منتديات فرسان الثقافة - Powered by vBulletin

banner
النتائج 1 إلى 7 من 7

الموضوع: أحلام من سراب

  1. #1

    أحلام من سراب


    نشرت الشمس غدائرها الصباحية لتوشح الحقول و البيوت ، و بدت وجنات التلال وضاءة يلثمها النور ، و استقبلت الأشجار أعراس الطيور و البراعم ، و توزع الفلاحون نساءً و رجالاً في الدروب ، يتمتمون بالدعاء و البركة ، يتوضؤون برائحة الزروع ، كأن تعبهم صلاة في رحاب الطبيعة .
    تصحو سمحة مع الشروق ، تهيئ بناتها السبع ، تجدل شعورهن ، تزينها بملاقط ملونة ، تصنع لهن عرائس من خبز
    و زعتر ، أو جبن و نعنع ، ليحملن حقائبهن متوجهات إلى المدرسة .
    يخلو البيت من نغوشة البنات ، و يبقى شخير عباس يملأ أذني سمحة ، و يبعث في نفسها الخشية و التقزز ، فاسترجعت هيجانه و غضبه الليلة الماضية ، حين طلبت منه أن يسمح لها بحضور دروس تعليم الأميين مع عدد من نساء البلدة ،
    و وعدته أن تذهب إلى الحقل ، حالما تنتهي من دروسها ، رجته ، توسلت إليه كي لا تفوتها فرصة التعلم .
    انتعل وجهه الغضب و اللؤم ، و بدا كأنه معفر بالغبار ، و قذف فمه بسياط الكلام ، الذي ألبسها ثوباً من الشتم
    و القهر و الذل ، هددها بجملة اعتاد لسانه عليها ، حتى صارت لازمة يطلقها إثر كل مشكلة مهما صغرت بينهما ، أوصاها أن تنهي حصاد حقل العدس قبل فوات الأوان ، و إلا سيتزوج امرأة تلد له ولداً ، فهي لم تلد إلا الإناث .
    صارت تمقت الحديث معه لكي لا تسمع هذه اللازمة الكريهة ، يرددها مئات المرات أمام الناس كل يوم ، كأنه سيفتح حصون الأعداء .
    تسلحت بمنجلها ، لفت ثوبها حول خصرها ، سندت ظهرها بكفها ، و ركبت الطريق مشياً على القدمين المتعبتين ،
    و ما يزال في أذنيها ، يتردد صدى شخير زوجها عباس ، رغم ابتعادها بين حقول الشعير و العدس ، التي لوحتها الشمس بسياطها اللاهبة .
    كانت قد طلبت منه ليلة البارحة أن يرحم توجعها و هي في شهرها السابع من الحمل ، فهي تشعر بآلام في أحشائها ، و حركة تتكرر داخلها منذ أيام ، تنبئ عن مخاض جديد ، فنهرها و وبخها ، مدعياً أنها تقوم بأساليب الدلال الممجوج بالنسبة له ، فهو يعرف أن وقت المخاض بعيد .
    مشت بإصرار رغم حملها الثقيل ، تتعثر و تنهض ، و حين يشاهدها المارون في دربها ، ينصحونها بالعودة إلى بيتها لتستريح ، رغم علمهم أنها مغلوبة على أمرها مع زوجها المهووس بالعزة الفارغة ، و هو يسعى ليكون وجيهاً في البلدة ، يحلم بها كما يحلم بولد ذكر ، يتصور أنه وحده مركز لحل مشاكل الناس و قضاياهم ، فكيف يلوث يديه و سمعته في تراب محصول العدس و شوكه ؟ ، فيرمي بالأعمال الخاصة بالبيت و الحقل على زوجته ، يعتقد أنه في مركز هام من المسؤولية العامة ، فلا يليق به تلطيخ ثيابه و هيبته بغبار العمل .
    يقضي ليله ساهراً ، يحيط به عدد من الرجال ، و هم ينفخون فيه التميز و التفرد ، يخوضون في أعراض الناس
    و سلوكهم ، و يطلقون عبارات يظنون أنها أحكاماً نهائية ، و على المجتمع في البلدة تنفيذ ما يقررون .
    استيقظ من نومه منتصف النهار ، كان يحيط به عدد من الأصدقاء اللاهين ، يلعبون الورق ، يقتلون الوقت ، في حين زوجته سمحة ، تنهمك بجد متحاملة على أوجاعها و مخاضها ، لتأكل بمنجلها المحصول ، ثم تجمع كوماً متباعدة ، تعمل بلا استراحة ، لا فرق بينها و بين دابة البيدر ، التي تجر نورجاً تلف به و تدور طيلة يومها ، كانت مهدودة مقهورة ، تتوزع نفسها بين بناتها و طموحها بالتعلم لتمحو أميتها مثل الكثيرات من نساء البلدة ، و بين الإنتظار و الرضى بما هي فيه ، فهذه قسمتها و لا تقدر أن تحتج أو ترفض .
    لكنها مع ذلك كله تنتظر الفرج ، كل يوم ينمو الأمل في نفسها ، مثلما ينمو الجنين في أحشائها ، ستثبت لزوجها
    و للناس ، أنها تستطيع أن تلد ولداً ، و عندها سيتوقف عن ترديد كلامه الحارق ، الذي تحسه الآن يطن في أذنيها ، مثلما يدوي شخيره المقرف ، كأنه الصدى .
    تتذكر صباها ، يوم كانت أجمل بنات البلد ، يحسدنها على حسنها ، و يتهافت الراغبون للزواج منها ، أغلب صديقاتها يتوقعن لها حياة رغد و دلال عند رجل يحبها و يقدرها و يهتم بها .
    بدأت تغني من خلال دموع عنيدة ، تسلي نفسها بصوت خفيض ، كانت الحسرة تلتهم رئتيها ، و راحت الشمس تتكئ على عكازة المغيب ، و هي بعيدة عن الحصادين و الفلاحين ، منعزلة وحدها ، أحست بشيء من الإجهاد فاستراحت إلى جانب كومة عدس محصود تستظل بها ، و أحست بجفاف
    في حلقها و مرارة فمها ، شربت بقايا ما أحضرته من ماء ، كانت معدتها خاوية فهاجمها دوار ، و لم تعد قادرة على تثبيت رأسها أو نظرها ، تقيأت لا شيء ، حاولت جاهدة أن ترى الطريق البعيدة ، كأنها تستجدي أي مخلوق لتستند عليه ، فامتلأ المكان بصوت الشخير ، يتخلله ألفاظ مرة ، من التهديد و الوعيد ، تقيأت مرة أخرى لا شيء ، تمددت ، وضعت حجراً تحت رأسها ، ثم أغمضت عينيها ، لعلها ترتاح ، لكن آلام المخاض فاجأتها ، فكبتت صرختها، و عضّت راحة كفها ، جمعت طرف ثوبها و حشته في فمها ، تقلبت و تلوت ، أحست بآلة حادة تقطع كبدها ، لم يرها أحد ،

    و لم يسمع أنينها أحد.
    بقيت مدة في صراع مع أوجاعها ، ثم استكانت و غابت عن الوعي ، و ما عادت تسمع أو ترى أي شيء حولها .
    عاد الناس إلى بيوتهم من حقول الحصاد ، يهد أجسادهم التعب ، و يسعدهم العطاء القادم .
    وراحت الشمس تودع أصدقاءها ، لتهيئ نفسها لشروق يوم جديد ، بينما كان عباس يصرخ في وجه بناته ، و يزعق شاتماً أمهن الكسولة ، حين يرى الناس جميعهم عادوا إلا هي ، لا يشعر بما يطلقه من رصاص التوبيخ المجاني ، كأنه جزء من طبيعة الوجاهة التي يسعى لنيلها .
    يبدو قد تكدس في لا وعيه خمائر حامضة من القهر الذي عاشه في سنوات الطفولة تحت سلطة أب ظالم متخلف ، فيقوم بإفراغ ما يحتشد فيه من حقد في وجه زوجته و بناته بأشد مما كان يعامله أبوه به ، كأنه ينتقم لنفسه من أقرب الناس إليه ، يجرب سلطته عليهن ، و يجد راحة في ظلمهن وعذابهن و كثيراً ما يلقى تشجيعاً و استحساناً من بعض المستفيدين أمثاله من أصدقائه المتخلفين .
    كان مساء هذا اليوم شاحباً متألماً ، يتوحد في سداميات الكون فضاء من غبار بني مرعب ، و تنشأ في الأفق حزم من سحاب داكن يغلف الشمس الزاحفة نحو المغيب .
    تناثرت نجمات بلورية في ذهن سمحة ، أبهجت مخيلتها ومضة الوداع الأخير ، كأنها صحت للحظة ، ثم غابت ، أحست أنها تزف لعباس فرحاً قادماً ، تسكب فيه شهوة الغناء ، و نسج الحلم ، و إنبات الأمل ، لكنه لا يستحقه فضاع .
    صعدت الروح إلى ملكوت أيقظ جسداً من تراب و ماء ، كأنها تقول هذا ابنك ، لقد منحتك الآن ميسماً يحيل إليك فرادتي .
    في هذا الوقت المسائي ، يمرق بضعة أولاد ، يقفزون و يلعبون قريباً من رقدة سمحة ، يسمعون صرخة وليد ، يتنبهون ، يقتربون ، يصرخون بخوف ، و يركضون بلهفة بلا توقف حتى وصلوا البلدة ، ليزفوا الخبر لعباس و أهله ، أبلغوا كل من شاهدوه ، حتى تجمع الناس بفرح ملأ الطريق و الوادي ، غنوا و رقصوا و زغردت النساء ، و أحاط الصبية بعباس يطلبون مكافآت ، فرشرش نقوداً بلا حساب .
    يكاد يطير نشوة ، تجمعوا حول سمحة ، كان بين ساقيها وليد يغلفه التراب .
    حمله بكفيه فتدلى رأسه ، و ارتخت أطرافه كخرقة مبلولة ، قربه من وجهه ، حدق فيه ، لم يجد أمله ، كان قد فارق الحياة منذ ودعته الشمس .
    حركوا سمحة ، سقوها ماء ، غسلوا وجهها ، احتضنتها أمها و صرخت بلوعة ، بكت بناتها ، و بكى الناس جميعاً ، كانت أطرافها باردة ميتة .
    و تحول فرحهم و غناؤهم و زغاريدهم إلى عويل و أسى .
    عم المساء كل الأمكنة و أوت القبرات إلى أعشاشها ، و تحولت نظرات الناس في ذهول إلى عباس ، ترشقه بما تختزن
    من احتقار .

    </b></i>
    إن الظّلم أينما كان يهدّد العدل في كلّ مكان
    0932597965

  2. #2
    السلام عليكم
    يسعدني جدا ان أقرأ لك وعبر قلمك العطر نصا وارفا مثله
    وتثبيت
    [align=center]

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    ( ليس عليك أن يقنع الناس برأيك ،، لكن عليك أن تقول للناس ما تعتقد أنه حق )
    [/align]

    يارب: إذا اعطيتني قوة فلاتأخذ عقلي
    وإذا أعطيتني مالا فلا تأخذ سعادتي
    وإذا أعطيتني جاها فلا تأخذ تواضعي
    *******
    لم يكن لقطعة الفأس أن تنال شيئا ً من جذع الشجرة ِ لولا أن غصنا ً منها تبرع أن يكون مقبضا ً للفأس .

  3. #3
    أشكرك جزيل الشكر
    ودمتِ بسعادة
    إن الظّلم أينما كان يهدّد العدل في كلّ مكان
    0932597965

  4. #4
    تسجيل حضور وبارك الله بقلمك الرائع
    تحيتي لك دوما

  5. #5

  6. #6
    الله يبارك فيك أستاذة ملدا وأشكرك جزيل الشكر وكل من له فضل في نشرها
    وأشكر الأستاذة ريمة للفت انتباهي إلى هذا الأمر
    وأتمنى منك أستاذة ملدا معرفة العدد الذي تم النشر فيه ومساعدتي للحصول عليه

    أشكركم جميعا من أعماقي لاهتمامكم الرائع
    وتقبلوا تحياتي
    إن الظّلم أينما كان يهدّد العدل في كلّ مكان
    0932597965

  7. #7
    أهلابك أستاذ نوار والعدد هو هذا اليوم بالذات 21-10-2011
    أتمنى أن يكون الرابط واضحا
    بانتظارك
    [align=center]

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    ( ليس عليك أن يقنع الناس برأيك ،، لكن عليك أن تقول للناس ما تعتقد أنه حق )
    [/align]

    يارب: إذا اعطيتني قوة فلاتأخذ عقلي
    وإذا أعطيتني مالا فلا تأخذ سعادتي
    وإذا أعطيتني جاها فلا تأخذ تواضعي
    *******
    لم يكن لقطعة الفأس أن تنال شيئا ً من جذع الشجرة ِ لولا أن غصنا ً منها تبرع أن يكون مقبضا ً للفأس .

المواضيع المتشابهه

  1. أحلام العصافير أم أحلام الصراصير؟
    بواسطة ريمه الخاني في المنتدى فرسان الأم والطفل.
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 04-24-2017, 03:07 PM
  2. قصص قصيرة :أحلام
    بواسطة الهام بدوي في المنتدى فرسان القصة القصيرة
    مشاركات: 3
    آخر مشاركة: 11-16-2016, 01:52 AM
  3. أحلام يقظة, ليس الا
    بواسطة نادية مغربية في المنتدى فرسان العام
    مشاركات: 3
    آخر مشاركة: 05-09-2011, 03:02 PM
  4. أحلام
    بواسطة الهام بدوي في المنتدى فرسان القصة القصيرة
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 02-03-2011, 11:08 AM
  5. أحلام وزغاريد
    بواسطة غالب الغول في المنتدى الشعر العربي
    مشاركات: 6
    آخر مشاركة: 11-19-2010, 06:00 PM

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •