا الاختلاف، وأثبت أن المنهج الأمثل في حل الأزمات هو الحوار. لذلك نقرأ في القرآن الكريم مستويات متنوعة من الاختلاف، المدار وفق قواعد حوارية رائعة؛ فقد تحدث القرآن الكريم عن الخلاف في مواطن عدة، كما في خلاف إبليس اللعين مع الحق سبحانه، فرغم أن الخلاف خلاف معاندة، غير مبني على أساس، ضَمِن الله عز وجل للمُخالف الوجود، ومنح له حق التحاور، وعَرْض الحُجج؛ ليهلك من هلك عن بَيِّنة ويحيى من حيّ عن بيِّنة.
كما قدّم القرآن صفحات رائعة من حسن تدبير الخلاف بين الأنبياء عليهم السلام وأقوامهم، في بيئات مختلفة، وأزمان متفاوتة، وأساليب متنوعة، الأمر الذي يشكل لأصحاب الرسالة الخاتمة مشهداً متكاملاً لأساليب إدارة الخلاف. فنَبِيُّ الله نوح عليه السلام وظَّف كل أساليب الجدال والحِجَاج لإقناع قومه بدعوته حتى سئموا، وبلغ بهم الأمر أن جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً (نوح: 7) بعد أن أقرّوا بكثرة مجادلة نوح عليه السلام: قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ. (هود: 32) قال ابن عطية: "معناه قد طال منك هذا الجِدال وهو المُراجعة في الحُجَّة، والمخاصمة، والمقابلة بالأقوال حتى تقع الغَلَبة."
وناظر إبراهيم عليه السلام مُخالِفه النمرود، فقد قال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. (البقرة: 258) قال ابن حزم: "وقد أمرنا تعالى في نص القرآن باتّباع مِلة إبراهيم عليه السلام، وخبّرنا تعالى أنّ من سنّة إبراهيم المُحاجّة والمناظرة."
كما ناظر عليه السلام الصابئة، قال عز وجل: وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ... (الأنعام: 75، وما بعدها) قال ابن كثير: "والحق أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان في هذا المقام مناظراً لقومه، مبَيِّناً لهم بطلان ما كانوا عليه من عبادة الهياكل والأصنام."
وحاور عليه السلام الملائكة في موضوع إهلاك قوم لوط، وهذا ظاهرٌ في قوله تعالى: فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ، (هود:74) وقوله سبحانه: قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ*قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ. (العنكبوت: 31-32)
ومن جملة المناظرات التي احتفى القرآن بذكرها في أكثر مِنْ مَوْطن، مناظرة موسى عليه السلام لفرعون، قال تعالى: قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ*قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ*قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ*قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ* قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ*قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ. (الشعراء: 23-28)
2. الأساس النبوي:
مرحلة النبوة المباركة مرحلة تأسيس الثقافة الإسلامية، وإرساء دعائمها وأصولها، فلا غرو أن نجد في هذه المرحلة منهجاً نبوياً أصيلاً واضحاً في تدبير الخلاف مع الآخر في أعلى مستوياته، وأشد لحظاته، تشريعاً لنا وتعليما. فقد كانت بعثة النبي ، إعلاناً عن ظهور دعوة جديدة مخالفة إجمالا لأنظمة الحياة السائدة في الجزيرة العربية وغيرها، سواء على مستوى الاعتقاد، أو الاجتماع، أو الأخلاق، أو غيرها، "فكان طبيعياً أن تحدث دعوته هذه حركة فكرية جدلية واسعة النطاق، وأن تكون شاغلا للذهن العربي حقبة طويلة من الزمن." والجدال منشؤه الاختلاف؛ إذ "لا جدال إلا حيث الاختلاف في إدراك حقيقة من الحقائق."
وقد سلك النبي  في تدبير الخلاف مع الآخر-محل الدعوة- مسلك الحوار، منهجاً مطّرداً لتبليغ دعوة الله عز وجل، فخاطب المُخالِف، وكاتبه، وراسله، وطلب من الأصحاب تعلُّم لغته، وتوصل عن طريق التفاوض والحوار إلى معاهدات ووثائق، وبناء نقاط مشتركة. وكان من المخالفين الذين دخل معهم النبي  في حوار هادئ متئد الأصناف التالية:
أهل الشرك: فقد جادلهم النبي  في موضوع الإقلاع عن الشرك الذي لا يليق بكرامة الإنسان بوصفه كائناً عاقلاً، والدخول في دين الله تعالى في مناسبات عديدة، منها ذلك الموقف الذي جاءه فيه عليه السلام وفد رسمي؛ ليجادلوه في أهداف دعوته، وإمكان التخلي عنها، فما عنّفهم ولا أنكر عليهم وهو رسول الله، وهم كفار؛ وهو ينطق بالحق، وهم يجادلون بالباطل، وإنما استمع إليهم حتى فهم مقاصدهم، وفحوى عرضهم، فأجابهم إجابة هادئة واضحة، أخرست ألسنتهم، وأفحمت أحلامهم، وهم القوم الخصمون، لذلك قرروا مقاطعة الحوار والإعراض عن الاستماع، بحُجج واهية، كما حكى عنهم القرآن الكريم: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (فصلت: 26) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْماً وَزُوراً. (الفرقان: 4)
وفي القرآن ردود كثيرة على اعتراضات هؤلاء المشركين ومطالبهم التي لا حدود لها؛ إذ بقيت خير شاهد على تلك المناظرات، التي حرص من خلالها النبي  على روح التواصل مع المُخالِف، في أدب تام رغم شدة الخلاف.
أهل الكتاب: فقد حاور النبي  اليهود والنصارى -بمقتضى عموم رسالته، ووجوب تبليغ دعوته- محاورة واسعة، بوصفهم أقواماً يقروُّن بكتاب، ويؤمنون برسول، فالخلاف معهم أقلُّ عمقاً من الصنف الأول.
فكانت أسئلة القوم في حوارهم مع النبي عليه السلام، تَنِِمُّ عما لديهم من علم بالكتاب الذي أنزل إليهم، ولذلك أمر الله عز وجل نبيه عليه السلام بمجادلة أهل الكتاب بالحسنى، فقال سبحانه: وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ. (العنكبوت: 46) وكانت أجوبته  -كما نقرأ في القرآن- مُلزِمة للقوم، ومفحمة بقوة الحُجّة، ونصاعة البرهان، مع تمام اللين والرفق، فكان أهل المروءة والإنصاف فيهم، لا يملكون أمام سلطان البرهان وقوة الحجة، إلا أن يعلنوا إيمانهم كالنجاشي مثلاً، أو يكتموه إلى حين كبعض نصارى نجران بالمدينة، وبقي أهل الحقد والعناد في غيهم يعمهون كما هو حال أغلب اليهود.
إن منهج الحوار الذي أدار به النبي صلى الله عليه وسلم الاختلاف تبليغاً للدعوة، وظّفهُ مع صحابته تعليماً وبياناً، كما نجد في قضايا عدة؛ منها قصة خولة بنت ثعلبة مع زوجها أوس بن الصامت، التي نزل في حقها القرآن: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ، (المجادلة: 1) وقصة عمر  في مجادلته للرسول  إبّان صلح الحديبية، ومحاورة سعد بن معاذ وسعد بن عبادة رضي الله عنهما، في مصالحة الأحزاب بثلث ثمار المدينة عامئذ، وغيرها من القضايا التي يدير فيها النبي  الاختلافات بالحوار الهادئ، حتى يفهم الجميع، ويقتنع ويطمئن. فَحُسْن إدارة الخلاف مع المؤالف، مقدمة شرطية لحسن إدارته مع المخالف، وإلا ففاقد الشيء لا يعطيه، وكلُّ إناء ينضح بما فيه.
غير أن الناظر في نصوص الشريعة كتاباً وسنّة، في موضوع الاختلاف، يلفيها تارة تذم الاختلاف والجدال، كما في قوله تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ، (آل عمران: 19) وقوله سبحانه: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ، (آل عمران: 105) وقوله : "إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم في الكتاب،" وقوله : "اقرءوا القرآن ما ائتلفت قلوبكم فإذا اختلفتم فقوموا عنه،" كما تجدها تارة أخرى تقرُّه. ولكن بعد تأمل مورد الذَّم والإقرار، والرجوع إلى سياق النصوص المتعارضة، يظهر لنا أن الذَّامة منها للخلاف والجدال، واردة في شأن مَنْ لا علم له به، ولا تحقيق عنده فيما يدعيه، في حين أن النصوص الأخرى المبيحة، واردة في شأن الاختلاف المتعلق بدائرة الاجتهاد الصادر عن أهل النّظر والاجتهاد. وبهذا الفيصل بين نوعي الاختلاف، يتشكل السياج الضامن للاختلاف أن يسير في اتجاه الإثراء والبناء، ولا ينـزلق إلى الافتراق والمراء.
وهذه من أبرز القضايا الأصولية التي حرص الشافعي -رحمه الله- على بيانها بتفصيل في رسالته الأصولية "الرسالة"؛ إذ ابتدأ ببيان الجائز من الاختلاف وغير الجائز بقوله: "الاختلاف من وجهين: أحدهما مُحرَّم، ولا أقول ذلك في الآخر."
ولقد ظل الاختلاف في الفكر الإسلامي -على المستوى الداخلي- مرتبطاً بالاجتهاد، ودائراً معه حيث دار، فما جاز فيه الاجتهاد، جاز فيه الاختلاف، والعكس صحيح. ومعلوم أن معظم المعارف التشريعية التي راكمها الفكر الأصولي عبر مسيرته التاريخية، إنما تمّت من مدخل الاجتهاد، وعلى أساس الاختلاف، بعد أن تقررت جملة من القواعد الأصولية التي أسهمت في تنظيم مبدأ الاجتهاد، وأسّست لثقافة الاختلاف في فضاء البحث التشريعي، نذكر منها: لا إنكار في القضايا الاجتهادية، وأن اجتهاد المجتهد غير ملزم، وأن المجتهد لا يجوز له أن يقلد غيره، وأن المجتهد مأجور.
وإذا كان مدار الاختلاف في الاجتهاد عند جمهور الأصوليين -على مستوى الذات- الصواب والخطأ المأجورين، فإن أصوليين آخرين رفعوا من قيمة الاختلاف إلى أعلى مستوياتها، حين قرروا أن كل مجتهد مصيب؛ أي أنَّ كلَّ رأيٍ صادرٍ عن مجتهد، له وجهٌ من الصواب؛ لأنَّ الصواب عندهم غير متعيَّن.
واستلهاماً لروح هذه الرؤية الناضجة لقضية الاختلاف، يعلن الشافعي قولته الشهيرة: "رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب،" ليضرب بذلك أروع مثل في الموضوعية والنسبية في الرأي. ويسجل مالك بن أنس موقفاً علمياً رائعاً حين رفض إلغاء التعددية الفكرية الاجتهادية؛ إذ طلب منه أبو جعفر المنصور أن يحمل الناس على مذهبه في الموطأ، وطلب منه هارون الرشيد أن يعلّق الموطأ على الكعبة.
وعلى هذا الأساس ظهرت المدارس الاجتهادية، وتعددت المذاهب الفقهية، وتشعبت الآراء في قضايا الشريعة الاجتهادية، حتى أصبح موضوع الخلاف في الفقه الإسلامي، عِلْماً قائماً بذاته، له علماؤُه، ومنهجُه، ومؤلفاتُه التي لا تحصى، وهو الموسوم بـ"الخلاف العالي،" أو"الفقه المقارن،" الذي تحول إلى مادة دراسية في المنهاج التعليمي لمجتمعاتنا الإسلامية، وما يزال.
ثانياً: ضوابط تدبير الاختلاف في النظر الأصولي
إذا كانت ظاهرة الاختلاف، وأوجه تدبيرها، قضيةً متأصلة في المرجعية العليا للفكر الإسلامي، وكان تدبير هذا الاختلاف -بمهارة- منهجاً تطبيقياً مقعداً زمن النبوة ابتداءً، وما تلاها تبعاً واقتداء، فإن البحث عن ضوابط حُسْن هذا التدبير في زوايا تراث الفكر الإسلامي، قضيةٌ علمية حيوية، من شأن تقديمها في صيغة تقعيدية محبوكة، أن تسهم في إعادة قطار الخلاف المعرفي إلى سكته؛ ليواصل مشواره في زمن ينادي فيه الجميع -إنْ صدقاً وإنْ كذباً- بالحوار أسلوباً مركزياً لإدارة الاختلاف.
ولقد وجدت الدراسة في تراث الفكر الإسلامي الضوابطَ المعتمدة في تدبير الاختلاف مع الآخر، وتوجيهه نحو البناء المعرفي، والإنتاج العلمي، ورأتها ضوابط متكاملة ومتعاضدة، أحاطت بالموضوع، وأمَّنَتْهُ من الزلل، وسوء التدبير، وصنفتها إلى: ضوابط كلية وأخرى تفصيلية:
1. الضوابط الكلية:
ونقصد بهذه الضوابط، جملةَ القضايا التي تشكل في مجموعها السياج العام، الذي يُحَصِّن المسألة الخلافية من عوامل التفرق المذموم، وصور المراء المحظور، وهي على صنفين: الصنف الأول هو ضوابط التأسيس، والصنف الثاني ضوابط تأمين الحوار بين المتخالفين.
ونقصد بضوابط التأسيس الضوابط التي تحتفي ببناء أسس الاختلاف المعتبر وتحريرها، وهي ممثلة في عناصر ثلاثة: وجود طرفين مؤهلين للقضية الخلافية، والتركيز على المشترك في موضوع الاختلاف، ووحدة قانون الاستدلال والاحتجاج.
فلا بد إدن من وجود طرفين مؤهلين للقضية الخلافية؛ إذ لا يتصور الاختلاف من قبل شخص واحد، فلا بد من وجود طرفين تتباين وجهات نظرهما تجاه موضوع الجدل؛ لأنه لا يتأتى الاختلاف بين شخصين في قضية تتطابق فيها وجهتا نظرهما، بل لا بد أن تكون نظرة كل واحد في بداية الأمر تخالف نظرة صاحبه، وقد يفضي الحوار في النهاية إلى الاتفاق أو يبقي على الاختلاف.
غير أن أطراف الاختلاف، لابدّ أن تتكافأ من حيث الأهلية العلمية، والتخصص في الموضوع، حتى يثمر الحوار ويفيد، وإلا فجهل أحد الأطراف، أو عدم تخصصه في الموضوع، يوقف عملية الحوار ابتداء، فليس كلُّ أحد مؤهلاً للدخول في حوار علمي صحيح، يؤتي ثماراً يانعة ونتائج طيبة، فمن لا يَعْلم لا يجوز أن يجادل مَنْ يَعْلم، وقد قرر هذه الحقيقة إبراهيم عليه السلام في محاجَّته لأبيه حين قال: يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً. (مريم: 43)
وحقُّ مَنْ لا يَعْلم أن يسأل مَن يَعْلم، مصداقاً لقول الله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ، (النحل: 43، الأنبياء: 7) لا أن يعترض ويجادل بغير علم، فموسى عليه السلام لم يستنكف أن يتعلم من العبد الصالح في قول الله تعالى: قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدا.ً (الكهف: 66)
فقد أنكر القرآن الكريم كثيراً على منْ يُقْبِل على الخلاف بغير علم، يقول تعالى: هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ؛ (آل عمران: 66) لأن الحوارات غير المنتجة مردُّها إلى عدم التكافؤ بين المتحاورين المختلفين، فالجاهل بالشيء ليس كفؤاً للعَالِِم به، وإنّ من البلاء أن يقوم غير مختص ليعترض على مختص؛ فيُخَطِّئه ويُغَلِّطه.
ولا بد من التركيز على المشترك في موضوع الاختلاف؛ فالمخالفان إنما يجمعهما موضوع موحد يشكل أرضية مشتركة بينهما، ويعتزم كل واحد منهما أن يدلي بوجهة نظره مستدلاً على صحتها، ويبرهن على فساد أدلة مناظره، وذلك من أجل الوصول إلى الحقيقة العلمية المشتركة، وإنتاج المعرفة الصحيحة المنشودة. أمَّا إذا كان كل مخالف يتحدث عن قضية غير التي يتحدث عنها صاحبه، فالحوار متعذر حتى يتوحدا في موضوع النقاش، وهذا ما يسميه الأصوليون تحرير محل النـزاع أو الخلاف.
فموضوع الخلاف والحوار هو جوهر العملية برمتها، وإذا ما جرى الاتفاق على ذلك، كان الجدل مفيداً وواضحاً للأطراف المشاركة فيه. وسواء كان الموضوع قديماً أو معاصراً، فإن تحديده عامل أساس من عوامل نجاح المجادلة والمناظرة مع الآخر؛ لأن تحرير محل النزاع يضمـن عدم تحوّل الجدل إلى نوع من اللِجاج، كما أنه يضمن عدم بعثرة الأفكار وضياعها بسبب ضبابية الفكرة وعدم وضوحها، إضافة إلى أن عدم تحديد الموضوع لا يتيح فرصة للحكم عليه، فالقاعدة تقول: "الحكم على الشيء فرع تصوره،" فلا يمكن إصدار حكم في مسألة معينة دون تحديد عناصرها وملامحها الأساسية.
والحديث عن موضوع مجادلة الآخر، يستدعي الحديث عن الجدوى والثمرة المرجوة من أي قضية خلافية، تُطرح على بساط الجدل، فلا يعقل أن يهدر الوقت والجهد في قضية خارج حدود العقل البشري، أو قضايا مُسلّمة أو معلومة بالضرورة العقلية أو الدينية، فهو جهد في غير فائدة، وأفعال العقلاء مُنَـَّزهة عن العبث.
فقد دعا القرآن الكريم أهل الكتاب إلى التركيز على النقاط المشتركة، التي تشكل أرضية للحوار، ومحاور للتفاهم، من أجل صياغة المشترك العقدي، قال تعالى: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتَـابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ. (آل عمران: 64)
ولا بد أخيراً من وحدة قانون الاستدلال والاحتجاج؛ فالجدل الخلافي المعتبر، يتطلب ضرورة وجود قانون كُلّي، ممثلاً في قواعد الاستدلال وأصوله؛ إذ يتحاكم إليه المتحاوران المختلفان، ويتفقان عليه، أثناء عملية التدافع والتنافي بينهما؛ إذ لا نستطيع أن نتصور نقاشاً جدلياً جاداً، في غياب مرجعية مشتركة، يُتحاكم إليها أثناء الاستدلال، نفياً أو إثباتاً.
وقد أنكر القرآن الكريم على من تجاوز البديهيات والقضايا الفطرية المسلمة؛ لأنهم لم يبقوا بذلك أي أرضية مشتركة بينهم وبين غيرهم من المسلمين، قال عز وجل: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَ لَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ. (لقمان: 21)
وفي فائدة التحاكم إلى مرجعية معيارية مشتركة، يقول الشاطبي: "إن الخصمين إمَّا أن يتفقا على أصل يرجعان إليه أم لا، فإن لم يتفقا على شيء لم يقع بمناظرتهما فائدة بحال." ويبرز الشاطبي -بوضوح- قيمة إقرار مرجعية كلية مشتركة بين طرفي التناظر والتخالف، فيقول: "وإذا كان المناظر مخالفاً له في الكّليات التي ينبني عليها النظر في المسألة، فلا يستقيم له الاستعانة به، ولا ينتفع به في مناظرته؛ إذ ما من وجه جزئي في مسألته إلا وهو مَبْني على كُلِّي، وإذا خالف في الكُلّيّ ففي الجزئي المبني عليه أولى، فتقع مخالفته في الجزئي من جهتين، ولا يمكن رجوعها إلى معنى متفق عليه، فالاستعانة مفقودة."
أما ضوابط تأمين الحوار بين المتخالفين: فهي الضوابط التي يسعى الفكر الإسلامي من خلالها إلى بناء الأجواء التربوية والعلمية التي تضمن السير الهادف للحوار بين المتخالفين، نذكر منها:
التزام الأمانة العلمية في التباحث والتحاور؛ إذ يُعَدُّ التزام الأمانة في حياة الفرد والجماعة، مبدأ أخلاقياً عاماً، وواجباً مقدساً عند جميع عقلاء الدنيا، لا يزيغ عنه إلا خائن. ومراعاة الأمانة في محاورة الآخر، صورة من صور تطبيق ذلك المبدأ العام، لذلك كان إخفاء الحقيقة العلمية أو الاحتيال عليها، جريمةَ خيانةٍ لا تغتفر عند جميع العقلاء، واعتداء على ما أمر الله بتبيينه بالكتمان.
ومن هذا المنطلق، يتعين على أطراف الخلاف أن يتمحض قصدهم في طلب الحق، والسعي لإظهاره، مع التخلي المؤقت عن المواقف الفكرية الشخصية، والعمل على طلب الحق أينما كان. والقرآن الكريم يعلمنا هذا التجرد العلمي في مجادلة الآخر، حين خاطب الرسول صلى الله عليه وسلم وهو قمة اليقين والإيمان، بأن يدخل في جدل المخالف بروح موضوعية، يقول تعالى: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ. (سـبأ: 24)
ومن أجل ترسيخ مبدأ التزام الأمانة العلمية، وضمان نزاهة قصد المخالف في البحث الجدليّ، لا بدّ أن يكون هذا المجادل على قدر كبير من المروءة الإنسانية، والتربية الخلقية الإيمانية، حتى يتغلب على هوى نفسه، فيلزم جانب الحق في جداله، ويحرص على طلب الحقيقة، خصوصاً وأن المجادل أثناء مناظرة المخالف ومناقشته، يكون في وضعية نفسية معقدة؛ إذ يكون معرضاً لكل ما قد يصرفه عن ملازمة الأمانة العلمية في طلب الحقيقة العلمية، من: دواعي الاعتداد بالرأي، والتعصب له، والمكابرة، والعناد، وغيرها من نواقض الأمانة العلمية، وخوارم الموضوعية في مناظرة المُخالِف.
وهذا ما جعل أبا حامد الغزالي، يفضل أن تكون المناظرة بين أهل الاختلاف في الخلوة، بدلاً أن تكون في "المحافل وبين أظهر الأكابر والسلاطين،" وعلَّل ذلك بقوله: "فإن الخلوة أجمع للفهم، وأحرى بصفاء الذهن والفكر، ودرك الحق، وفي حضور الجمع ما يحرك دواعي الرياء، ويوجب الحرص على نصرة كل واحد نفسه، محقاً كان أو مبطلاً." وهذا الذي يسمى في علم النفس تأثير العقل الجمعي، الذي لا يساعد على ضبط النفس، ورزانة الرأي.
وعلى أساس هذا الضابط، دعا القرآن الكريم المخالفين إلى الحوار، قال الله تعالى: قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ. (سـبأ: 46)
فالحوار حين يجري: مثنى، وفرادى، وأعداداً متقاربة، يكون أدعى إلى استجماع الفكر والرأي، كما أنه يساعد المخطئ على أن يرجع إلى الحق، ويتنازل عمّا هو فيه من الباطل أو المشتبه، بخلاف الحال أمام الناس؛ فقد يعزّ عليه التسليم والاعتراف بالخطأ أمام مُؤيِّديه أو مُخالفيه. لذلك بات من اللازم أن يتسلح المجادل برصيد تربوي خلقي، قبل الرصيد المعرفي والمنهجي؛ ليتمكن من الصمود أمام العواصف النفسية، التي تحاول أن تعصف بأمانته العلمية، وإخلاصه في مقصده.
والتزام الأمانة العلمية في الجدل الخلافي، لم يكن موضع إشكال عند الصحابة -ضوان الله عليهم- والأئمة المجتهدين من بعدهم، فقد ضربوا أروع الأمثلة في التجرد في طلب وجه الحق والصواب، في محاورة مخالفيهم من أهل الكتاب وسواهم، سيراً على المنهج النبوي في محاورة الآخر، فزادهم ذلك قوة في العلم، وهيبة عند الناس، ونشراً لدعوة الإسلام.
وقد كان شعار منهجهم، ما أعلنه أبو حنيفة -رحمه الله- حين قال: "هذا رأي النعمان ابن ثابت -يعني نفسه- وهو أحسن ما قدرنا عليه، فمن جاء بأحسن منه فهو أولى بالصواب." وجاء الشافعي بعده ليقول: "ما ناظرت أحدا فأحببت أن يخطئ، وما في قلبي من علم، إلا وددت أنه عند كل أحد، ولا ينسب إليّ."
وتظهر صعوبة التقيد بالأمانة العلمية في الجدل، حينما نكون أمام متجادلين مقلدين، قيدوا أنفسهم وألزموها بمعارف ومذاهب مسبقة، وهم غير مستعدين للتنازل عنها في كل الأحوال، فعلى مستوى الخلاف الداخلي أعلنها صراحة أبو الحسن الكرخي (ت 340ﻫ) حين قال قولته الشهيرة: "إن كل آية تخالف قول أصحابنا، فإنها تحمل على النَّسخ أو على الترجيح، والأولى أن تحمل على التأويل من جهة التوفيق."
وفي مثل هذه الحالة يتعذر التزام الموضوعية، ومراعاة الأمانة العلمية في البحث الجدلي، ويغيب الاستعداد لتقبل وجهة نظر الآخر، على أساس القاعدة الذهبية الشهيرة: "رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب." وينفتح باب العناد والتعصب، وهو المنزلق الذي حذر منه الشاطبي-رحمه الله- حين قال: "إن اعتياد الاستدلال لمذهب واحد، ربما يكسب الطالب نفوراً وإنكاراً لمذهب غيره، من غير اطّلاع على مأخذه، فيورث ذلك حزازة في الاعتقاد في الأئمة، الذين أجمع الناس على فضلهم وتقدمهم في الدين."
ومن يستقرئ تاريخ الإسلام الحضاري، يخلص إلى أن الإسلام انتشر بالحوار والدعوة، لا بالمواجهة والقتال، وإنما شُرعت حالات خاصة للقتال؛ لتقرير حرية الاختيار، وتمهيد سبيل الحوار، وتوفير مناخ الاقتناع.
إنصاف المخالف واحترامه؛ إذ تتحدد العلاقة التي تربط بين المتجادلين –في بعدها الإجمالي– في التعاون من أجل الوصول إلى الحقيقة العلمية، في جوّ من العدالة والإنصاف، وإنْ كان ذلك على طريقة التدافع والتنافي بينهما. ومما يساعد على ذلك وجود أرضية مشتركة بين المتجادلين، تتمثل في: وحدة المرجعية على مستوى أصول الاستدلال، والاحتجاج، والاعتراض، وكذلك وحدة المقصد العام من المحاورة.
وعلاقة الإنصاف والاحترام علاقة متبادلة بين الطرفين المتجادلين، ويحرص عليها كل واحد منهما؛ لأنها تقود إلى قبول الحق، والبعد عن الهوى، والانتصار للنفس. أما انتقاص الرجال واحتقارهم، فأمر مَعيب، وغير مقبول في مختلف الثقافات.
أما الإخلال بعلاقة الاحترام والإنصاف -ولو من جانب واحد- فإنه يفقد الحوار شرط استمراره، خصوصا إذا ظهر من المُخِلّ إصرار بعد الإعذار، فهذا الباجي يؤكداً شرطية الإنصاف: "ولا يناظر من لا ينصف من نفسه،" وفي حالة إصرار المناظر على مخالفة قاعدة الإنصاف، يوصي الباجي بالكفّ عن متابعة الجدال، قال: "فإن لم ينته عن ذلك، أعرض عن كلامه، ولم يقابله في أفعاله."
وتتجسد علاقة الإنصاف بين المتجادلين، في جملة من الإجراءات الأخلاقية الواجب اتباعها، والتحلي بها، كالإقبال على الخصم بالوجه، وحُسْن الاستماع لكلامه، من أجل التعاون على النظر، سيما وأن المخالف هنا رفيق معين على طلب الحق، لا خصم معاند، والحرص على عدم مقاطعته في نوبته، وتجنب كل مظاهر العُجْب، والتشنيع على الخصم، مهما كان ضعيفاً؛ لأن ذلك من فعل الضعفاء ومن لا إنصاف عنده.
ورحم الله ابن البنَّاء المراكشي الذي أكد مبدأ الإنصاف بقوله: "وكما تنظر بينك وبين نفسك، تنظر بينك وبين خصمك، بشرط الموافقة على الأصول التي تنظر بها، وإلا لم ينضبط الكلام والنظر، وانفتح باب الشغب والعناد."
التزام حسن الاستدلال: بما أن الهدف الرئيس من محاورة المخالف هو الوصول إلى الحقيقة، التي هي أمانة في عنق كل مخالف، فإن السبيل إلى ذلك ماثل في ملازمة شروط الاستدلال الصحيح، ومنها:
- الحرص على أن يكون الكلام بين المخالفين عن عِلْم وبَيّنَة، قال الباجي: "ولا يكلم على ما لم يقع له العلم به من جهته."
- العناية بمقصود الكلام والغرض المطلوب، وعدم العدول عن ذلك إلى توابع الكلام وحواشيه، وهذا ما قصده الباجي بقوله: "ولا يتكلم إلا على المقصود من كلامه، ولا يتعرض لما لا يقصده مما جرى من خلاله، فإن الكلام على ما لم يقصده عدول عن الغرض المطلوب." ونبه عليه ابن البنّاء بقوله: "ولا تصح العناية إلا بما يحتمله اللفظ."
- الدراسة القبلية الدقيقة للدليل، قبل الاستدلال به وإعماله، تفادياً للوقوع في مشكل الانقطاع، وحرصاً على عدم توظيف إلا صحيح المعرفة، قال الباجي: "ولا يستدل إلا بدليل قد وقف عليه وخبره وامتحنه قبل ذلك، وعرف صحته وسلامته."
- الاجتهاد في اختصار الكلام، وتحاشي الإسهاب، "فإن الزلل مقرون بالإكثار."
أولوية تحديد لغة الحوار: ذلك أن تحديد مدلول المصطلحات المراد استعمالها في موضوع الحوار مع المخالف له أولوية خاصة، لاسيما إذا علمنا أن وتيرة الأداء في المناظرة والجدال، تتوقف – إلى حد بعيد – على التحديد الواضح للمصطلحات المتداولة بين المتناظرين؛ إذ إن تلك المصطلحات لغة التواصل بينهما، وعلى قدر وضوح هذه اللغة وجلائها، تتوقف فائدة الجدال، وثمرة الحوار بين أهل الخلاف. لذلك فإن أي غموض في هذه اللغة المشتركة بين المتناظرين نتيجة عدم تحديد المصطلح، سيؤدي –لا محالة– بالحوار إلى متاهات من النقاش لا طائل من ورائها، فيذهب الجهد والوقت هدراً. ولذلك كان علماؤنا يولون العناية الكبيرة بالقضية الاصطلاحية؛ إذ كانوا يتحدثون عن الحدود قبل أن يتكلموا عن المحدود في مجادلاتهم العلمية، ومؤلفاتهم الجدلية الخلافية.
2. الضوابط التفصيلية
وهي جملة من الإجراءات المنهجية التي تنظّم تفاصيل النقاش بين أطراف الحوار، والخلاف في أهم جوانب الجدل ومراحل المناظرة، وهي ثلاثة أنواع من الضوابط هي: ضوابط الاستدلال، وضوابط السؤال والجواب، وضوابط القدح في الدليل.
فضوابط الاستدلال، في مناظرة الآخر، وصيانته من التناقض والاضطراب، ضمان لسلامة المنهج المتبع في الاستدلال، وصحة ما يترتب عنه من نتائج. ويمكن ضبط العملية الاستدلالية من خلال أمور أربعة:
أولها: ارتباط الاستدلال بمرجعية المستدل: والمقصود بذلك أن يكون الاستدلال تعبيراً عن موقف المُستدِّل واعتقاده؛ لأن كل استدلال لا ينبع من اقتناع صاحبه واعتقاده، وثبت تناقضه مع مذهبه، يُعدّ إخلالاً بقانون الجدل، ويصح الاعتراض عليه بذلك؛ لأنه كما قال الباجي: "لا يجوز أن يثبت الحكم من طريق وهو يعتقد بطلانه." واستدلال المستدِّل بما لا يقول به قد يكون في قضية دينية، كأن يستدل مُلْحِد بآية قرآنية أو حديث نبوي؛ لإفحام الخصم المُسَلِّم في قضية ما، فهذا من الناحية الجدلية استدلال ساقط الاعتبار؛ لأنه استدل بما لا يؤمن به، وقد يكون في مسألة علمية كاستدلال من ينكر إفادة التواتر العلم، بالتواتر في مسألة قطعية، وهو استدلال بما لا يقول به، وهو مردود.
وثانيها: مراعاة مرجعية المخالف في نقض دليله: إذ يستلزم نقض دليل الخصم استعمال طرق النقض التي تصح عنده؛ إذ ليس للمُستدِّل أن ينقض دليل السائل المخالف بما يقول هو به، ولا يقول به السائل، ذلك أن عملية التدافع والتنافي بين الطرفين المختلفين، إنما تجري على أساس منضبط. فإذا، حُقَّ للمخالف -جدلياً- أن يسعى لنقض دليل مخالفه وهدمه، فليس من حَقِّه أن يسعى لذلك بكل وسيلة، بل هو ملزم باتباع خطوات المنهج الجدلي في تدبير الاختلاف، أو الطرق "المسموعة أو الموجهة" كما في اصطلاح أهل المناظرة، ومنها التزام طرق النقض التي تصح عند المخالف، وإلا فكيف يلزم الخصم بنقض لدليله، جاء عن طريق غير مقبولة عنده أصلاً، وذلك كلجوء المسلم إلى نصوص القرآن لنقض قول اليهودي بسلامة التوراة من التحريف، فاليهودي غير ملزم بهذا النقض؛ لأنه لا حجية عنده في نصوص القرآن، فهو لا يؤمن بربانية القرآن أصلاً. ولذلك فالمطلوب من المُستدِّل، أن يبني نقضه على ما يوافق مذهب السائل، ويقول به، وألاّ يكتفي بالنقض من وجهة نظره الخاصة، وبذلك يَصِحّ نقضه، ويُلزِم به الخصم.
وفي مسألة النقض، يجب التمييز بين أمرين: نقض الدليل بما ينفرد به الخصم صاحب الدليل، بمعنى نقضه من داخل نسقه الفكري الخاص، ونقضه بما ينفرد به الناقض، أي ضمن نسقه الفكري الخاص به أيضا، كما في المثال السابق.
فقرر أهل الجدل أن النقض الأول يبطل دليل الخصم، ويوقف الاحتجاج به؛ لأن فيه بيان فساد الدليل على أصلِ مَنْ احتج به، ويترتب على هذا إلزام صاحب الدليل بعدم الاحتجاج بما ظهر فساده على أصله. أما النقض الثاني فلا يصح؛ لأنه اعتراض بوجهة نظر خاصة لا تلزم سوى صاحبها.
وثالثها: منع قَلْب القَلْب: فإذا كان مصطلح القلب عند أهل الجدل يتحدد معناه بقولهم: "القلب مشاركة الخصم للمستدل في دليله،" فإن توظيفه في مجادلة الآخر طعناً في دليله، له حدود يتعين الوقوف عندها، فالدليل إذا اعترض عليه بالقَلْب لا يصح أن يعترض على ذلك القَلْب بقَلْبٍ آخر؛ لأن "القلب نقض، والنقض لا يصح أن يُنقَض." كما أن قَلْب القَلْب لن يؤدي من الناحية الجدلية إلى نتيجة، بل سيعيد النقاش إلى بدايته بعد حالة سقوط الاستدلال، التي يؤول إليها التباحث بسبب قَلْب القَلْب، وهو ما يسمى "النشر والخبط."
ورابعها: منع الخروج عن الموضوع: فمن أوجه ضبط العملية الاستدلالية في مجادلة الآخر، ضرورة التقيد في الاستدلال بأرضية النقاش والحوار، وعدم الخروج عنها إلى ما سواها، وهذا يقتضي الالتزام بعدم الانتقال-في الاستدلال- من دليل إلى آخر دون موجب من السائل؛ لأن ذلك يُعدّ انقطاعاً عند أهل الجدل، لذلك يشترط الباجي في الانتقال، أن يكون مُعلناً في بداية الاستدلال، وإلاّ كان خروجاً عن الموضوع وانقطاعا.
ومن مظاهر الخروج عن الموضوع المؤدي إلى الانقطاع، أن يلجأ المُستدِّل إلى فرض الدلالة في غير شعبة من شعب المسألة: موضوع النقاش، أو أن يبني المسألة على غيرها مع اختلاف طرقها، إلى غير ذلك من مظاهر الانقطاع.
ومن خلال القضايا السابقة تتبين أهمية ضبط العملية الاستدلالية، وتقنينها أثناء مجادلة المخالف، وذلك من أجل تفادي الفوضى في الاستدلال، وبناء أصول ثابتة موحدة للاحتكام إليها.
ضوابط السؤال والجواب:
إذا كان السؤال والجواب هما العملية التي يدار بها الحوار العلمي في قضايا الخلاف، فإن ضبط هذه العملية وترتيبها وفق أولوية منهجية جدلية، يتمّ من خلال عدد من الخطوات:
الخطوة الأولى: معرفة مذهب المخالف: فأول ما ينبغي البدء به في الحوار، البحث عن موقف الخصم ومذهبه في المسألة – موضوع النقاش – فلا يستوي الحوار على سُوقِه بين المختلفين، إلا إذا عرف كل طرف -مسبقاً- وجهة نظر نظيره في الموضوع. والوسيلة الجدلية المتبعة في الكشف عن مذهب الخصم، مساءلته مباشرة عن إظهار مذهبه في موضوع الخلاف، وفي حالة تعدد آراء مرجعيته في الموضوع، يطالب ببيان اختياره من تلك الآراء.
ويتعين على السائل -في بيان مراده من السؤال- التزام الوضوح في العبارة، وتحاشي الإجمال والإبهام، وتجنب السؤال عما لا يشتبه على عاقل، وإطلاق السؤال فيما فيه تفصيل، كالسؤال: هل المجتمعات الغربية تعادي الإسلام؟ فالجواب فيه تفصيل كما هو معلوم، إلى غيرها من ضوابط السؤال.
غير أن الباجي لا يرى مانعاً من السؤال عمّا فيه تفصيل عند المسؤول بإطلاق؛ لأن للمسؤول في هذه الحالة الخيار في أن يجيب مباشرة، وفق تفصيله وتقسيمه، أو يطالب بتدقيق السؤال، وتعيين القسم المقصود، بعد ذلك يصبح ِلزاماً على المسؤول، أن يرتب للسؤال جوابه، بالإعلان عن مذهبه، وبيان اختياره، ويسلك في ذلك مسلك الوضوح.
ويرى إمام الحرمين أن مما يطعن في جواب المسؤول المُناظِر، أن يأتي عامّاً في مورد سؤال ملخص في موضع النـزاع، كأن يسأل المسلم عن موقف الإسلام من حرية المعتقد، فيجيب ببيان سماحة الإسلام وسمو مبادئه.
الخطوة الثانية: هي البحث عن دليل الخصم: فالبحث عن الدليل الذي استند إليه الخصم في ما ذهب إليه، مرحلة غاية في الأهمية، تصب في اتجاه استكمال جوانب أرضية النقاش؛ فبالدليل يتميز القول الساقط من القول المعتبر. وقد علّمنا القرآن الكريم أن نتحاكم مع المخالف -في محاورتنا- إلى الدليل والبرهان، مصداقاً لقول الله تعالى في أكثر من سورة: قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، (البقرة: 111، النمل: 64) وقوله سبحانه: قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي، (الأنبياء:24) وقوله عز وجل: قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. (آل عمران: 93)
وانطلاقاً من هذا التوجيه القرآني، صاغ علماؤنا القاعدة الحوارية المشهورة: "إنْ كنت ناقلاً فالصحة، وإنْ كنت مدَّعيّاً فالدليل." ومن الناحية الجدلية، فإن للمستدِّل أن يختار بين أن يدل على صحة قوله، وأن يدل على فساد قول خصمه، وكلا الأمرين جائز.
والخطوة الثالثة: هي البحث عن وجه الدلالة: ليكتمل بذلك بناء شروط البحث الجدلي، ومقدماته الأولية. غير أنه لا يتصور اللجوء إلى هذا الإجراء الجدلي، إلا في حالة غموض وجه دليل الخصم، وذلك كاستدلال المخالف على دعوة الإسلام للإرهاب بقول الله تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ. (الأنفال: 60)
فوجه الدليل في هذا الاستدلال يحتاج إلى من يكشف عنه، ولذلك حَسُن السؤال عنه، حتى يتبين المسؤول أنَّ وجْهَ الدليل هنا لا يخدم غرض الاستدلال؛ إذ المقصود الأمرُ بإعداد القوة الردعية، وليس المعنى المتداول الآن -سياسياً وإعلامياً- للإرهاب. ومراعاة منطق الترتيب بين الأسئلة الجدلية السابقة وتسلسلها، أمرٌ لازم إجمالا، غير أن ذلك لا ينفي إمكان وجود حالات خاصة، قد يستغني فيها المناظر الجدلي عن خطوة من تلك الخطوات بحسب الموجب؛ لأن كل خطوة إنما يتم اللجوء إليها، عندما يقتضيها سياق البحث والجدل، ومعرفة السائل -مثلاً- لمرجعية مُخالِفه، تعفيه من خطوات البحث عن إثباته، كما أن وضوح وجه الدلالة في دليل الخصم يغني السائل عن السؤال عنه، وهكذا.
وذهب الجويني في تأكيد هذا المعنى، إلى أن جمهور أهل النظر، على أن "السائل إن كان عالما بمذهب المسؤول، وكان مذهبه مشهوراً عنده -لا شك فيه- كان له أن يبتدئ بالسؤال عن الدلالة، وإذا كان يعلم أن دليله في ذلك المذهب أمر معلوم لا يتعداه كان له الطعن ابتداء في دلالته."
ضوابط القدح في الدليل:
تمثل ضوابط القدح في الدليل، المرحلة الفكرية التي يتفاعل فيها النقاش الجدلي، بحيث يصبح تركيز البحث فيها على عملية التصحيح والتحرير، لِمَا تَمَّ إثباته في المرحلة التمهيدية السابقة (ضوابط السؤال والجواب)، مع اختبار مدى إمكانية قيام ذلك، دليلاً معتبراً يعتمد في إنتاج المعرفة الصحيحة، ويتم ذلك من خلال القوادح التالية:
القادح الأول هو المطالبة؛ إذ تشكل المطالبة الحلقة الأولى في سلسلة وجوه القدح في الدليل، وذلك ضمن السياق العام لعملية التصحيح والاختبار لدليل المُخالِف. وقد عرّف الجويني المطالبة بأنها: "مؤاخذة الخصم بتبيين حجته،" بينما عدَل الباجي عن تعريفها تعريفاً مجرداً عاماً، واكتفى -في تعريفها- بذكر وجوهها وأنواعها، وقال: "فأما المطالبة: فهي المطالبة بتصحيح الأخبار، وإثبات أسانيدها، والمطالبة بتصحيح الإجمال وإثباته، والمطالبة بإيجاد العلة وتصحيحها، وغير ذلك من وجوه المطالبات. فلئن تحدث علماؤنا عن المطالبة وغيرها من القواعد الجدلية في سياق أصولي، فمن باب ارتباط المنهج بالموضوع، وإلا فهذه القواعد الجدلية تمثل منهج تدبير الخلاف بصفة عامة، سواء كان خلافاً داخلياً أو خارجياً.
أما الوظيفة الجدلية لقادح المطالبة، فتتمثل في ناحيتين: الناحية السلبية: وفيها يمنع ما استدَلّ به المُستَدِِل من أن يدخل ضمن الأدلة، وهي الحالة التي يكون فيها استدلال المستدِلّ عاجزاً عن الصمود أمام وجوه المطالبة التي تَرِدُ عليه. والناحية الثانية هي الناحية الإيجابية: وهي الحالة التي يسلم فيها ما استدل به المُستدِل من وجوه المطالبة، ويدخل في جملة الأدلة، في انتظار بحث سلامته من قوادح أخرى جدلية.
والقادح الثاني هو الاعتراض، وللاعتراض معنيان: أحدهما عام، والآخر خاص. أما المعنى العام، فهو كل ما يقدح به في دليل الخصم من أوجه القدح، ويدخل في ذلك المطالبة والاعتراض - بمعناه الخاص– والمعارضة. أما المعنى الخاص للاعتراض –وهو المقصود في هذا المطلب– فهو أحد وجوه القدح الثلاثة، الذي يمثل المرحلة الفكرية الجدلية الثانية بعد مرحلة المطالبة في منهج تدبير الاختلاف، من أجل تحرير الدليل، وبناء المعرفة الصحيحة.
ويتأكد هذا المعنى الخاص للاعتراض، من خلال تقسيم الباجي وجوه القدح في الدليل إلى: مطالبة، واعتراض، ومعارضة في غير ما مناسبة، ويميز كل وجه من تلك الوجوه عن غيرها، ونراه يقول في شأن الاعتراض: "وأما الاعتراض فهو الاعتراض في نفس الدليل بما يبطله."
وتأسيساً على المفهوم الخاص للاعتراض، يمكن القول: إنَّ قادح الاعتراض، وسيلةٌ جدلية تصلح للدفع لا للإثبات، بمعنى أن الواجهة التي يوظف فيها الاعتراض واجهة سلبية، تتمثل في إبطال دليل الخصم، ووقف الاستدلال به. وبناءً على ذلك، لا يعد الاعتراض دليلاً مستقلاً يُعتمد عليه في إثبات الأحكام، وهذا ما تؤكده عبارة الباجي السابقة: "الاعتراض في نفس الدليل بما يبطله." والواجب جدلياً على المُستدِّل أمام كل اعتراض من الاعتراضات التي ترد على استدلاله، أن يجتهد في رَدّهِا وإبطالها؛ ليسلم له دليله، ويخرج من محطة الاعتراض دليلاً صحيحاً؛ ليمر إلى آخر محطة جدلية؛ لاختبار مدى سلامته من قادح آخر.
والقادح الثالث هو المعارضة: ويُعد هذا القادح آخر محطة فكرية جدلية من محطات تدبير الاختلاف، ضمن إطار البحث عن المعرفة الصحيحة بين المتناظرين المختلفين، وذلك بعد محطتي المطالبة والاعتراض السابقتين. ويتحدد مفهوم المعارضة عند الباجي بقوله: "مقابلة الخصم للمُستدِِل بمثل دليله، أو بما هو أقوى منه،" ويعرّفه الجويني بقوله: "ممانعة الخصم بدعوى المساواة، أو مساواة الخصم في دعوى الدلالة."
فإذا كان الجويني يربط المعارضة بالمناقضة، ويرى أن بينهما علاقة عموم وخصوص "فكل مناقضة معارضة، وليس كل معارضة مناقضة،" فإن الباجي قدّم لنا الصورة واضحة عن الفعل الجدلي لكلٍ من الناقض والمعارض حين قال: "الناقض لا يثبت حُكْماً من جهته بالنقض، وإنما يبين فساد العلة على أصل من احتج بها، وليس كذلك المعارض، فإنه محتج بما عارض به، مُثبِتٌ به لمذهبه."
وبناءً على ذلك، فإننا نصبح أمام عمليتين فكريتين: إحداهما سلبية ترتبط بدليل الخصم، وتعمل على إثبات عدم صحته؛ لوقف الاستدلال به كما رأينا في الاعتراض. وثنتاهما إيجابية تدفع في اتجاه إثبات موقف علمي، مقابل لموقف الخصم، كما هو حال المعارضة. وإذا كان مناط البحث الجدلي في محطة الاعتراض صحة دليل الخصم، فإن مجرد اللجوء إلى المعارضة، تصبح معه تلك الصحة محل تسليم واعتراف، ويتحول النقاش إلى موضوع البحث عن الدليل الأول بالاعتماد على إنتاج المعرفة.
خاتمة:
في خاتمة هذا البحث، يمكن التأكيد على أنَّ قضية الاختلاف مع الآخر التي كانت مدار هذا البحث، تم تدبيرها في المرجعية الإسلامية بإحكام وفق أصول رصينة، وقواعد مكينة، ينبغي أن تُعزَّز بجهود علمية متواصلة، بحثاً عن أفضل الصيغ التنـزيلية؛ لإدارة الاختلاف مع الآخر الملائمة لأحوال الزمان وأهله.
غير أن الاستيعاب الجيد لقضية الاختلاف مع الآخر فكرياً وعقدياً، والقدرة على حُسْن تدبيرها، يتوقفان على فهم القضية في بعديها التكويني والتشريعي، وذلك بالنظر إلى الاختلاف من حيث هو مقتضى الإرادة الإلهية الكونية من جهة، ومن حيث كونه موضوعاً للتكليف الشرعي بحُسْن التدبير والإدارة، بمقتضى الإرادة الإلهية التشريعية من جهة أخرى. فالخلط بين البعدين، أو تغليب الجانب التشريعي على الجانب التكويني، يفضي حتماً إلى سوء تدبير الاختلاف، بإنكار الآخر وحمله على ما يكره، كما يحدث الآن بين الكثيرين، فما أحوجنا إلى دراسة تفصيلية مقاصدية، تعالج الموضوع وفق ثنائية القصد الكوني والقصد الشرعي.
واتضح من خلال هذه الدراسة، أن القرآن الكريم قدّم لنا منهجاً متكاملاً حيوياً في تدبير الخلاف مع الآخر، فأرسى القواعد والأسس، وقدم نماذج تطبيقية رائعة في إدارة الخلاف بين أنبياء الله ورسله. وقدمت لنا السيرة النبوية صوراً رائعة في تدبير الخلاف مع الآخر، يستطيع المسلمون وغيرهم أن يتخذوها دليلاً لهم في إدارة مختلف القضايا الخلافية. وأظهرت الدراسة أن علماءنا في الأصول، والكلام، والجدل، استطاعوا أن يؤسسوا منهجاً علمياً تفصيلياً لتدبير الخلاف، ضمن المنهج العام الذي رسمه القرآن وفصّلته السُّنة. كما تبين لنا أن المنهج الجدلي الأصولي منهجٌ علمي حيوي، يصلح تطبيقه في أي مجال من مجالات الخلاف المعرفي، مثلما صَلُح تطبيقه في إدارة الخلاف على مستوى الفقه، والأصول، والكلام. وتبين لنا -كذلك- أن الجدل الخلافي إذا ما قيدناه بضوابطه بالصورة التي قدمنا، نستطيع أن نوظفه في توجيه محاوراتنا، وإدارة اختلافاتنا بنجاح، وذلك بنقل العلاقة بين أطراف الخلاف من علاقة صراع إلى علاقة حوار وتعاون. وبامتلاكنا للمنهج الإسلامي الأصيل في تدبير الاختلاف الفكري، وبتشبعنا إياه، نتأهل بامتياز لمحاورة مختلف الثقافات والحضارات، وقيادة أهلها للتعاون في بناء المشترك الإنساني، وتمحيص المعرفة الإنسانية.



المصدر:
http://www.eiiit.org/resources/eiiit.asp