هذه المشاركة : بقلم : يحيى هاشم

--------------------------------------------------------------------------------


إنقاذ

عائد من عملى كعادتى كل يوم , محاولا أن أتخفى من شمس يونيو الحارقة ورطوبته الخانقة , وصلت إلى الشارع المؤدى إلى مترو الأنفاق الوسيلة التى أستخدمها يوميا فى العودة .
لا أعرف هل هى من إصطدمت بى أم أنا من إصطدمت بها ولكن فى النهاية كان الصدام .
سيدة عجوز ترتدى جلباب أسود شديد السواد , خط الزمن عليها خطوطه التى توحى بإقتراب نهايته .
نظرت إلى بعيون تتسائل وتتعجب مماحدث فنظرت إليها معتذرا ومتعجبا فى نفس الوقت .
بدافع الخجل والأدب سألتها عن وجهتها , أجابتنى وقد بدا الارهاق على ملامحها التى تكاد تختفى من عناء ضربات الزمن التى لاترحم :
أريد الذهاب إلى المترو .
إبتسمت وأخبرتها أننى أيضا فى طريقى إلى هناك .
وكأننى أنقذتها من عناء سفر , تنهدت إرتياحا وبحركة لاشعورية غير متوقعة منى على الأقل تأبطت ذراعى وكأنها تعرفنى منذ سنوات .
لم يكن أمامى سوى الإستجابة وسرنا معا كما يسير الأحباب , ذراعا تتأبط ذراع , وقدما تلاحق قدم وإن سبقتها تتوقف خجلا , لو رانا أحد لاعتقد أننا نهيم ببعض حبا.
أخذت طوال الطريق كعادة السيدات العجوز تحدثنى عن بنتها التى سافرت إلى الإمارات منذ عدة سنوات ولم تتصل بها او ترسل لها خطاب , ثم حدثتنى عن إبنها الذى يعانى من مرض مزمن فى صدره ومحجوز فى إحدى المستشفيات وهى تحاول أن تجعل علاجه على نفقة الدولة , ثم فجأة أخذت تدعوا لزوجها المتوفى الذى لولا معاشه لكانت تتسول فى الشوارع .
كنت أستمع إلى حواراتها العديدة ورد فعلى بين هزة رأس وكلمات لتطييب الخاطر وأنا لا أدرك أى حرف مما تقول .
وصلنا إلى محطة المترو ولكى أكمل ما بدأته قطعت لها تذكرة بعد أن سألتها عن وجهتها , ثم قمت بتوصيلها إلى الرصيف وخلعت يدى من يدها بأدب ورفق وإستدرت مودع إياها ولكن وأنا أستدير وجدت يد قوية تمسك بى وتقول إنتظر .
إستدرت فإذا بها من يمسك بيدى , نظرت لها وعينى تسألها عما تريد ؟
أجابتنى وقد إرتسمت على ثغرها إبتسامة عذبة : أمسك , وفتحت يدها عن قطعة حلوى صغيرة مغلفة بغلاف شفاف .
نظرت إليها منزعجا بإشارة توحى بأننى لا أقبل أى شىء من الغرباء .
فنظرت بعينيها نظرة تقول : إطمئن .
ولكنى أجبتها برفق : أشكرك , وعدت مستديرا حتى أذهب إلى الرصيف المقابل .
عادت وأمسكت بيدى بنفس القوة وبإصرار غريب , فأستدرت لها مقطبا جبينى .
ففاجئتنى بإبتسامة أجمل من التى سبقتها وقالت : إمسك , إنها بركة لمن سيتناولها .
هزمت أمام تلك الابتسامة العذبة وتناولتها من يدها وأنا أنوى أن ألقى بها فى أقرب سلة مهملات .
ولكنها نظرت إلى عينى مباشرة وقالت وكأنها تخترق أعماقى وتكشف عمايدور بداخلى :
تذكر أنها بركة لمن سيتناولها .
تناولتها منها بسرعة واستدرت متوجها بسرعة الى الرصيف المقابل والحلوى ذات الغلاف الشفاف فى يدى, وأنا فى طريقى الى الرصيف لمحت سلة مهملات فتوجهت إليها قاصدا أن ألقيها ولكن دون أن أدرى إًصطدمت بشخص كان يمر فى الاتجاه المعاكس .
شعرت بالحنق الشديد وإعتدلت كى أقف وأتشاجر مع من كان السبب فى سقوطى , ما ان استدرت حتى ودت شاب مهندم يبتسم لى ابتسامة تحمل عبارات الأسف والإعتذار .
لم يكن أمامى سوى تقبل أسفه الشديد , نفضت اثار السقطة وسرت بخطوات طويلة قاصدا الرصيف الذى أًصبح أمنية بعد كل ماتعرضت له .
ما كدت أن أقترب حتى وجدت صوت لاهث من خلفى ينادى " يا أستاذ .. يا أستاذ " .
نظرت خلفى فإّذا به الشاب الذى إصطدم بى منذ دقائق .
وصل إلى مادا يده قائلا : لقد سقطت قطعة الحلوى هذه من حضرتك.
نظرت اليه مستغربا أدبه النادر فى زمن يعتبر فيه الأدب قلة أدب , وشكرته ناظرا الى الحلوى التى أًصبحت قدرى ثم وضعتها فى جيبى دون تفكير ودخلت الى الرصيف .
وقفت أنتظر المترو وبدأت الأسئلة تهب على :
لماذا قالت السيدة العجوز " بركة لمن يتناولها ؟ " , لماذا لم توجه كلماتها لى ؟
أخرجتها من جيبى وهممت بفض غلافها الشفاف الجذاب ولكن دخل المترو الى الرصيف , فهم الراكبون للتزاحم من أجل نيل شرف الركوب , لم يكن أمامى سوى التزاحم مع المتزاحمين ونجحت بعد عناء بسيط فى الصعود الى القطار لمحت كرسى شاغرا فأسرعت الخطى متسابقا مع شخص فى الناحية المقابلة اليه ونجحت فى إحتلاله .
ألقيت بجسدى عليه مغمضا عينى وكل عضلة من عضلات جسدى تتأوه ألما , فتحت عينى بعد برهة فإذا برجل يجلس امامى يحدق بى ويبتسم .
إستغربت تماما من تلك الابتسامة وأخذت أتأمله , هو فى منتصف الخمسينات له لحية بيضاء , مهذب شعر الرأس , يتصارع فيها اللونان الأبيض الأسود ولكن إقترب اللون الأبيض من الانتصار فى تلك المعركة غير العادلة , عندما تدقق فى ملامحه البشوشة تشعر أنك تعرفه منذ سنوات .
لم يكن أمام كل هذا إلا أن أبتسم له نفس الإبتسامة , فزادت إبتسامته إتساعا وبدأ معى حوار .
سألنى : أنت موظف أليس كذلك ؟
أجبته : نعم .
قال : لقد كنت موظفا منذ سنوات طويلة ولكننى إستقلت .
سألته : ما سبب الاستقالة ؟
أجابنى : لقد أسست مشروعا خاصا بى , العمل الخاص بالنسبة لى أفضل بكثير من العمل الحكومى الروتينى الرتيب .
هززت رأسى موافقا عما يقوله .
إبتسم وقال : أتعرف ماذا كان شعورى وأنا عائد من عملى فى مثل هذا الوقت ؟
إبتسمت قائلا : أكيد نفس ما أشعر به .
لم يجبنى فسكت منتظرا الاجابة ولكنه لم يجيبنى بل بدأ يتصبب عرقا , وتحول لونه فجأة إلى اللون الأصفر الشديد , نظر الى نظرة إستغاثة فاتحا فمه ومخرجا لسانه فى حركات لم أراها إلا فى السينما .
صرخت السيدة الجالسة بجوارى , بدأ الرجل المجاور له يقرأ أيات قرانية فى أذنه , ساد الهرج والمرج المكان , وفجأة سقط برأسه بين ساقاى .
لم أكن أعلم ماذا يحدث أو ماذا هناك ولكن سمعت صوتا فى أذنى يهتف
" إنها أزمة سكر , إنه يحتاج إلى أى سىء به سكريات "
لم أنتظر ولم أفكر , أخرجت قطعة الحلوى من جيبى وفضضت غلافها الشفاف بسرعة مذهلة , ثم رفعت رأسه الساقطة بين ساقاى , وفتحت فمه ووضعتها على لسانه , ثم أحكمت غلق فمه , وأسندت رأسه على الكرسى , أخذ الكل ينظر لى وكأننى طبيب ماهر فى غرفة العمليات ولا أحد يعلم أن كل خلجة فى كانت ترتعد خوفا.
نظرت اليه مرعوبا فحياته الان تتوقف على قطعة الحلوى هذه , بعد برهة بدأ العرق يتوقف عن التدفق كقطرات الندى على جبهته , وبدأ اللون الأصفر يختفى تدريجيا وعادت الحياة تدب فى أوصالة التى كانت تداعب الموت منذ لحظات .
كادت الدموع تتساقط من عينى , لقد أنقذت حياة إنسان , نظر لى الرجل وابتسم ابتسامته التى كان يشيعها منذ لحظات ولكنها هذه المرة كانت شاحبة .
لا يهم ياسيدى شاحبة أو لا المهم أنك تبتسم , والأهم أنك حى , حمدا لله .
مد يده وصافحنى وأنا محاط بنظرات الإعجاب وكلمات الثناء من كل المحاطين بنا , ربت على يده فأمسكها برفق قائلا : أنا مريض بالسكر منذ خمس سنوات ودائما أتعرض لتلك المواقف لذلك أحتفظ دائما بقطع من الحلوى فى جيبى عندما أشعر بإقتراب الأزمة أخرج واحدة فأعود الى حالتى الطبيعية , ولكن هذه المرة لم أشعر بأى شىء , أشكرك جدا يابنى .
أجبته : الشكر لله ما نحن إلا أسباب يا سيدى .
أجابنى بإبتسامته العذبة .
كانت محطة وصولى قد إقتربت فههمت بالقيام إستعدادا , ولكنه أمسك ذراعى بقوة وفتح يدى ووضع فيها قطعة من الحلوى .
نظرت اليها فإذا بها نفس قطعة الحلوى التى منحتنى إياها السيدة العجوز ذات الغلاف الشفاف .
نظرت إليه قائلا : ساخذها لأنها بركة لمن سيتناولها .
لم يفهم ما أقصد فضحك وضحكت أنا أيضا .
هبطت من المترو والقطعة فى يدى والابتسامة على شفتى , ولكن سألت نفسى
من الذى أخبرنى بأنها أزمة سكر ؟
لم تكن هناك إجابة , فتحت يدى وأنا سائر فى طريقى للخروج من المحطة وابتسمت ولكن على الناحية المقابلة لمحتهها تنظر الى , نظرت لها بتمعن , فوجدت السيدة العجوز التى منحتنى القطعة الأولى تبتسم ابتسامة لها مغزى , فوضعت قطعة الحلوى فى جيبى وضحكت ضحكة عالية اهتزت لها جدران المحطة .