كرسي
( قصة بقلم : محمد صالح رجب )

في محطة توقف فيها قطار الزمن .. أخلد إلى نفسه .. إنه لا يذكر انه توقف يوما ما في أي من محطاته.. راح يلتقط أنفاسه.. شعر أن العمر يتفلت من بين يديه .
نظر إلى ذلك الكرسي القابع خلف ذلك المكتب الكبير في أقصى الغرفة .. إنه لا زال على حاله ، بذات العجلات التي تدور فتعطي وجها عند الإقبال وآخر عند الإدبار ،اقترب منه شيئا فشيئا .. راحت أنامله تعبث بجلده الحالك السواد بينما عيناه التي ألفت تفاصيله راحت تمسحه من جديد كما لو كانت تسجل لقطات للذكرى ..
نبش في الذاكرة .. عاد إلى الماضي ..لقد أسره منذ اللحظة الأولى التي وطأت قدماه هذه المصلحة ، كان يسير في ذات الردهة الطويلة المؤدية إلى مكتب المدير ، يتخيل نفسه وهو يتلقى التحية ، يمشي منتفخا مزهوا ، حتى إذا ما دخل إلى المكتب اصطدم بواقعه ، أطرق برأسه مرتديا قناع التواضع .. وعيناه تحاول عبثا تفحصه ، فضخامة المدير وتمكنه منه يحول بينه وبين ذلك .. يحصل على التأشيرة المطلوبة ويعود أدراجه أكثر تشبثا بحلمه ..
عندما جلس على هذا الكرسي لأول مرة ، أغلق عليه المكتب وراح يحتفل مع نفسه على طريقته الخاصة .. تارة يدور بالكرسي كطفل يلهو ، وتارة أخرى يحتضنه ويقبله بهوس ، وبين الحين والحين يلقى نظرة على الباب خشية أن يتهم بالجنون ..الدنيا لم تعد تسعه .. لقد تحقق حلمه ..صيحة قوية مكبوتة بداخله يريد أن يطلقها بأعلى صوته ، ثم ما يلبث أن يجهضها سريعا ، فتخرج مكتومة مصحوبة بحركة عصبية متشنجة .. طرقات على الباب أوقفت طقوسه الاحتفالية.. عدل من نفسه ، ارتدى سريعا قناع الجدية ، ووقف منتشيا في شموخ يتلقى تهاني المرؤسيين.. حتى إذا ما فرغوا جاءت كلماته قوية في مستهل خطاب العرش.. لن أسمح .. سأضرب بيد من حديد .. لقد ولى زمن .. الحقبة غير الحقبة ، أنا غير من كان ..أنا الآن على عرش المصلحة .. وفي حين كانت عيناه تلتقط إشارات الخوف والولاء ..كان لسان حاله يردد أنا ربكم الأعلى..
لقد خلف إرثا ثقيلا يصعب نسيانه ـ هكذا همس لنفسه ـ شعر بحرارة دموعه التي نادرا ما غلبته ، انتبه إلى طرقات على الباب .. لملم نفسه سريعا ، لم يكن في حاجة لارتداء أي من الأقنعة .. فقد زالت جميعها .. نهض عن الكرسي في انكسار ، راح يتقبل شماتة المرؤوسين ، بينما كانت عيناه تلتقط إشارات الفرح برحيله .
( تمت )
محمد صالح رجب