شعر الأرض المحتلة
=============

-----------------------------------------
محمد عيد الخربوطلي---

لا تعرف الآداب العربية والعالمية أدب قطر حمل معاني الحنين والتشرد والتمزق والتشبث بالأرض والثبات والمقاومة والتفاؤل الثوري مثل أدب أبناء فلسطين, من حيث النضج الفني والرؤى المستقبلية والخصب في مثل تلك الظروف القاهرة قبل نكبة 1948 م وما بعدها.
ويقسم النقاد الشعر الفلسطيني إلى ثلاثة أقسام :
شعر أبناء فلسطين قبل النكبة (زمن الانتداب الإنكليزي).
شعر أبناء فلسطين بعد النكبة خارج الأرض المحتلة.
شعر الأرض المحتلة داخل الأرض المحتلة.
ونلمح من هذا التقسيم الأطوار الصعبة التي عاشها المواطن الفلسطيني داخل أرضه وخارجها, وسأكتفي بالحديث عن شعر الأرض المحتلة, لكن لا بد من الإشارة إلى شعراء وضعوا آثاراً رفيعة في ظل العذاب زمن الانتداب الإنكليزي وفي مرحلة التشرد خارج الوطن بعد النكبة, ففي هاتين المرحلتين انطلق الشعر إلى ميادين النضال وحملت القوافي والحروف اللهب إلى النفوس لإثارة النخوة والحمية, فهذا إبراهيم طوقان الذي دوى صوته الشعري من إذاعة القدس زمن الانتداب وهو يردد تحذيراته من ضياع القدس, يصور نبضات قلب الفدائي وهو يقتحم هوج المعارك في قوله:

لا تسل عن سلامته
روحه فوق راحته
يرقب الساعة التي
بعدها هول ساعته
بين جنبيه خافق
يتلظى بغايته
ولن ننس الشاعر الشهيد عبد الرحيم محمود الذي كتب بدم استشهاده أروع القصائد بعد أن عرفت سهول فلسطين وهضابها هذا الثائر الأسمر والشاعر الفارس الذي حمل روحه على راحته وسار مخضب العينين دامي القدمين ينشر أشعاره على الجنبات:
سأحمل روحي على راحتي
وألقي بها في مهاوي الردى
لعمرك إني أرى مصرعي
ولكن أغـذ إليه الخطا
وهكذا انتشر الشعراء تحت كل كوكب ينشرون شعرهم المليء بالألم والغضب والثورة, وكثير من شعرهم مليء بالحنين للبلد الأم فهذه فدوى طوقان تناجي عاماً جديداً بعاطفة رومانسية:
في يدينا لك أشواق جديدة
في مآقينا تسابيح وألحان فريدة
أما شعر الأرض المحتلة فقليل من النقاد الذين وضعوا عنه الدراسات مع أنهم هم شعراء المعتقل, فهم في أرضهم مسجونون وكما قال عنهم يوسف الخطيب: أما الشوكة الحقيقية التي ما تزال عالقة في جوف الكيان الصهيوني حتى الآن فهي الأقلية العربية التي ما زالت تحت نير المستعمر وكل يوم تنال منه عذاباً جديداً.
ومن هنا يعرف شعر الأرض المحتلة بكونه:
شعر يدافع عن الشخصية العربية وكرامتها بين قوم امتهنوها.
وإنه شعر يتشبث بالأرض ويرفض رفضاً قاطعاً الهروب من واقع يعيشه أبناؤه في ظل ظروف سيئة.
وإنه شعر يبوح بلواعج الحنين إلى الأهل المشردين عن فلسطين.
وإنه شعر يغص بأمور لا تحكى.. إنها الاضطهاد والاستغلال والتسلط على الشعب العربي في الأرض المحتلة.
وهو شعر يغني للأحداث الثورية القومية العربية والعالمية, لذلك يعد جزأً من شعر المقاومة والاحتجاج في العالم ويتجلى بملامح فلسطينية.
إنه شعر يشارك كل أبناء العروبة في آلامهم وآمالهم والتفاؤل المستقبلي بالنصر.
وهؤلاء الشعراء يعرفون تماماً أنهم بهذه الوسيلة الأدبية التي يستخدمونها لا يستطيعون تغيير الليل الأسود الثقيل, ولكنهم بالشعر قادرون على فضح أسباب هذا الظلام ومسببيه وبذلك يسهمون في إشعال الشرارة في حقول النار التي ستلتهم الفساد والهشيم والخراب لإضاءة نهار فلسطين بنهار الحرية نهار الكرامة للإنسان العربي.
وسأذكر مثلاً واحداً من شعراء الأرض المحتلة إنه (توفيق زياد) الذي يعد من أقوى شعراء الأرض المحتلة فناً وتجربة, وتتضح في شعره الفكرة العميقة والكلمة الجريئة النافذة, يبوح شعره بعاطفة الحب للوطن المحتل متشحة بنوايا مخلصة, وهو ينظر إلى حركة التاريخ نظرة الفلاسفة الذين يدرسون التطور التاريخي فيقول: لا بد للمحنة من أن تصل إلى ذروتها ثم تبدأ بالنزول إلى الحضيض, وينتهي إلى نتيجة وهي أنه لا بد للباطل أن يزول, فيقول:
عملاق هو هذا العصر
الباني الهدام
فليصنع ما شاء الأقزام
فالغد آت يحمل للطغيان
للعلق البشري ورأس المال
الحبل المجدول وحكم الإعدام..
ونرى أنه من أكثر شعراء الأرض المحتلة توفيقاً من حيث النهاية السعيدة المشرقة بالتفاؤل في القصيدة, فقليلا ًما نجده يشكو ومعظم قصائده تنتهي بنهاية سعيدة, ولعله أخذها من المدرسة الواقعة الاشتراكية وأثر ناظم حكمت ومايكوفسكي في شعره واضح. وتعد قصيدته هنا باقون –1965– من أجمل ما قيل في موضوع التشبث بالأرض ورفض الانسحاب من فلسطين, وكأن كلماتها صخور جرفها سيل عارم فأقبلت تهوي غاضبةً ثائرةً متفجرة في نبرة خطابية مباشرة يواكبها عنصر جمالي من عناصر التصوير الفني الحسي والمعنوي وفيها يقول:
كأننا عشرون مستحيل
في اللد والرملة والجليل
هنا.. على صدوركم باقون كالجدار
وفي حلوقكم
كقطعة الزجاج.. كالصبار
وفي عيونكم
زوبعة من نار
نجوع.. نعرى.. نتحدى
ننشد الأشعار
ونملأ السجون كبرياء
ونصنع الأطفال.. جيلاً ثائراً.. وراء جيل
إنّا هنا باقون
فلتشربوا البحرا
نحرس ظل التين والزيتون
ونزرع الأفكار كالخمير في العجين
برودة الجليد في أعصابنا
وفي قلوبنا جهنم الحمرا
إذا عطشنا نعصر الصخرا
ونأكل التراب إن جعنا.. ولا نرحل..
وبالدم الذكي لا نبخل..
هنا.. لنا ماض.. وحاضر.. ومستقبل
وهكذا نرى شعر توفيق زياد مليئاً بالحنين للوطن مليئاً بالتشبث بالأرض ورموزها ومليئاً بالتحدي للعدو.
ونحن نعيش أيام الانتفاضة المباركة نرى شعره متمثلاً بالأطفال التي تعتصر الصخرة وتحمل الحجارة, نرى شعره متمثلاً بالمجاهدين الذين ينسفون أنفسهم مدمرين عدوهم يملئون قلوبهم رعباً, إنها فلسطين الأرض المباركة التي لا تنبت إلا الأبطال الذين رفعوا رأس كل العرب وجعلونا نناطح السحاب فخراً وعزاً بأعمالهم.



نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي


نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي


نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي