نقد العقل العربي ( قضية للنقاش )


--------------------------------------------------------------------------------



أعرض فيما يلي جزءًا من قراءة في كتاب ( نقد العقل العربي ) لمحمد الجابري ، يليها دراسة نقدية للكتاب ، وهي بعنوان ( نقد نقد العقل العربي )
أرجو من الجميع الإدلاء بدلوه في هذا الموضوع لأهميته ( في تصوري )
ولكم جزيل الشكر سلفًا


قراءة في كتاب : نقد العقل العربي
لمحمد عابد الجابري
إعداد : أحمد السيد

بنية العقل العربي
ما هو ( العقل العربي ) ؟؟
يخصص الجابري ثلاثة فصول أولى من كتابه لتحديد ما يقصده بـ( العقل العربي ) ، فهو يستبعد ( العقل الإسلامي ) لأن هناك علماء مسلمين غير عرب لهم نتاج ضخم مكتوب بلغتهم أي من داخل ثقافتهم وعقلهم هم وليس من داخل ( العقل العربي ) الذي تشكل اللغة العربية إحدى أهم أساساته . ويستبعد كتابات المستشرقين عن التراث العربي لأنهم كتبوها وفق مفاهيم وعقل غربي ويصفها بأنها ليست أكثر من "وجهة نظر" غير عربية في الثقافة العربية .
يقصد الجابري بالعقل العربي العقل الذي تشكل داخل الثقافة العربية وبها وطورها وطورته .
العقل هو أداة ذات بنية ( عناصر مركبة ) مثلما الفأس أداة ذات بنية مركبة من خشب وحديد ، ويأخذ العقل أهميته وماهيته من عمله وهو التفكير مثلما الفأس تأخذ أهميتها وماهيتها من عملها وهو القطع .
وكل فأس حتما سبق أن شاركت في صناعتها فأس أخرى وستكون هي عنصرا من ( بنية ) فأس أخرى فكذلك العقل شارك في تكوينه وبنيته عقل سبقه وسيكون هو عنصرا في تكوين عقل لاحق بعده .
فالعقل بهذا المعنى هو مجموعة المفاهيم والتصورات التي تمنحها ثقافة ما لأبنائها في فترة ما وستكون هذه المفاهيم والتصورات تحكم نظرة أبناء الأمة إلى العلم والكون والعالم والله ، وستنتج علوما ومعارف ستكون فيما بعد عنصرا ثابتا في تكوين عقل أجيال لاحقة وهكذا .
العقل يتشكل باستمرار وليس ثابتا . ومن هنا فالجابري بهذا المعنى يريد أن يقول أن العقل العربي يمكن تغييره وتطويره ليستطيع مواصلة دوره ، وهنا أهمية الكتاب .
العقل العربي ذاته يجب أن يتغير .
وحتى نتمكن من تغييره لا بد من الكشف عن أسسه وأصوله منذ أن تكوّن .
فمتى تكون العقل العربي ؟
من العصر الجاهلي أم من ظهور الإسلام أم من العصر الحديث ؟
أين النقطة التي يمكن القول أن عندها بدأ العقل العربي في التكون ؟
يختار الجابري نقطة بداية غير العصر الجاهلي وغير ظهور الإسلام وغير بداية عصر النهضة .
يختار الجابري عصر التدوين ( من منتصف القرن الثاني الهجري إلى منتصف القرن الثالث الهجري ) .
أما لماذا اختار الجابري هذه البداية فسيكون موضع المشاركة القادمة .
" قال الذهبي : في سنة 143 شرع علماء الإسلام في هذا العصر في تدوين الحديث والفقه والتفسير فصنف ابن جريح بمكة ومالك الموطأ بالمدينة والأوزاعي بالشام وابن أبي عروبة وحماد بن سلمة بالبصرة ومعمر باليمن وسفيان الثوري بالكوفة وصنف ابن اسحاق المغازي وصنف أبو حنيفة رحمه الله الفقه والرأي .... وكثر تدوين العلم وتبويبه .. وقبل هذا العصر كان الناس يتكلمون من حفظهم أو يروون العلم من صحف صحيحة غير مرتبة " .
يستخلص الجابري من هذا النص ما يلي :
ـ تحديد فترة بدء التدوين بإشراف الدولة وتحريضها ( أيام الخليفة العباسي المنصور ) .
ـ أن عبارة ( تدوين العلم وتبويبه ) تعني أن العلم كان موجودا وعلى العالِم فقط تدوينه وتصنيفه .
ـ تدوين العلم وتبويبه لا يمكن أن يتم بدون حذف وتعديل وتصحيح وتقديم وتأخير ، بمعنى أن التدوين والتبويب صار عملية إعادة الموروث ليكون تراثا ، ليكون إطارا مرجعيا لنظرة العربي إلى الكون والإنسان والمجتمع والتاريخ .
إن الحذف والتعديل والتصحيح والتقديم والتأخير ليست من العلم الموجود ولكنها من عمليات ( الرأي ) عمليات العقل العربي .
ـ النص يسكت عمدا عن بدء التدوين لدى الشيعة ( كان هناك تسابق بين الشيعة والسنة في تاريخ بدء تدوينهما لعلميهما ) ، وهو سكوت يفسره مرجعية السلطة التي ينتمي لها صاحب النص وهي السلطة التي تجدد الحقل المعرفي الأيدلوجي لأهل السنة كافة
- السكوت عن ( العلم الشيعي ) كان من الشروط الموضوعية التي حددت وأطرت صحة ( العلم السني ) والعكس صحيح كذلك ..
ـ النص يسكت عمدا عن بدء تدوين ( علم الكلام و علوم الأوائل = الفلسفة ) لأنهما لا يدخلان ضمن ( العلم السني ( .
ــ سكت النص عمدا عن التدوين في ( السياسة ) ككتب ابن المقفع وهو معارض سياسي للسلطة السنية التي قتلته فيما بعد .
وينقل الجابري عن علماء الحديث هذه العبارة :
" قولنا حديث صحيح لا يعني أنه صحيح على وجه القطع ، بل يعني أنه صح على شروطنا ، كما أن قولنا حديث غير صحيح لا يعني الجزم بعدم صحته ، فهو قد يكون صحيحا في الواقع ولكنه لم يصح على شروطنا "
وإذا طبقنا هذا على التفسير والفقه واللغة والتاريخ لأن المشتغلين بهذه العلوم اعتمدوا نفس طريقة أهل الحديث المعتمدة على الرواية والإسناد لأمكن القول : " إن الموروث الثقافي العربي الإسلامي الذي تناقلته الأجيال منذ عصر التدوين ليس صحيحا على وجه القطع ، بل هو صحيح فقط على شروط أهل العلم ، الشروط التي وضعها وخضع لها المحدثون والفقهاء والمفسرون والنحاة الذين عاشوا في عصر التدوين ما بين منتصف القرن الثاني ومنتصف القرن الثالث للهجرة " .
ويؤكد المؤلف أنه لا يقصد وضع التراث العبي الإسلامي موضع الشك ، وإنما يقصد إلى إبراز أن تلك ( الشروط ) لم تكن جزءا من العلم = المرويات ، بل كانت من عمل الرأي ، أي العقل ، عمله الأول . وبما أنها ما زالت سارية إلى اليوم داخل الثقافة العربية ، على الأقل كنقط استناد رئيسية فهي تشكل الإطار أو القسم الرئيسي والأساسي للإطار المرجعي لفكر العربي منذ عصر التدوين إلى اليوم .
ما الذي تغير منذ أكثر من ألف عام ؟؟؟؟

خاتمة القسم الأول من كتاب ( تكوين العقل العربي )
يلخص الجابري نتائج الفصل الأول بالتأكيد على :
العقل العربي : جملة المفاهيم والفعاليات الذهنية التي تحكم رؤية الإنسان العربي إلى الأشياء وطريقة تعامله معها في إنتاج المعرفة وإعادة إنتاجها .
الإنسان العربي : الفرد الذي تشكل عقله وترعرع وتقولب داخل الثقافة العربية التي شكلت إطاره المرجعي الرئيسي أو الوحيد .
الثقافة العربية : وهي العقل العربي ذاته ( في إنتاجه وفي ممارسة التعلم والتفكير والتعليم ) إنما تشكلت في عصر التدوين ، وما زالت تعيش نفس العقل ، فالزمن الثقافي العربي راكد منذ عصر التدوين إلى اليوم ، ولذلك فالفرد العربي اليوم لا يجد نفسه ولا يشعر بالاستقرار إلا باستغراقه في ذلك الزمن ولانقطاعه له دون أي شعور بالبعد الزمني أو أي شعور بالغربة رغم طول الفترة .
ولأن القسم الأول من الكتاب كان مخصصا لتحديد ما يقصده الجابري ( بالعقل العربي ) فقد ختمه بعبارة موجزة تلخص كل ما سبق وهي : " العقل العربي هو البنية الذهنية الثاوية في الثقافة العربية كما تشكلت في عصر التدوين "

ويعدنا الجابري أنه في الأقسام التالية من الكتاب سيرتفع بتلك العبارة إلى مستوى الحقيقة العلمية عن طريق التحليل الملموس للواقع الملموس . .

وأختم أنا بالتأكيد على أن كل ما تقدم هنا هو لتعريف العقل العربي . أما كيف تكوّن هذا العقل فأسأل الله أن يعينني على عرض بقية أقسام الكتاب .


موسوعة نقد نقد العقل العربي
إشكاليات العقل العربي ( 4 )
د.عبد الرزاق عيد
وتأسيسا على ذلك يبدأ بالتشكيك بمرجعية الجابري لا على مستوى درجة التمثل بل على مستوى التوثيق للشاهد كما مر معنا، حيث يشكك إن كان الجابري قد رجع فعلا إلى كتاب (اللغة والمعرفة) لآدم شاف، وذلك لأن الجابري يقوِّل شاف ما لم يقله، وما لا يمكن منهجيا ومعرفيا أن يقوله كمفكر ماركسي يلتزم بفكرة الوجود الموضوعي للعالم أن يقول: (إن اللغة التي تحدد قدرتنا على الكلام هي نفسها التي تحدد قدرتنا على التفكير)، فواضح أن هذه الأطروحة هي عكس مرام شاف كماركسي ينطلق من نظرية الانعكاس، وهو نفسه الذي يحذر من أن يفهم من قبل أصحاب نظرية الحقل اللغوي وفرضية سابير وورف، كما فهمه الجابري، عندما يستخدم كلمة (تؤثر) محل كلمة (تحدد قدرتنا على التفكير).
وهكذا سيبرهن على أن الجابري لم يعرف هردر إلا عن طريق شاف، وأن القول بأن ليس للإنسان من عالم سوى العالم الذي تقدمه له لغته، هو قول فختوي وليس هردرياً، وفي كل الأحوال فمن الممتنع منطقيا، أن يكون الجابري نصيرا لدعوى تبعية العقل للغته الخاصة، ثم يظل يمارس نقده للعقل العربي باسم العقل الكوني.
يقوم جورج برحلة باهرة في تاريخ علم اللغة من حسن حظ الثقافة العربية ليبرهن أن الجابري لم تتجاوز معارفه لنظريات اللغة هردر وهمبوليت وسابير 1939م أو عند تلميذه في وورف المتوفى 1941م، رغم إعلان الجابري بأنه سيلتزم التصور العلمي في أقصى مراتبه، في حين أنا لن نرى أية إحالة مرجعية للعلماء المعاصرين لا (بنفنست وشومسكي، ولا مارتينه وغاردنر) ولا حتى سوسور أو بلو مفيلد (ص 124) ورغم ذلك فإن الجابري الذي يستند مرجعيا إلى هردر وهمبولت وسابير المقروئين ثلاثتهم بمنظار آدم شاف، فهؤلاء ثمنوا العربية تثمينا عاليا، على عكس النزعة الهجائية التبخيسية التي تحط اللغة العربية إلى مستوى لغة قبيلة بدائية أو اثنية منعزلة كالأسكيمو، وذلك باختزالها إلى مستوى أنها (لغة صحراوية، أي بدوية) فسابير اعتدها مع السنسكريتية والصينية واليونانية واللاتينية والفرنسية واحدة من كبرى (اللغات والينابيع، في العالم)، وهمبولت لم يقارنها مع لغات القبائل الأمريكية الهندية أو لغة الأسكيمو أو أي قوم بدائي آخر، بل مع (اللغة المثالية) التي كانتها في تصوره اللغة السنسكرتية أو اليونانية، أما هردر فقد تحدث عن (معجزة) العربية (الغنية والجميلة) التي خرجت من الصحراء لتقدم بعد (اليونانية) أنبل أداة للفلسفة والعلوم (ص 133) بهذا الروح السجالي يمضي ناقد النقد ليفند أطروحة الجابري حول علاقة (القطيعة) بين جامعي اللغة العربية وواضعي النحو مع (النص) القرآني ليتحداه بأن يأتي بكلمة واحدة من النص القرآني لم يتضمنها (لسان العرب) رغم أن هذا القاموس من صنع ابن منظور (علامة عصر المختصرات والملخصات) وبالإيقاع ذاته يرد على أطروحة (الفقر الحضاري في اللغة العربية الذي يقابله غنى بدوي يتمثل خاصة في المفردات) (فائض في الألفاظ بالنسبة للمعنى) لكن فقط بالنسبة لعالم البدو دون عالم الحضر، يرد على ذلك بأطروحة المستشرقة الرومانية ناديا انغلسكو، بأن النحو ما كان ليولد إلا في الحضارات التي قامت حول نص مقدس (القرآن) أو شبه مقدس (الفيدا) عند الهنود أول حضارة تنتج النحو.
لا شك أن مرافعة طرابيشي تتمتع بكل المواصفات التي تعطيها التماسك والرسوخ وقوة الإقناع، لكن هل كل هذه البراهين المفككة لأطروحة الجابري التي تمنح القارئ العربي المسلم راحة اليقين لثوابت لغته ودينه التي تثبت صلة النحو واللغة بعلوم القرآن، تنفي فكرة الجابري عن الإعرابي مرجع صناعة اللغة العربية؟ ألم ينتج القرآن نفسه لغة هذا الإعرابي الذي كان يتوجه له، ألم يأت بلسان قومه (قرآنا عربيا) محاكيا للغتهم وثقافتهم الأمية، حيث الشريعة أمية حسب الإمام الشاطبي!؟ أليست هي لغة الاعرابي التي أتاح لها الإسلام العسكري والسياسي أن تتفاعل مع الحضارات والثقافات واللغات الأخرى لتتمثلها حضاريا، حيث يكون القرن الرابع الهجري ذروة الإشباع لممكنها الحضاري، إذ بعده لم يعد هناك ثمة اجتراح لأية مأثرة عقلية حضارية عظيمة، إذا استثنينا ابن خلدون، الذي كان في كل الأحوال شاهدا على انحطاطها والراثي الأكبر لزوالها، وابن رشد الذي كان الطريد الأخير لحضارة هرمت ولم تعد قادرة على تحمل شبابه العقلي؟!
ويختم جورج طرابيشي كتابه بفصل أخيرا تحت عنوان (إشكالية البنية اللاشعورية للعقل العربي) حيث يعرض لمجموعة من المفاهيم التي يتداولها خطاب الجابري لينفي صدقية مرجعيتها مثل تعريف (النظام المعرفي في ثقافة ما هو بنيتها اللاشعورية)، يرى جورج أن هذا التعريف الذي يدعي الجابري استيحاءه من فوكو، إنما هو نقيض للدينامية الأبستمية الفوكوية، وذلك عندما يقرأ الجابري تاريخ الثقافة العربية قراءة لا تاريخية، قراءة سكون وركود وموات، بوصفه تاريخ حركة اعتماد لا حركة نقلة، تاريخ (اجترار ثقافي)، ليخلص إلى أن فوكو لم يستخدم تعبير (البنية اللاشعورية) إذ إن هذا التعبير يعود إلى كلود ليفي ستراوس، لكن الجابري يستخدمه بالعكس أيضا، إذ إن مصطلح اللاشعور عند ستراوس يتداول في المجال الأثنولوجي، حيث تناول ثقافات (الشعوب البدائية الثقافة الشفهية)، بينما تاريخ المجتمعات الكتابية يرصدها المؤرخ من خلال التعابير الواعية، في حين أن الجابري أحل ما هو اثنولوجي: (رصد الشروط اللاواعية للحياة الاجتماعية) عند البدائيين، محل الابستمولوجي الذي يرصد تاريخ الوعي للمجتمعات الكتابية، أي (العقل الواعي) للثقافة الإسلامية.
كما أن ناقد النقد سيأخذ على الجابري توظيفه لمفهوم (اللاشعور المعرفي) المنسوبة أبوته إلى جان بياجه، بالمضادة التامة من منظومة الأطروحات التي صنعت الشهرة العالمية لمؤسس السيكولوجيا والابستمولوجيا التكوينتين، ليتهمه بأنه لم يقرأ بياجه قط (297)، بل إن جهله ببياجيه يصفه ب(الفضيحة المعرفية)، وذلك لأن بياجيه لا يرفض فكرة (مفاهيم لا شعورية) فحسب، بل يجعل أيضا من المفاهيم عنوان الفكر الواعي. ص 307
وفي المآل كشف النقاب عن المديونية المفاهيمية الكاذبة للجابري تجاه فوكو وليفي ستراوس وجان بياجيه.
إن الصرامة التي يصطنعها تحليل طرابيشي لعلاقة الجابري بمرجعياته، وتشكيكه بدرجة التزامه بحرفيتها، (حذو النعل على النعل)، تتيح تساؤلا مضادا: ترى أليست انتقائية الجابري هذه وتوفيقيته أو تلفيقيته: أي توليفه بين مفاهيم عدة في خدمة مصفوفته التي يسعى إلى تنضيدها منهجيا ووظيفيا، هي سر موهبة مشروعه وتألقه، بل وما يمكن أن نقول: سر أصالته التي وفرت لمشروعه كل هذا الانتشار والذيوع؟!


نقد نقد العقل العربي ( 5 )
العقل المستقيل في الاسلام: إقالة نفسه بنفسه أم إقالة الخارج؟
د.عبد الرزاق عيد
لعل الجزء الرابع والأخير (العقل المستقيل في الإسلام) من المشروع الموسوعي من سلسلة (نقد نقد العقل العربي) لجورج طرابيشي هو الذي يطرح السؤال الوظيفي الاجرائي الراهني لمشروع محمد عابد الجابري في نقد العقل العربي، وهو السؤال الذي لا يزال العرب يطرحونه على أنفسهم حتى اليوم ليس على المستوى الفكري والثقافي فحسب، بل وعلى المستوى الاقتصادي والتنموي والسياسي إن كان عالمنا العربي الإسلامي متخلفاً بذاته، أم مخلّفاً بالإكراه من خارجه؟!
هل هو (تخلف) تحل اشكالاته برامج التنمية الاقتصادية والتحديث التقني والاداري، أم هو (تأخر) يستدعي السؤال النهضوي الذي هو سؤال جذري متعدد المحاور والمستويات، يبدأ بالسؤال المعرفي الذي يجعل من العقلانية والحداثة والتنوير أسا ضرورياً لأي تحديث تكنولوجي، على اعتبار أن العلوم التطبيقية والتكنولوجية ليست إلا فرعاً تطبيقياً من شجرة حداثة المعرفة التاريخية الأوروبية، هذا السؤال المعرفي ينعطف عليه السؤال السياسي الذي يستدعي بالضرورة أن التطور التقني والتحديث الاقتصادي غير ممكن في بيئة الاستبداد السياسي، وهو يستدعي بالضرورة أيضاً الحداثة السياسية: الديموقراطية والحريات وحقوق الانسان التي تستند إلى مجتمع مدني سياسي حديث منضد أفقياً سوسيولوجيا: طبقات شرائح نوادي، أي مجتمع يتخطى المجتمع الأهلي العمودي حيث روابط الدم والقرابة والعائلة والعشيرة والطائفة.
هذا السؤال المباطن لتاريخ خروج العرب من التاريخ والدخول في التراث، ظل يمارس ندبه الرثائي مع نداء لسان الكون بالخمول والانقباض بلسان ابن خلدون وحتى يومنا هذا والسؤال المطروح لماذا تأخرنا وتقدم الغرب؟
أي تحليل يسعى لمقاربة هذا السؤال لابد له من أن يلامس مسألة علاقة الخارج بالداخل (الأنا/ الآخر) في تعليل حالة الأفول التاريخي الذي آلت إليه الأمة.
وهنا تأتي مساءلة جورج حول مشروع الجابري في التصدي لهذا السؤال الاشكالي، وذلك لأن مشروع الجابري يؤسس مقاصده الراهنة في التصدي لهذا السؤال، من خلال سيادة ثقافة المؤامرة التي تحكم العقل العربي اليوم، أو في سياق مشروع الجابري: نظرية مؤامرة الخارج (حصان طروادة) الذي تسلل إلى ساحة العقل الاسلامي فزعزعه ودفعه إلى الاستقالة، وذلك من خلال اكتساح جحافل اللامعقول العرفاني من هرمسية وغنوصية وتصوف وتأويل باطني وفلسفة اشراقية وسائر تيارات (الموروث القديم) حيث تشكل كل هذه الروافد (حصان طراودة) الآخر، الذي تسلل مستتراً إلى ساحة العقل العربي الإسلامي ليجندله تحت سنابكه ويدخله في حالة من الغيبوبة التي لم يستفق منها حتى اليوم.
وهكذا يبدأ جورج كتابه بفصل مطول يتناول فيه ظاهرة (الابستمولوجيا الجغرافية) حيث عقلانية الغرب ولا معقولية المشرق، في صيغة علاقة اكتساح تبدأ من (حران) التي تقدم مصدراً مشرقياً غنوصياً لتعليل المآل الانحطاطي للثقافة العربية الاسلامية وتحويلها من (معقولها الديني البياني) إلى (اللامعقول العرفاني) بجميع ضروبه من هرمسية وغنوصية وأفلاطونية محدثة بصيغتها المشرقية، وعلى هذا النحو يكون (منبع اللامعقول خارجياً)، وعلى هذا النحو أيضاً تعطي براءة ذمة للعقل العربي الإسلامي، وبذلك فإن تآكل هذا العقل لا يتم من الداخل وجراء تطور عضوي سالب بل من الخارج...) ص 96
ليخلص جورج إلى أن الأساس في الابستمولوجيا الجغرافية الجابرية هي (تغريب العقل وتشريق اللاعقل) ص 99، وحيث عملية التفاعل بين العقلين هو غزو لا عقل الشرق لعقلانية الغرب بهدف دفعها إلى الاقالة من خارج بنيتها العضوية، حيث من (حران) ينطلق اكتساح العرفان، اذ تبدو حران كجزيرة معزولة عن محيطها، وكأنها مقر سري لهيئة أركان اللامعول الذي من سراديبه ستتسلل العناصر اللامنظورة للعرفان المشرقي لتعزز، كما الطابور الخامس، النظام البياني العربي من داخله، وفق الصياغة المجازية المتهكمة لجورج ص 109 الابستمولوجيا الجغرافية:
وهذه الابستمولوجية الجغرافية ستلحق جائحتها اخوان الصفا الذين يعقد لهم جورج فصلاً من أرقى وأعمق ما كتب عن هذه المجموعة التي استعادها لنا طرابيشي من عالم البرزخ العرفاني وملكوت الكواكب الهرمسية، من جغرافيا لا عقلانية الفلسفة المشرقية والمدرسة الحرانية الذين يتهمهم الجابري بزعامتها قبل أن تؤول هذه الزعامة إلى ابن سينا كما كنا قد توقفنا عند الجزء الثالث (وحدة العقل العربي الإسلامي)، وهكذا على مدى ما يقارب 120 صفحة يقوم ناقد النقد ببحث جدي ودؤوب وعميق وراء كل هذه البداهات المتوارثة والمتداولة عن اخوان الصفا، فاختار من بين كل هذه الركامات أن يصطحب أبا حيان التوحيدي أغرب الغرباء في غربته، بعد أن (أشكل الإنسان على الانسان) على حد تعبير التوحيدي، وأبو حيان التوحيدي هو الأقدر على معرفة مأساة الغرباء، فهو القائل: إن أغرب الغرباء من كان عن نفسه غريباً، فترافق غريبا الدرب أبو حيان وجورج طرابيشي بحثا عن رفاق الغربة، ليقوم جورج بعملية فك أسر أو افتداء هذه المجموعة الأريبة من التصنيفات السهلة والساذجة والبسيطة لاكراههم على الاندراج في تصانيف وانساق العادي والمألوف، ومن ثم ليكتشف دون اسقاط باستشفاف داخلي لعين حاذقة ترى بأن الاسلام الفقهي الذي شكله (فقهاء السوء) حسب تعبير الغزالي، يتكلكل فوق صدر لوعة الروح وهو يتطلع شوقاً إلى الانفتاح على الملكوت، ولعل من أوثق الأدلة وألطفها وأكثرها رهافة، ملاحظته، إن خمسمائة من الآيات الستمائة التي يسوّر بها الاخوان رسالتهم الجامعية هي من المكيات.
والحال أن مكيات القرآن تقوم للتشريع الروحي مقام المدنيات للتشريع المدني ص 385 (فالشريعة طب المرضى، والفلسفة طب الأصحاء، والأنبياء يطببون المرضى حتى لا يتزايد مرضهم، والفلسفة طب الأصحاء..) على حد تعبير اخوان الصفا.
هذه الخلاصة يصل طرابيشي وهو يفكك الابستمولوجيا الجغرافية المشرقية الغنوصية العرفانية التي يطوق بها الجابري لأخوان الصفا بعد أن استجلا من نصوصهم:
أ رؤية كونية تتحلل من خصوصية أحكام الزمان والمكان داخل الشريعة الواحدة.
ب الانفتاح على الشرائع الأخرى.
ج الانفتاح على جميع أشكال التعددية.
د التأكيد على وحدة الأديان حتى وان اختلفت الشرائع.
هـ معارضة التعصب الاطلاقي النزعة من موقع النسبية المتبادلة وقلب منطق الفرقة الناجية وتكريس شرعية الاختلاف.
هذه الخصائص التي يكتشفها جورج في نصوص اخوان الصفا تخولهم لصياغة نموذج ل (إنسان أعلى كوني) عابر للخصوصيات وجامع لتعدد من الهويات النسبية، ومجسد لمبدأ التنوع في الوحدة الذي كان ولا يزال علاقة فارقة للمذهب الانساني كما عرف ساحة مجده في الثقافة العربية الإسلامية في قرن اخوان الصفا والتوحيدي ومسكويه، وفق ما يخلص له جورج متفقا مع اطروحة محمد أركون عن النزعة الإنسانية العربية في القرن الرابع الهجري.
الموروث القديم: الفلاحة النبطية (نوذجا):
اذن استمرارا لسؤال علاقة الداخل بالخارج، الأنا الآخر، ومآل هذه العلاقة على مصائر العقلانية العربية، يقوم جورج بمعاورة سؤال، هل استقالة العقل جاءت بعامل خارجي والذي نعيش اليوم راهنيته ونتائجه بدرجة مؤرقة تفتح الفضاء العقلي والثقافي على سلسلة لا متناهية من الأسئلة عن علاقة الخارجي بالداخلي فيما تشهده المنطقة من زلازل وهزات، يفتح أقواسا للتحديد عن معنى الوطنية والديموقراطية، هل تمكن الواحدة بدون الأخرى، الخصوصية المحلية والعمومية الكونية.
هذا الشاغل الذي كان كامنا وراء الوظائف الاجرائية لنهاجية جورج وهو يدرس ويحلل ويتأمل نصوص اخوان الصفا، ليخلص الى اكتشاف تلك النزعة الانسانوية الكونية التي يمكن أن ترتقي بالروح العربي فوق كل هذا الخراب، هذا الشاغل يكمن وراء تفكيك أطروحة الجابري عن (الموروث القديم / اللاعقل)، وهذا هو مشجب الخارج الذي تسلل إلى ساحة الاسلام ليضعضع المعقول الديني ( البياني) الإسلامي لصالح لا معقول (عرفاني) غنوصي هرمسي دفع العقل الإسلامي إلى الاستقالة. وهنا يعثر جورج على كتاب (الفلاحة النبطية) اللقيا الذي كان الجابري قد وصفه بكتاب سحر وطلمسات لا يدرس النبات لذاته، بل من أجل وظائفه السحرية، وهو أي: (الكتاب) يصدر عن نفس التصور الهرمسي للكون المبني على قيادة التأثير بين النجوم والكائنات الأرضية، وفي مقدمتها النباتات، إنها (الفلاحة التنجيمية) بتعبير فيستوجيير الذي يعتمد على كتابه عن (هرمس مثلث العظمة)، هذا الكتاب كان لقيا حقيقية، وكم كنا نريد أن يقتصر عرضنا لهذا الكتاب الرابع من سلسلة موسوعة طرابيشي عن نقد نقد العقل العربي، بالتوقف عند عرض العرض الذي قام به ناقد النقد لهذا الكتاب (الفلاحة النبطية)، لكن حكاية هذا الكتاب التي يسردها جورج والأسئلة التي يثيرها هذا الكتاب أعقد من أن يفيها أي عرض حقها بدون متابعة تشابكات حكاية وصوله إلينا، من حيث التحقق من هوية المترجم، وزمنه، واختلافات بل وخلافات الدارسين من المستشرقين حول تاريخ تأليفه، وتأويل سياقاته.. الخ.
فمن حسن الحظ أن الجابري قد أوغل بعيدا وهو يضع ترسيمة خطاطته عن العقل العربي في التعويل على مشجب الخارج (الموروث القديم) ودوره في جندلة العقل العربي من على صهوة حصان البيان والبرهان إلى القاع السفلي للعرفان، الذي لا يزال إلى اليوم يزداد تسفيلا!
نقول من حسن الحظ، أن فعل ذلك، وذلك ليحفز نزعة التحدي الكبرى عند جورج لكي يكتشف لنا هذا الأثر الهائل الذي يقول مؤلفه منذ بدايات القرن الميلادي الأول: (اني لا أسلم لاحد شيئا دون أن تقوم عندي الدلالة على صحة ما يقوم في عقلي السليم من التعصب والهوى) ص 219 .
إن من يقرأ هذه الجملة تذكره بالتأسيسات المنهجية الأولى لمقدمة كتاب (في الشعر الجاهلي) لطه حسين، وهو يشرح منهجه الديكارتية عن أهمية التحرر من أي (تعصب قومي أو هوى ديني) عندما نقارب النصوص.
ولعلها من الاشارت السباقة حتى بالنسبة لفلسفة العصر الوسيط الإسلامية المسيحية، أن يكون قوثامي مؤلف (الفلاحة النبطية) قد توصل إلى فرضية مركزية الدماغ وتسفيهه لفرضية مركزية القلب، ففي الوقت الذي يؤكد فيه على أن (العقل مسكنه الدماغ) ويعيد القول على أنه (لما كان أفضل ما اعطيه الإنسان العقل (لذا) كان العقل من اجزاء بدنه في اعلاه ورأسه ودماغه).
وانطلاقا من ذلك يسخر من اعتقادات العامة بأن القلب هو مركز النفس، ويسخر بلوذعية أكثر من لغة العامة الأمر الذي يصدق على لغتنا نحن أبناء العصر الحاضر حينما يقولون: ( لقد فرّحت قلبي وغممت قلبي، وطرب قلبي وأوجع قلبي (فهم لا يقولون هذا القول إلا: ( لانهم يتوهمون ويظنون أن القلب مكان للطرب والسرور والغم والهم، وليس هذا الظن بصحيح ولا ما توهموه بحق) (ص 233).
ومن الطرافة أن لا يجد طرابيشي في كتاب (الفلاحة النبطية) المؤلف من 1500 صفحة سوى إشارة واحدة لهرمس، وهي اشارة تتصل بباب ( نبات الباقلي) وليس في سياق اية نبوة دينية، وذلك ردا على وصف الجابري لهذا الكتاب بأنه كتاب هرمسي، متابعا في هذه الأطروحة ماسينون في هذا الحكم.
ولعل مأثرة جورج لا تتأتى في اكتشاف هذا الكتاب بوصفه وثيقة، فقد تم اكتشافه من قبل الاستشراق منذ ما قبل منتصف القرن التاسع عشر حسب توصيف جورج نفسه، ولا في اظهاره فقد نشره فؤاد سزكين التركي سنة 1984م، ومن ثم كانت الخطوة الثانية ويصفها جورج بالجبارة هو إقدام توفيق فهد على اصداره في جزئين من ألف وخمسمئة صفحة، واستغرق عمله في تحقيقه عشرين سنة، وصدر عن المعهد الفرنسي للدراسات العربية بدمشق 1993م وجزء الثاني 1995م، والثالث دمشق 1998م.
فمأثرة جورج إذن هي: في هذا العرض الوظيفي الكاشف عن حدوس سوسيولوجية يجدها في أسبقية قوثامي إلى وضع أسس النظرية (عمران ريفي أو عمران الضيعة) أو في صيغة حدوس بقانون التقدم عندما يتحدث الكتاب عن أن المعرفة تتقدم بخط سير زمن نحو المستقبلنقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي ولعله أن يحدث في الزمان المستقبل قوم يدركون بعقولهم واستخراجهم واستنباطهم أكثر مما أدركنا..) وهنا يلحظ ناقد النقد بأن هذا التصور التقدمي للمستقبل قلب المعادلة المحكومة بالإبستمية القروسطية عن العلاقة بين الأجيال، التي ترى في السيرورة افسادا وانحطاطا وإخلاء السلف الصالح مكانه لخلف طالح، بينما هي عند قوماثي: علاقة تراكمية يزداد فيها علم المتأخرين على علم المتقدمين.. الخ ص (224).
مما يشكل التقاء وتقاطعا مع ترسمية العلم الحديث، بوصفها ترسيمة خطية طردية متقدمة باستمرار، بالضد من ترسيمة العصور الوسطى، بوصفها ترسيمة دائرية مركزها الابستمية اللاهوتية، حيث ارتباط الدائرة بمركزها، التي أقصى حريتها هو توسع الدوائر حول نقطة المركز!
اذن مأثرة طرابيشي ليس في معرفة وجود هذا الكتاب أو نشره أو اصداره بل بادراك قيمته المعرفية تاريخيا وقد كنا قد عبرنا من قبل بأن هذا الكتاب لو أتيح لماركس أن يطلع عليه في حينه لترك اثرا على هيكلية بنائه لقارته التاريخية، من خلال ما يقدمه الكتاب من مادة ثرية عن بنية عمران (الضيعة) العمران الزراعي والريفي وما يتصل بهذا العمران من بنى ذهنية ومعرفية وثقافية: تصورات ثيولوجية وكسمولوجية للجماعة الحضارية.
إن اكتشاف (الفلاحة النبطية) بهذه الصيغة المعرفية التاريخية الثقافية المقارنة يعيد الاعتبار إلى عقلانية الموروث القديم، ويسقط (نظرية المشجب أو حصان طروادة) التي طالما تفننت الايديولوجيا القومية التي ينتمي اليها الجابري في إبراز أشكال (مؤامرات الخارج)، مما يفتح الباب إلى الحداثة النقدية التي تبدأ بالذات للكشف عن المكبوت والمسكوت عنه: عن عمق المأساة الكامنة في بنية عقل كان قدره أن يأكل نفسه بنفسه على طريق إقالة نفسه بنفسه، والبحث في هذا المستوى من الاشكالية يترك جورج الإجابة عليه إلى المجلد الخمس والأخير من نقد نقد العقل العربي.






نقد العقل العربي: من النظرية للمختبر
علي سعد الموسى
أكاد أهم الساعة بإحراق ما في مكتبتي الخاصة من كتب تناولت بالتحليل نقد (العقل العربي) وعلى رأسها ما أفنى فيه محمد عابد الجابري وكذا الأنصاري وابن نبي زهرة أيامهم في هذا المجال. ذاك أنني اكتشفت أن كل الأفكار والأبحاث التي تناولت نقد العقل العربي درست هذا العقل من منظور نظريات أدبية إنشائية أو من زوايا تحليل نفسي واجتماعي وكل هذا السرد التعبيري لن يشخص على الإطلاق أمراض العقل العربي.
اكتشفت ثانياً أن الثلاثي الجابري والأنصاري ـ ومن قبلهما ابن نبي ـ استخدموا كلمة (أمراض) في ثنايا أبحاثهم في أكثر من مكان، بل تواترت هذه الكلمة أحياناً على أوساط صفحات مترادفة أو متقابلة. غير أنني أزعم اليوم أن نقد العقل العربي يجب أن يؤخذ عنوة من أيدي علماء الاجتماع إلى مختبرات علماء الطب والهندسة الوراثية والأحياء وخبراء الهرمونات وأساتذة التشريح وعلم وظائف الأعضاء. العرب باختصار لديهم إما هرمون زائد عن المعيار أو بالعكس ناقص عن المعدل الطبيعي مما يجعل لديهم مرضاً حقيقياً يعالج بالحقن والإبر لا بالأوراق الصفراء والنظريات الفكرية الثنائية.
العرب اليوم يشكلون أزمة كونية حقيقية وانظروا إليهم في شوارع بغداد وبيروت والجزائر ودارفور والصومال وأزقة غزة ورام الله. ومثل حالة الانفصام العدواني، يجنح العربي تلقائياً لحمل السلاح والقنابل في وجه أخيه العربي، وتماماً ومرة أخرى، مثل حالة مريض الانفصام الذي يجنح به خياله للأوهام والتهيؤات يحمل العربي سلاحه ضد الطائفة المقابلة من بني جلدته ويتستر بذرائع المؤامرة والعمالة والتبعية. تماماً كما يبرر مريض الانفصام لحظات انفلاته وغليانه وحين يؤخذ للطبيب النفسي يبرد الأمر بإبرتين تعيدان للعقل توازن الهرمون وترتيب الأعصاب.
العربي اليوم لم يعد خطراً على الآخر، فحسب، بل خطراً جداً على نفسه ومن حوله ولكم أن تتخيلوا مشهد الصورة على صدر ثلاث صحف بالأمس لثلاثة عرب في ثلاث عواصم يحيط بهم الجند وثلاثتهم يحملون على التوالي سكيناً ورشاشاً وعصا غليظة. العرب اليوم بحاجة إلى 300 مليون إبرة علاج




نقد نقد العقل العربي.. وسط غياب المفاهيم: عمر كوش


2005/01/30
ألا تكفي 15 سنة لانهاء السجال بين طرابيشي والجابري؟
إن كان ثمة طائل من محاولة وضع تحديد معين لـ«العقل العربي»، وتلاوينه المختلفة والمتعددة، وبصفته ماهية محددة أو
مجردة أو خالدة، فمن الممكن تفهم وجود طائل آخر من مشروع «نقد نقد العقل العربي» الذي يقوم به جورج طرابيشي ليرد على مشروع محمد عابد الجابري في «نقد العقل العربي» منذ نحو خمس عشرة سنة، وأثمر أربعة كتب أو مجلدات، آخرها «العقل المستقيل في الإسلام، دار الساقي، 2004» الذي بين يدينا.
لا شك في أن تساؤلات جمّة ستنشأ في سياق النقد ونقد النقد، تخص طبيعة النقد ونقده، وكيفية بزوغ وتشكّل كل منهما، وما إلى ذلك من تساؤلات لا يحدها حدّ. مع أن التاريخ لم يشهد لحظة معينة ولد فيها العقل، عربياً كان أو أوروبياً أو غربياً، فضلاً عن صعوبة الإلمام بدلالات مفهوم العقل، كونه استخدم في مجالات متعددة وفي أشكال مختلفة، ووظف في توظيفات واستثمارات شتى، وخضع لتبدلات وتغيرات كثيرة، إضافة إلى كون مفهوم العقل متعدّد المعايير، يُنظر إليه بحسب الفلسفة التي أنتجت مركّبات دلالاته.
وكنت أتمنى منذ بداية مشروع «نقد نقد العقل العربي» أن يصرف جورج طرابيشي جهده هذا في إنجاز مشروعه الخاص في قراءة التراث العربي الإسلامي، لكنه يرى أن رده على الجابري قدم له نقطة انطلاق لإعادة حفر أو إعادة تأسيس أو إعادة قراءة للتراث العربي، إيماناً منه أن نقد النقد يرسي رؤية بديلة، ويقدم قراءة نقدية وعقلانية مغايرة ومجددة معاً للتراث العربي والإسلامي.
الظاهرة التي يبحثها هذا الكتاب، هي ظاهرة العقل المستقيل في الإسلام، لكنّ طرابيشي يريد من خلالها ردّ الاعتبار إلى عقلانية الموروث القديم، من خلال تصديه لأطروحات الجابري حول هذه الظاهرة، معتبراً أن الجابري تبنى أطروحات مدرسة بعينها من المستشرقين، وأسقط على الإسلام - معتمداً عليها - تاريخ صراع الكنيسة مع الهرمسية الوثنية والغنوصية الهرقوطية والديانات العرفانية، ومع الأفلاطونية المحدثة التي مثلت خط الدفاع الأخير عن العقلانية اليونانية، وعليه فإن الجابري يمارس في ساحة الثقافة العربية الإسلامية ضرباً من استشراق داخلي أسير لمركزية مزدوجة، غربية ومسيحية في الوقت ذاته.
لكن السؤال المطروح هو، هل استقالة العقل في الإسلام جاءت بفعل عامل خارجي، وهي قابلة بالتالي للتعليق على مشجب الغير، أم هي مأساة داخلية ومحكومة بآليات داخلية، يتحمل فيها العقل العربي الإسلامي مسؤولية إقالة نفسه بنفسه؟
هذا السؤال يعيدنا من جديد إلى علاقة الداخل مع الخارج، التي كُتب عنها وقيل فيها الكثير. فحين يقول الجابري باستقالة العقل في الإسلام، يقول طرابيشي بإقالة العقل في الإسلام، وحين يعتبر الجابري أفول العقلانية اليوناني كان سبباً، فإن طرابيشي يقول بأنها كانت نتيجة، وهكذا ندور في فلك المقولات وعكسها.
اعتبر الجابري أن الموروث من القدماء (اليونان) هو المحدد الثالث للعقل العربي، وهو ينطوي على نظام يعارض «المعقول الديني»، من جهة اعتقاده بأن العقل البشري عاجز عن تحصيل أية معرفة عن البارئ من خلال تدبر الكون، بل يرى أن معرفة الإنسان للكون عليها المرور عبر اتصاله المباشر بالحقيقة العليا. وهذا النظام المعرفي هو «اللامعقول الفعلي»، إنه العقل المستقيل الذي يطلق عليه الجابري اصطلاح «البرهان». لكن أهم ما يميز الموروث القديم أن تياراته متداخلة، وأنه انتقل الى الثقافة العربية على مستويين: المستوى العالم، ويعتمد أساساً الخطاب المنظم المكتوب، والمستوى العامي الذي يعتمد أساسا النقل الشفهي، حيث تكثر الخرافات. ويعزو الجابري محاولات تنصيب العقل المستقيل، عبر إقامة التحالف بين نظامي البرهان والبيان في عصر المأمون، إلى محاولات حماية الدولة العباسية وفكرها الديني، الرسمي بشقيه المعرفي والسني، ولضرب العرفان الشيعي القائم على مبدأ الإمامة. فالمأمون قاد مدرسة ضد العرفان، بتأسيس البيان على البرهان. وكان ابن سينا ممثل المعارضة في ميدان الإيديولوجيا، وأستاذ مدرسة تأسيس العرفان على البرهان. وبحسب الجابري فإن الصراع داخل الثقافة الإسلامية كان بين البيان والعرفان، وكل من نظامي المعرفة هذين يحاول أن يجد له أساسا وسنداً في نظام البرهان.
أما الموقع الذي انطلق منه غزو العقل المستقيل للثقافة العربية الإسلامية فهو «حران»، بحيث يرى طرابيشي أن حران تلعب في الإبستمولوجيا الجغرافية الجابرية دوراً موازياً لدور أفامية، ولكن في الاتجاه المعاكس، فكما أن أفامية تولت تصدير العقل المستقيل إلى الثقافة اليونانية البرهانية، كذلك فإن حران ستتكفل بإعادة استيراده برسم استزراعه في الثقافة العربية البيانية.
يقوم طرابيشي بتفحص تضاريــــــــــس الإبستمولوجيـا المعرفية لدى الجابري، فيجدها تخضع لما يشبه أن يكون جدلية الحضارة والبداوة. وفي ما يتصل بخريطة العقل المستقيل، يمكن التمييز بين الاستقرار الحضري للمنابع ومساقط الرأس، والترحال البدوي للمفاهيم والنظريات. وتعج الإبستمولوجيا الجغرافية الجابرية بتعابير من قبيل: «الاسكندرية موطن الهرمسية» و«أفامية مسقط رأس الأفلاطونية المحدثة، وبالذات المشرقية منها»، و«انطاكية الموطن التقليدي للتيارات الغنوصية الأولى»، و«حران المنبع والمصب معاً لكل تيارات العرفان الصابئي - المندائي - المانوي، فضلاً عن التيار الأفلاطوني المحدث، في صيغته المشرقية دوماً.
ويعتبر طرابيشي أن هذه الثوابت الجغرافية «للعقل المستقيل» تقابلها بداوة عابرة للمكان على صعيد المفاهيم والصيغ النظرية، ذلك أن الجابري يحكم بالتهرمس و«التغونص» والتعرفن على كل فكر يشتبه في أن يكون رأى النور في الإسكندرية أو أفامية أو حران، وعلى كل فكر يتبنى نظرية الفيض وفرضية العقول العشرة. ومن هنا كان تمييزه بين مدرسة خراسان «المشرقية» وبين مدرسة بغداد «المغربية»، وأيضاً تمييزه بين الفلسفة السينوية العرفانية والفلسفة الرشدية البرهانية. ويعزو طرابيشي هيمنة مفاهيم مثل «حران» أو «أفامية» إلى عيب «الحتمية الجغرافية» الذي تعاني منه الإبستمولوجيا الجابرية، ذلك أن الاحتكام إلى مفاهيم وصيغ نظرية شاردة ومفصولة عن سياقها الوظيفي يكشف عن العيب الأساسي الثاني: لا الحكم بالجزء على الجزء، وهو أضعف أنواع الاستدلال طبقاً للتصنيف المنطقي الأرسطي، بل الحكم بالجزء على الكل.
ومن الموروث القديم الذي تسلل منه اللامعقول إلى الثقافة العربية الإسلامية كتاب «الفلاحة القبطية»، حيث يحكم الجابري بناء على ملاحظة ماسينيون بأنه كتاب هرمسي تماماً، من حيث أن الكتاب لا يدرس النبات لذاته، بل من أجل وظائفه السحرية، ويصدر عن التصور الهرمسي نفسه للكون، وهذا مبني على تبادل التأثير بين النجوم والكائنات الأرضية، وفي مقدمتها النباتات.ويعتبر طرابيشي أن كتاب «الفلاحة النبطية» هو فعلاً كتاب في الفلاحة لمؤلف كسداني يدعى «قوماثي»، ويدخل في إطار مشروع ابن وحشية لإخراج التراث النبطي إلى النور، وهو نقل في هذا السياق إلى اللغة العربية عكتباً نبطية أخرى. والكتاب موسوعة في علم الزراعة، مع ما يستتبع هذا العلم من فنون تتصل بالتلقيح والتطعيم والتقليم والتسميد، ومن علوم تتصل بـ«استباط المياه وهندستها»، و«كيفية حفر الآبار» و«تغيير طعم المياه» و«إصلاح الضياع» و«دفع الآفات» و«معرفة العلة في الفساد العارض للنبات». ولا يخلو الكتاب من إشارات، مقتضبة تارة ومطوّلة تارة أخرى، إلى ديانة الكسدانيين القدامى وطقوسهم الوثنية. وتشير نصوص الفلاحة النبطية إلى العلاقة المتوترة بين الكنعانيين والكسدانيين، لكنها لا ترفع إلى مستوى العداء بينهم، وفيه استطرادات تتطرق إلى حكايات السحر والخرافات والاعتقادات الدينية. وفي قسمته المانوية للأفلاطونية المحدثة، اليونانية ثم العربية، إلى مدرسة مغربية عقلانية ومدرسة مشرقية لاعقلانية، لا يتردد الجابري في وضع إخوان الصفا في رأس قائمة المشرقيين الذين أخذوا عن أساتذتهم الحرانيين التقليد الحراني المشرقي، وتبنوا تصوراً للكون يتفق تماماً مع الفلسفة الدينية الحرانية. ويردّ طرابيشي ضراوة حملة الجابري على أخوان الصفا إلى مبرر تكتيكي، كونه يتخذها مقدمة لحملة أشد ضراوة على ابن سينا بصفته مبتكر تلك الفلسفة التي تحمل اسمها بالذات، بدلالته الجغرافية والإبستمولوجية المزدوجة، علامة انتمائها اللاعقلاني: الفلسفة المشرقية. ويتساءل طرابيشي عما إذا كانت رسائل إخوان الصفا تشكل مدونة هرمسية كاملة حسب حكم الجابري، فكيف تمّ تمريرها إلى الثقافة الإسلامية؟ ذلك أن الهرمسية هي فلسفة دينية وثنية، فكيف أمكن هضمها في ثقافة دينية توحيدية مثل الثقافة العربية الإسلامية؟ جواب الجابري هو السمعلة، إذ تغدو الإسماعلية لديه الثوب التنكري الذي تزينت به الهرمسية لتغزو الخاصرة الإسلامية من داخلها!
هكذا، فإن الكتاب لا يخرج عن إطار السجال حول التراث العربي الإسلامي، ويريد فيه طرابيشي، من خلال تصديه لأطروحات الجابري، أن يرد أفول العقلانية العربية الإسلامية إلى أسبابها الداخلية، وإلى آليات ذاتية، غير قابلة للتعليل بأي حصان طروادة إيديولوجي أو إبستمولوجي متسلل من الخارج، وبالتالي لم يخرج السجال عن إطار محاولات البحث عن أسباب وحيثيات الاخفاقات التي مرّ بها الوضع العربي، والذي أفرز حالات من التخلف والتبعية والانهيار والهزائم على مختلف الصعد، الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لكن الملاحظ في نقد العقل العربي ونقد نقد العقل العربي هو غياب مفهوم واضح ومخصوص لمفاهيم العقل والعقلانية واللاعقلانية وسوى ذلك كثير.

كاتب سوري.
"الحياة"
منقول