كذا بدأ عزوفي عن سماع الأغنيات.
كنت وأخي أبي هشام
Muhammad Mughrabi
في ربيع سنة 2011 ميلادية عاكفين على تصحيح النسخة المنضدة من ديوان ابن الدمينة بتحقيق الوالد العلامة، تلك التي نعدها للطبع القريب بإذن الله.
وكان لي بضع حصص أدرّسها بمدرسة شرعية في إحدى ضواحي دمشق.
وعادتنا في تلك المدرسة كانت أن ننزل بعيد انتهاء الحصة الأخيرة إلى المسجد لنؤدي فريضة الظهر ، ثم ننصرف كلٌُّ إلى بيته.
ولجت المسجد كعادتي، وخلعت معطفي وقد وضعت جهاز المحمول في جيبه الداخلي، وجعلته أمامي مكوَّماً كيفما اتفق.
دخلت الصلاة كما دخل من في المسجد جميعاً، ولما أن وصلنا التشهد الأخير لمحت هزة في معطفي فاضطرب قلبي، ثم تبعها ارتفاع صوت الشيخة إليسا (بتمون عا ضحكي أنا بتمون ... بتمون عا الدمع وإلك بتمون).
غبت بين الشيء واللاشيء، أسرعت بحركات الصلاة المعدودة لأخرج المحمول فلم يتيسر لي، إذ غاب في الجيب الداخلي البعيد، ولم أشأ أن تضيع صلاتي كما ضاعت هيبتي بصوت رنته.
لحظات رأيتني فيها بين مقامع من حديد، وزادتني ضحكات الطلاب المكتومة بجانبي ، تلك التي يسعون جاهدين لكتمانها خجلاً على خجلي.
ذكرت بين حمم النيران التي رأيتني غائصاً في تقلباتها أنني واعدت صديقي أبا هشام على الاتصال في الساعة الواحدة ، ولم يفعل الرجل سوى أن نفّذ العدة كما اتفقنا ، غيرَ دارٍ ما ما حلّ بي جراءها.
راح صوت إليسا المتردد في جنبات المسجد الذي لم يتردد فيه يوماً غير أذان الصلاة والأذكار وآيات كتاب الله ، راح يضرب على قلبي في كل كلمة تقولها كما تضرب مسامير صلب محمّاة في جسد مهزول خلال حر ظهيرة قائظ.
سلّم الإمام أخيراً فسلّم قلبي من أن يذبَح في آخر لحظاته، أسرعت إلى المعطف فانتزعت محمولي من بين تضاعيفه وأغلقته تماماً، وأنا أكاد أدفن وجهي في صدريوحجري خجلاً.
وأسرع شقيق أستاذنا أبوعبدالرحمن حسان وهو المسؤول عن طلبة المدرسة إلى المصوِّت موبِّخاً بل مقرِّعاً من ترك جهاز محموله في وضع الصوت المرتفع، ولا أعلم إن خطر باله أن صاحب الفعلة النكراء مدرس لا طالب، أو أنه أنا شخصياً.
لم تبق قطرة من لعاب في حلقي، فقمت وقد بت تمثالاً من شمع غشيه اللهب ألملم أشيائي وأسرع إلى بيتي من الباب الخلفي للمسجد متوارياً.
غيرت نغمات جوالي جميعاً من يومئذ، وباتت نفسي تنفر من سماعها شيئاً فشيئاً، وكلما ذكرت الموقف اهتزت روحي داخل جسمي، وغشيني من الخجل ما غشيتي، حتى رأيتني غارقاً في بئر ما له من قرار.