فسحة الأمل والسّرور في قوله تعالى ( ولله عاقبة الأمور )

يرتدّ إليك البصر خاسئاً وهو حسير ، ويتفطّر القلب أسىً ، ويتقاطر حسرة وأسفاً لما يلفّ الأمة من واقعٍ عبوس قمطرير ! أمّة غشيتها دياجير الظلام ، فغدت دماؤها وأموالها وأعراضها وحرماتها ومقدّساتها كلأ مباحاً ومرتعاً للظلم والظُلاّم !
فبعد أن تدثرت أمّة العرب والإسلام دثار ماض فسيح كيّس فطن ، ارتدت على أعقابها لتعالج اللأواء والخطوب في حاضر كسيح يعجّ بالفتن !
فترى أولي النهى والألباب سُكارى وما هم بسكارى ، ولكنه الواقع المشحون بالألم ، الذي يجعل الحلماء والعقلاء حَيارى !
كيف لا وها هو الاحتلال في فلسطين وبلاد الرّافدين يمشي يتبختر ، وها هي بلاد الحكمة اليمانية ، تُهرَق دماءُ أبنائها وتنحَر ، وفي الشام وما أدراك ما الشام ؟ مستضعفون من الرّجال والنساء والولدان ما فتئت بالقذائف تمطر ، وتحت الأنقاض تدفن وتقبر ، ليتمخض المشهد الكئيب عن نساء ثكالى ، وأطفالٍ يتامى وتدنيسٍ لأعراض الحرائر الأيامى !
فتن تتلبّد في الآفاق هنا وهناك ، ما لنا فيها غير الله من وليّ ولا واق ، والشعوب تستنصر فلا تُنصر ، فلا نخوةَ معتصمٍ تقوم لتثأر، ولا حميّة بيبرس تهبّ فتزأر ، ولا غيرة قطز تبعث البعوث للعدو فيُدحَر ، ولا إطلالة صلاح الدّين تجمع من جهود الأمّة ومكامن قوتها ما تفرّق فتبعثر !
أمّة هُدِفت نحورُها لعدوّها ، فرماها عدوّها عن قوس واحدة ، ولولا أن تداركتها رحمة ربّها لكانت في عداد الأمم البائدة :
( ليست بحرب كالحروب سماتها .. بل ذبح شعب مفعم التكوين
مليون نفس قـُتـّلوا أو شُـــرّدوا .. ومدائن دكّت كيوم الدين
مليون نفس قـُتلوا أو شُرّدوا.. من غير ما مستقبل ميمون
الطفل أعياه البكاء من الطوى .. وضياع أمٍّ أو أبٍ مدفون
والشيخ يبحث في الحطام مهمهماً ..عن أي شيء ؟ عن سناً يهديني
وحليلة أرخت ذوائب شعرها .. تبكي حليلاً راح رهن كمين
حسبوا – ذهولاً أو لشدة ما رأوا- .. أنّ القيامة ما جرى في الحين
بالأمس كان العرب قادة دهرهم .. واليوم نشهد قومنا في الدّون
يا (ألف مليون) تناثر عقدهم.. لو واحداً في الألف من (بليون)
شقوا إلى (القدس) الشريفة دربهم .. لخلاصها من كافرٍ ممهون
لتغير التاريخ حالاً بل جثى .. متضرعاً في نجوة وسكون
)
فكلّ ذلك مدعاة لليأس والإحباط والقنوط ، لولا يقيننا بأنّ الأحداث في هذا الوجود لا تسير خبط عشواء ، بل محكومة بأزمّة القَدَر !
أجل ثمّ قضاء ربانيّ مُبرَم ، وقدَر إلهيّ مُحكَم ( وكلّ أمر مستقر ) ( القمر 3 ) كلّ حدث جار في هذا الوجود سينتهي وفق النواميس الرّبانيّة والقوانين الإلهيّة وليس وفق الإرادات البشريّة المشئومة ، ولا المخططات الشيطانيّة المذءومة !
في ضوء ذلك : فلئن مكر العدى مكر الليل والنهار ، وكادوا كيداً تنوء بحمله الجبال ، وهم وإن أوقعوا ما مكروه ، وترجموا ما كادوه ، وجسّدوه على أخبث ما يكون وأحكموه ، غير أنّهم لن يَحْكُموا مآلات الأمور ، ذلك أنه (ولله عاقبة الأمور ) ( الحج 41) فهيهات هيهات أن يحصدوا ما أمّلوه ، أو أن يقطفوا ثمار ما خطّطوا له ونسجوه ، وبخفاء ودهاء حبكوه ، فقد همّوا بما لم ينالوا ولن ينالوه !
( ولله عاقبة الأمور ) : لله بادئة الأمور ومبتداها ، وله سبحانه عاقبة الأمور ومنتهاها ، غير أنه في هذه الآية ذكر العاقبة وطوى الحديث عن البادئة ، لأنه سبحانه يجعل للناس كما هو مشاهد حظاً في البادئة ، وأمّا العاقبة فهي متمحضة له مختصة به !
هذه الآية آية عطْف وقصْف : يعطف سبحانه وتعالى بها على المستبصر العاقل بتباشيرَ يسوقها إليه ، ويقصف بها الكنود المغتر الجاهل ، بحمم الحق التي قصَفَ بها المكذبين وأشياعهم من قبل ! فدارت عليهم دائرة السّوء ، وتمّ تجريدهم من أيّ حيلة لرسم النهايات والمآلات !
لذا عقّب على قوله ( ولله عاقبة الأمور ) بشواهدَ ونماذجَ تبيّن بصراحة أنّ الله تعالى هو من بيده مقاليد الأمور ، فقال عز من قائل في سورة الحج ( وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ (45) )
أقوام رسموا البدايات : (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ) وكانوا أطولَ الناس أعمارا ، وأشدَّهم اقتدارا ( وعاد ) ذو الأبدان الشداد ( وثمود ) : أولو الأبنية الطوال ، في السّهول والجبال ( وقوم إبراهيم ) المتكبرون المتجبّرون ، ( وقوم لوط ) الأنجاس ، الذين أتوا بما لم يسبقهم به أحد من الناس ( وأصحاب مدين ) أرباب الأموال ، المجموعة من خزائن الضلاّل ، ولمّا كان موسى – عليه السلام – أتى من الآيات المرئية والمسموعة بما لم يأت بمثله أحد ممّن تقدّمه ، فكان تكذيبه في غاية البعد والغرابة غيّر سبحانه أسلوبه تنبيها على ذلك فقال ( وكُذّب موسى )
فماذا كانت النتيجة ، ومن رسم لهم مآلهم ؟ وبيد مَنْ كانت عاقبتهم؟ ( فأمليت للكافرين ثمّ أخذتهم ) كانت عاقبتهم بيد ربّ الأرباب ، مسبّب الأسباب !
ونبّه سبحانه على أنه كان في أخذهم عبرٌ وعجائب ، وأهوالٌ وغرائب ، بالاستفهام في قوله ( فكيف كان نكير ) أي إنكاري لأفعالهم ، إذن فليحذر مَن طغى وبغى ممّن خلَف ، أن يحيق به ما حاق بنظرائه مّمن سلف !
وبعد : ( وكلّ أمر مستقر ) مستقر على سنن ، فالحق يثبت والباطل يزهق ؛ يصير الحق إلى مصير أمثاله من الانتصار والتمام واقتناع الناس به وتزايد أتباعه ، والباطل صائر إلى مصير أمثاله الباطلة من الانخذال والانخزال والافتضاح وانتقاص الأتباع ، ليثبت الحق ثبوتا لا زوال معه ، ولا لبس يكتنفه ولا غموض ، وينتهي الباطل ويتلاشى تلاشياً لا ثبات معه بوجه من الوجوه !
تأمّل في أفاعيل قوى البغي والاستكبار وتدبّر ، وتفكّر في صنيعهم وتذكّر ، وانظر كيف كان عاقبة مكرهم ، في أيّ قطر نزلوا وفي أيّ مكان حلّوا ، كيف طغوا في البلاد ، فأكثروا فيها الفساد ، وأهلكوا فيها الحرث والنسل ، ثمّ كان عاقبةَ الذين أساءوا السّوء ، أنْ خرجت الأمور من أيديهم ، وأفلتت من قبضتهم ، وخرجت عن طوع مشيئتهم ، فلا هم رادّوها على ما كانت عليه ، ولا هم ممسكون بها على استقرار حال ، ولا هم ماضون بها على ما بيّتوا وأضمروا لها من مآل !! فجوزي القوم بنقيض مقصودهم ... وأسقط في أيديهم !
وختاماً : سيظل قوله تعالى ( ومكر أولئك هو يبور ) ( فاطر 10 ) وقوله ( ولا يحيق المكر السيّئ إلا بأهله ) ( فاطر 43 ) سيظل القاعدة الرّبانية الماضية ، والسّنة الإلهيّة الجارية ، التي لا تتغير ولا تتبدّل ولا تحيد ، فالله عز وجلّ هو الذي بيده الأمر ، وهو الذي يصرّف الدّهر ( ألا إلى الله تصير الأمور ) ( الشورى 53 ).
بعد تقرير ما تقرّر أمِر النبيّ عليه الصلاة والسلام بأن يصدع بلسان الثقة واليقين (وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ { أي على طريقتكم ومنهجكم } إنّا عاملون{ على طريقتنا ومنهجنا
} وبأن يجهر بلهجة الجراءة والتحدّي المستبين قائلا ( وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ) ثمّ ختمت الآيات بما فيه باعث سكينتنا وفرحتنا ، وحبل رجائنا ، وطوق نجاتنا ، ختمت بقوله تعالى { وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ } فما المطلوب إذن { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } ( هود 121-123 )

إذا كان ذلك كذلك : فأبشري أيتها الشعوب المستضعفة المظلومة المكلومة وأمّلي ، وتقبّل الله طاعاتكم ، وكلّ عام وأنتم بخير وأمن وأمان وعزّ من الله وتمكين