منتديات فرسان الثقافة - Powered by vBulletin

banner
النتائج 1 إلى 2 من 2
  1. #1

    ذاكـرة تأبى النسـيان

    تجرأ أخي الأكبر وسأل جدي عند عودته من المسجد بعد صلاة العشاء:

    ـ كم عمرك يا جدي.؟
    ابتسم جدي، وراحت أصابعه تداعب حبات السبحة الزيتونية، لكنه لم يجب، بل مضى إلى مجلسه المفضّل، جلس بهدوء والعباءة المشمشية على كتفيه، نظر في وجوهنا طويلاً ثم قال:
    ـ في أيامنا لم يكن أحد يعتني بتسجيل الولادات، ولكن عندما يسرّ لي الله سبحانه السفر إلى الحجاز لأداء فريضة الحج، وضرورة حصولي على جواز سفر من حكومة الانتداب، في ذلك الوقت، قاموا «بتسنيني».!
    ضحك ضحكة واسعة وتابع:
    ـ اجتمعت لجنة أطباء وقرروا أن عمري حوالي 75 سنة.
    تابع وكأنه يستنهض ذاكرته:
    ـ كان ذلك قبل عشرين سنة تقريباً.
    «يقول والدي إن جدّنا «والده» عندما انتقل إلى رحمة الله في العام 1952 في مدينة دمشق بعد نكبة فلسطين كان قد تجاوز المئة عام».
    مسح جدي على لحيته البيضاء بحبور، وبدا كأنه يغيب عنا إلى فضاء بعيد، يبتسم تارة، ويقطّب تارة أخرى، بعد وقت ليس بالقليل، عاد بابتسامته الطيبة، قال: ـ فجأة نمرّ على ذكرى، نستحضرها، فتأتينا ببريقها وتفاصيلها، نغوص في لملمة الذاكرة، فنتمنى لو تعود تلك الأيام، ونحن نملك، كما نملك الآن، خبرة العمر الطويل كي نغيّر ونبدّل في أحداثها لتتماشى مع تطلعاتنا.
    فرك السبحة براحتيه، ثم ألقى بها في حضنه وتابع يقول:
    ـ رغم قسوة وصعوبة تلك الأيام، لكنها كانت بتواصل الناس، واجتماعهم على معايشة الواقع، أياماً طيبة.. وقد عشت فصولاً لا تحصى من مزيج أحداث جعلتني أقوى على اجترار المآسي.
    كان جدي في ذلك الزمن المشحون بالفضيلة، إلى جانب البؤس والفقر، ومطامع الغرباء في هذه الأرض، راضياً لمجرد تآلف الناس مع بعضهم، والمحبة التي كانت تجمع بينهم.
    أحسسنا أنه ينتزع من قاع ذاكرته ذكرى تلك الأيام، بعد وقت، قال:
    ـ عايشت أحداثاً كثيرة، وخطرة، وصعبة، عشت أحداث الحرب العالمية الأولى وويلاتها، وعشت حرب السفر برلك، وعايشت صنوف المؤامرات التي عصفت بنا كأمّة نحاول أن نبني أمجادنا الغابرة، وننفض عنها الغبار الكثيف.
    تنحنح وتابع بحماسة أكثر: ـ دائماً كنا نتعرّض لمؤامرات، نعم هي مؤامرات في كلّ الأوقات، تحالفنا مع البريطانيين ضد الدولة العثمانية التي اغتصبت بلادنا لأكثر من أربعة قرون، كنا نتطلع إلى التحرّر، وهذا ما وُعدنا به لو انتصرنا لهم ومعهم، لكنهم، عندما حققوا الانتصار، خذلونا.
    وقعنا ضحية خدعة كبيرة، وهذا شأن الاستعمار البريطاني، وهو السبب في مصائب العالم.
    بريطانيا الإمبراطورية العظمى التي «لا تغيب عنها الشمس»، كانت تترك في كل دولة تنسحب منها، وعن قصد خبيث، بؤراً ساخنة قابلة للاشتعال في أي وقت.
    قسّمونا إلى دويلات بمؤامرة سايكس بيكو، وزرعوا في أرض فلسطين بذور التوضّع الصهيوني بوعد بلفور.
    كان جدي يتحدث بألم وحسرة، لكنه يتماسك، يضيء أمامنا في كل مناسبة شمعة أمل، ويحرّضنا على أن نتمسّك بها، فالنصر لا بد أن يأتي لأصحاب الحق، والمطالبين بالحق، والمشتغلين على درب تحقيق هذا الحق.. قال:
    ـ لم يتوقف الشعب الفلسطيني عن التصدي والنضال من أجل حريته واستقلاله، وأثق بأننا، ومهما طال الزمن سننتصر لأننا أصحاب حق.
    تنهّد تنهيدة أحسسنا بزفرة الحسرة فيها، وقال:
    ـ إنه صراع تاريخي بين الغرب والشرق، والعاقل من يتّعظ من تجارب وخبرة وأحداث الماضي، ولندرك جميعاً أن بريطانيا عدوة الشعوب، وأنها أفعى الشرّ في كل مكان وزمان.
    وقالوا قديماً: «لا يلدغ العاقل من جحرٍ مرتين».
    موقع عدنان كنفاني
    http://www.adnan-ka.com/

  2. #2
    كلام جميل لمن يتعظ ,سعيد بهذا المقال الموفق.
    تحيتي لك.

المواضيع المتشابهه

  1. متى تأتي الأفكار لديكم ؟
    بواسطة راما في المنتدى فرسان البرمجة اللغوية العصبية.
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 12-26-2014, 04:28 PM
  2. سوف تأتي!!
    بواسطة ريمه الخاني في المنتدى - فرسان أدب الأطفال
    مشاركات: 3
    آخر مشاركة: 03-17-2013, 04:37 AM
  3. حين تأتي النصيحة بشكل مبدع
    بواسطة ريما الحكيم في المنتدى فرسان التصميم والابداع.
    مشاركات: 3
    آخر مشاركة: 09-03-2010, 11:00 AM
  4. تميم البرغوثي في القدس: /الشـعر الطـوَّاف ذاكـرة وأمكنـة
    بواسطة ملده شويكاني في المنتدى فرسان الأبحاث والدراسات النقدية
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 09-05-2009, 09:29 AM
  5. ثمانية مسلمين في الفضاء.. والبقية تأتي
    بواسطة بنان دركل في المنتدى فرسان الفضاء.
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 04-11-2007, 05:22 PM

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •