الإعجاز العلمي حقيقة أم وهم؟


فراس حج محمد- فلسطين

لم يكن مستغربا على كل من يشتغل بالدراسات القرآنية والفكر الإسلامي عموما أن يثبت للقرآن الكريم- كتاب الله الخالد- وجوها متعددة للإعجاز غير الإعجاز البياني اللغوي، وخاصة المعاصرين منهم، فقد أثبتوا للقرآن إعجازا علميا، وإعجاز تشريعيا، وإعجازا تاريخيا، وغيبيا، وأخيرا خاض بعضهم غمار ما عرف بالإعجاز الرقمي أو العددي، وكل تلك الوجوه عدا الإعجاز البياني هي بين أخذ ورد بين العلماء والمفكرين عموما، فإن اتفقوا على الإعجاز البياني، إذ هو المقصود بقوله تعالى: "فأتوا بسورة من مثله"، فإنهم في تعارض في إثبات الوجوه الأخرى للإعجاز، بين متحمس ومدافع وبين معارض رادّ.
ولتجلية موضوع ما سمي بالإعجاز العلمي، فإنه لمن المهم إعادة التذكير بقضية مهمة، وهي أن المعجزة، كما تقرر معناها المراجع المختصة لغوية وقرآنية، هي أمر خارق للعادة، يتحدى الله بها عن طريق نبي مرسل القوم الذين أرسل إليهم أن يؤتوا بمثلها، ليكون عجزهم ذلك دليلا قاطعا على أن نبيهم موحى إليه، وأن ما يقوله في الشريعة والدين عموما ليس من عنده، وقد كانت المعجزة مصاحبة لرسالة كل نبي، تأييدا له بصدق دعواه ورسالته.
وهذا المفهوم للمعجزة يفرض ويحتم أن يكون في ظاهره من جنس ما اشتهر به أولئك القوم، ليتفق مع ما اشتهروا به ظاهريا، وليختلف عنه في حقيقة الأمر، ولذلك يحدث الإعجاز، وهو أيضا خارج نطاق التفسير العلمي المبني على الأسباب والمسببات، ولذلك يثبت الأمر بأنه معجز، ويقف القوم إلا المعاندين مصدقين، فيتبعون ويؤمنون، وأوضح دليل على ذلك ما حدث مع سيدنا موسى عليه السلام، إذ لم تكن عصاه سحرا للتفوق على سحر السحرة، ولم تكن تخضع للتفسير العلمي في تحولها إلى حية تسعى، بل كانت مجرد عصا، أودع الله فيها قدرة ما، لتبين بطلان السحر، ولتزيل الغشاوة عن العيون والقلوب والبصائر، ولذلك عندما عاين السحرة، وهم أعلم أهل زمانهم بالسحر، فقد صدقوا وآمنوا وخروا ساجدين، وتركوا ما كانوا عليه من اعتقاد خاطئ تجاه ما عرفوا به، فثبت بذلك أن تلك العصا معجزة، وقد أقر بذلك أهل الخبرة والمعرفة، إذ ليس بعد قول هؤلاء من قول، فإذا قامت عليهم الحجة والدليل، فهي من باب أولى ستقوم على غيرهم ممن لا يدركون من أمر ذلك الموضوع شيئا.
وهذا ما حدث فعلا في حقيقة الإعجاز البياني في القرآن الكريم، إذ سلم العرب بأن القرآن لا يضارع، وبأن القرآن معجز في تراكيبه وسوره وبيانه كلا واحدا متصلا؛ معاني وألفاظ معا، وفي الخبر المشهور المنسوب للوليد بن المغيرة، وهو الزعيم والعارف بلسان العرب شعره ونثره "والله إن عليه لطلاوة وإن له لحلاوة، وإن أعلاه لمغدق وأن أسفله لمثمر، وإنه يعلو ولا يعلى عليه" إن في هذا الخبر دليلا وحجة على أن القرآن معجز، وأنه ليس من أفكار محمد العربي الأمي، وهذا ما أدركته العرب عموما، إذا لم يتجرأ أحد من فصحاء العرب المشهورين والمعروفين ببلاغتهم التي تجلت في شعرهم وبعض نثرهم أن يعارض القرآن بشيء يشبهه.
فالتحدي إذن هو الغاية من المعجزة، وتحدي الله بذلك العرب قاطبة، وكل الناس قديما وحديثا، فإذا ثبت عجز العرب عن أن يأتوا بمثل أقل سورة من القرآن، فإن الآخرين من غيرهم هم أشد عجزا.
كان هذا بيانا معروفا ومشهورا عند العلماء في قضية الإعجاز البياني أحببت أن أبسط القول فيه قليلا، لنتوصل إلى حقيقة الإعجاز القرآني وهو التحدي بأن يأتوا بمثله، لغة ومعنى وألفاظا متآلفة معا لتدل على ملا دلت عليه، وهذا ما عبر عنه عبد القاهر الجرجاني في نظرية النظم المعروفة.
وتأسيسا على ما سبق، فإن ما عرف بوجوه الإعجاز الأخرى التشريعية والتاريخية ليس له مكان أصلا، ولا يلتفت إليه ألبتة، إذ لم يكن فيها تحد إطلاقا، وقد التقت الأحاديث الشريفة وبعض أخبار العرب وتشريعاتهم، والكتب السماوية السابقة، مع بعض ما جاء في القرآن، ولم يقل أحد من المتأخرين والمتقدمين أن التوراة أو الإنجيل أو أخبار العرب وتشريعاتها مما اتفق مع ما جاء به القرآن أنها معجزة في تشريعاتها وأخبارها التاريخية، فهي بحد ذاتها كموضوع لم تكن معجزة، ولم يُطلب بها التحدي إطلاقا.
وفي الوقت ذاته فإن ما عُرف بالإعجاز العددي فإنه مردود من حيث هو موضوع للإعجاز، وذلك لأن طريقة التفسير بناء على حساب الجمل لم يمارسها الصحابة والتابعون على الرغم من أن تلكم الطريقة في الحساب كانت موجودة عند العرب، ولم تطبق على تفسير آيات القرآن، فلذلك فإنها تعد بدعة في التفسير، أضف إلى أن كون القرآن متناسقا في تعبيراته في عدد الحروف والألفاظ لتدل على معاني محددة فإنها تتبع بالضرورة النسق البياني، وليس من صلب الإعجاز الرقمي، إضافة إلى أن اختلاف القراءات للآية الواحدة يجعل هذا النوع من الإعجاز نوعا مهملا واهي القوام، ليس له أركان ليقوم عليها، إذ كيف يعد إعجازا ولم يتحد الله به القوم الذين أرسل إليهم؟
أما الإعجاز العلمي الذي هو موضوعنا الأساسي في هذه الوقفة، فإنه مدفوع ومرجوح كذلك، وذلك لأن الله سبحانه وتعالى، واتساقا مع ما تقدم، لم تكن موضوعات القرآن العلمية محل تحد للعرب، ولم يطلب منهم الإتيان بنظريات علمية، أو اكتشاف حقائق علمية متضمنة في الكتاب الكريم، إذ لو تحدى الله الناس علميا بالقرآن لأثبت العلم الحديث بمكتشفاته أن القرآن غير معجز، وذلك لما بينتُ سابقا من معنى المعجزة، فالناس جميعا، وخاصة غير العرب قد أتوا بحقائق علمية لم تتعارض مع نصوص القرآن.
وقد عبر القرآن عن حقائق كونية لا شك فيها، وذلك لأن القرآن من عند الله سبحانه قطعا، إذ لو تعارض العلم والقرآن لكان خلل كبير في القرآن، وهو الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولا يمكن أن يكون هناك تعارض بين حقائق العلم والقرآن، وذلك لأنهما من مصدر واحد، لا يتطرق إليه الشك والخلل والخطأ، وعليه فإن ما جاء في القرآن من إشارات قال عنها العلماء أنها من مواطن الإعجاز العلمي، هي في حقيقتها تجليات قدرة الله في الكون، هذا الكون المبني على أسس منطقية، ربطت الأسباب بمسبباتها، تبيانا لمنهج التفكير العقلي عند الناس، وألا يظلوا مأخوذين بالتفكير في المغيبات التي لا يقع عليها الحس، وهي ليست محل تفكير أو إعمال نظر، كذلك فإن البحث فيما وراء الطبيعة ليس في مقدور بشر، وهو ضرب من الخيال، وإن كان يُحْدِث عند المشتغلين به متعة عقلية مجردة، ولكنه ليس له في أرض الواقع أي أثر، وهذا يؤكد المنهجية العقلية للتفكير التي سعى القرآن الكريم إلى تثبيتها عند الناس، وهي التفكير بالواقع والوقائع والأشياء لينتفع الناس بها في معاشهم وتطور أساليب حياتهم وآلاتها، وهذا ما حدث فعلا، وأبانت عنه الاكتشافات العلمية شرقا وغربا، فليس بمستغرب إذن أنك تجد في آيات القرآن الكريم ما يدعو للتفكر والنظر والتأمل، يخاطب بها الله، جل وعلا، أولو الألباب والقوم العالمين والمفكرين والعاقلين، وتجنب القرآن البحث أو توجيه البحث في المغيبات كالجن والملائكة والجنة والنار، وحتى ذات الله، واقتصرت الدعوة على أن نتفكر في خلقه المشاهد المحسوس فقط.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإن دعوى الإعجاز العلمي لم تكن دافعا ذاتيا من المسلمين أنفسهم، بل كانت ردة فعل نتيجة الشعور بالنقص والهزيمة الحضارية التي تعاني منها الأمة، فإذا ما سمع أحدهم بنظرية علمية جديدة أو اكتشاف علمي غربي سارع إلى القول بأن القرآن تحدث عن ذلك قبل ألف وأربعمائة عام، وكأنه يبحث لهزيمته النفسية وأزمته الحضارية عن شيء يثبته على دينه، ويجعله مقتنعا بصدق القرآن، على الرغم من أن القرآن لا يحتاج للتصديق بكل ما جاء به من محكم ومتشابه إلى نظريات علمية، بل إثبات كون القرآن من عند الله يأتي خارج نطاق التفكير العلمي المبني على التجربة والملاحظة والتوصل إلى حقائق علمية.
وبين د. فضل حسن عباس في كتاب له عن الإعجاز العلمي محظور تفسير آيات القرآن استنادا إلى النظريات العلمية، فمعروف أن النظريات العلمية خاضعة للرد والإثبات والتغيير والتبديل في الأسس التي تقوم عليها، وهذا يجعل القرآن متناقضا، وبدلا من أن يؤدي التفسير العلمي للقرآن إلى زيادة الإيمان قد يؤدي إلى زعزعة اليقين، لأن طريقة تلقيه بهذا الشكل خاطئة وفادحة في الخطأ، فكيف للعلماء أن يقولوا: إن القرآن تحدث عن أصغر وحدة في المادة ألا وهي الذرة وذلك عندما تم تفسير قوله تعالى: "ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره"، وذلك مواكبة لنظرية علمية ثبت أنها غير دقيقة؟
ويتصل بهذه القضية قضية أخرى مهمة وضرورية في الطرح والمناقشة، وهي أن القرآن هو كتاب قرأه ويقرؤوه ملايين الملايين قديما وحديثا منذ عهد الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام إلى الآن، فلماذا لم يحدث العكس بحيث يتم اكتشاف النظريات العلمية والحقائق الكونية ابتداء من القرآن الكريم، ولا يتم الانتظار إلى الاكتشاف الغربي لنقول: إن القرآن سبق العلم الحديث في مجال الفيزياء والطب والأحياء، وغيرها، عدا أن اختلاف التفسيرات للآية الواحدة من آيات الإعجاز العلمي بين التفسير القديم والحديث يجعل الآية من المتشابه، وإذا كانت من المتشابه فإنها غير قاطعة في دلالتها، وهذا ينفي عنها كونها من الإعجاز الذي هو قاطع في دلالته ولا تحتمل نصوصه إلا تفسيرا واحدا لا غير.
وهكذا يتبين أن دعوات المفكرين للكشف عن آيات الإعجاز العلمي ما هي إلا ضرب من الشطط في التفسير، وتحميل النص القرآني ما لا يحتمل، وهذا كله لا يغني عن فاعله من الحقائق شيئا، وعليه يجب ألا يتلقى القرآن بهذه الطريقة الفجة، وعدم إخراج القرآن من دائرة أنه كتاب تشريع وفكر، صيغ بطريقة معجزة، كل ما فيه حق وواجب التصديق، وقد جاءت الإشارات العلمية في القرآن الكريم لتدل على عظيم قدرته سبحانه، وأنه يعلم السر وأخفى، وليس لإثبات الإعجاز العلمي الذي هو محض افتراء ووهم، وقع فيه من وقع، وهو بعيد عن هدف القرآن وغايته.

المصدر: مدونة أحلام الغد
http://ferasomar.maktoobblog.com/1586905/e3jaz/
----------------------
فراس حج محمد/ فلسطين نابلس