النفاق .. كلمة قبيحة بلا شك .. ولقبحها هرب الناس منها – كلفظ -، واستبدلوها بكلمات جذابة كالمجاملة.. والتعامل الدبلوماسي .. والمرونة .. وغير ذلك من الكلمات التي نسمعها كل يوم.. وهي في الحقيقة ليست سوى أغلفة براقة للنفاق .. تستر عورته .. وتبرر للناس التعامل به .
لكنها في ذات الوقت تحمل دلالات عدة عن مدى استشراء النفاق في تعاملاتنا، وتغلغله في مجتمعاتنا، فهذا موظف لا يكتفي بالسكوت عن الباطل بل لا يفتأ يزينه ويبحث له عن المسوغات تزلفاً منه ونفاقاً.
وذاك صحفي يزور الحقيقة أو يشوه صورتها رغبة أو رهبة .
والكثير من الناس يقابل بعضهم بعضاً بالفرح والابتسام، حتى إذا أعطى كل واحد ظهره للآخر، كال له من الشتائم أنواعاً، ومن القبائح أصنافاً.
مجاملات أو قل مصالح وسياسات غير أنها في حقيقة الأمر لا تخرج عن خلق النفاق، وتحكي صورة تدمي القلب عن تردي أخلاقنا، وهبوط علاقاتنا وتعاملاتنا إلى رجة أصبح بها النفاق خلقا مقبولا لا نستطيع إنكاره أو الاعتذار عنه فضلا عن رفضه وإزالته من قاموسنا .
موقف الإسلام من النفاق
والإسلام قد شن حملة شعواء على هذا الخلق الذميم، فبين النبي - صلى الله عليه وسلم - علامات أهله وحذر منهم في قوله: ( أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها، إذا أؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر ) رواه البخاري ومسلم.
وكلها علامات تدل على مدى انحطاط المنافق في أخلاقه، فهو غير صادق مع نفسه، غير صادق مع الآخرين، يخون الأمانة ولا يصدُقُ بوعد، ولا يلزم حدود الله عند الخصومة، فالكذب يلف حياته في شتى جوانبها.
ولعل من أسباب تسمية النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه الأخلاق نفاقاً، هو أن القاسم المشترك فيمن يتصف بها إظهار خلاف ما يبطن، فهو يظهر الصدق مع من يحدثه مع أنه كاذب في حديثه، ويظهر الوفاء عند إطلاقه الوعود لكنه يخفي عزمه على الإخلاف بها، ويظهر الإنصاف والعدل مع الآخرين فإذا وقع في خصومة تناسى كل ذلك وفجر في خصومته، ويظهر الأمانة حتى إذا استلمها خانها، وهكذا ديدنه في حياته كلها .
النفاق الأصغر يؤدي إلى النفاق الأكبر
وهذه الأخلاق وإن كان العلماء يعتبرونها من النفاق الأصغر، إلا أنه يخشى على من اتصف بها أن تنتقل به عدوى النفاق من الأخلاق العملية إلى أمور الاعتقاد والإيمان، أو يبلغ به الضلال فيعامل ربه بالنفاق كما يعامل الناس، فيكذب على الله عز وجل في دينه وشرعه، أو يعاهد الله بأمر ينوي الإخلاف به، فيعاقبه الله بنزع الإيمان من قلبه ويبدله نفاقاً، كما حكى الله قصة الرجل الذي عاهد الله لئن أعطاه من فضله، ليتصدقن وليبذلن من ماله في سبيل الله، فلما أعطاه الله المال، أخلف وعده، فأبدله الله نفاقا في قلبه، قال تعالى:{ ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون }(التوبة: 75-77) .
الفرق بين النفاق الأصغر والنفاق الأكبر
يختلف النفاق العملي عن النفاق الاعتقادي بأنه يختص بالأفعال والسلوكيات كالكذب والغدر والخيانة، وأما النفاق الاعتقادي فيختص بالاعتقادات وهو إظهار الإسلام وإبطان الكفر، وله كثير من الصور والمظاهر العملية التي تبرز ما خفي من سوء اعتقاد صاحبه وكفره بالله، كالفرح بانتصار الكافرين على المسلمين، والاستهزاء بالعلماء وأهل الخير في الأمة .
وصاحب النفاق الأكبر حكمه الكفر عند الله، بل إن كفره أسوأ أنواع الكفر، ومصيره في الدرك الأسفل من النار كما قال تعالى: { إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا }(النساء: 145) وذلك لأنه زاد على الكفر الخداع لله وللمؤمنين، كما وصفهم الله في كتابه بقوله: { يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون }(البقرة:9 ) .
خوف الصالحين من النفاق
إن معرفة المسلم بخطورة النفاق كمرض انتشر في الأمة وأصاب شرائح كثيرة منها يوجب عليه الخوف والحذر منه، والتدقيق في أخلاقه، لينظر هل ابتلي بشيء من صفات المنافقين، وقد كان هذا هو هدي سلفنا الصالح من الصحابة والتابعين، فتجد الرجل منهم – مع إيمانه وصلاحه – يخشى أن يكون تلبس بشيء من صفات المنافقين وهو لا يعلم, فعن ابن أبي مليكة قال: " أدركت ثلاثين من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كلهم يخاف النفاق على نفسه" . ويقول الحسن البصري عن النفاق: " ما خافه إلا مؤمن ولا أمنه إلا منافق ". ويقول إبراهيم التيمي :" ما عرضت قولي على عملي إلا خشيت أن أكون مكذبا " .
ما ليس من النفاق
هناك أخلاق يلتبس على البعض فهمها فيظنونها من النفاق وليست منه، كالتبسم في وجه من لا تحب، والسلام على من تكره، والمداراة وهي: لين الكلام والملاطفة في حق من تعتقد شره وفسقه، فكل هذا ليس من النفاق وإنما هو من كرم المسلم وحسن خلقه .
فالنفاق العملي هو أن تظهر الأخلاق الفاضلة وأنت تبطن خلافها، كمن يطلق الوعود ناويا الإخلاف بها، أو يظهر العفو وهو يضمر الخصومة، أما المداراة فالمسلم يعامل بالأخلاق الحسنة من ليس جديراً بها، فيبستم في وجه عاص تأليفاً لقلبه، أو يصافح رجلا سيئاً اتقاء لفحش لسانه، فهذا مما حث الله عليه في كتابه حيث أمر أن ندفع بالحسنة السيئة وألا نقابل السيئة بالسيئة بل نعفو ونغفر، فقال تعالى:{ ادفع بالتي هي أحسن السيئة }، وهذا هو خلق النبي - صلى الله عليه وسلم – فقد جاءه رجل سيء الطباع، واستأذن في الدخول عليه، فقال عليه الصلاة والسلام مبينا حاله، ومحذرا من سوء خلقه: ائذنوا له، بئس أخو العشيرة، فلما دخل عليه عامله بلطف وكرم وأظهر له البشاشة في وجهه . فاستغربت عائشة – رضي الله عنها - هذا الموقف . فقال - صلى الله عليه وسلم – ( إن شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة من تركه الناس اتقاء فحشه ). وهو أدب نبوي رفيع يبين كيف يتقي المسلم الأشرار بالبسمة والمعاملة الحسنة ليصون نفسه وعرضه بكرم أخلاقه، ولا يعني ذلك أن يمتدح ظالما أو يؤيده على ظلمه فإنه بهذا يخرج عن حدود المداراة المسموح بها إلى المداهنة المذمومة المحرمة .
كان ذلك تعريفا بالنفاق العملي وبيان أخطاره وآثاره، التي تقضي على الروابط الاجتماعية الصادقة، ليحل محلها الخداع والتلبيس والغش، فتنعدم الثقة بين الناس، وتنحسر المودة في تعاملاتهم، ويسود الحذر والحيطة والشك والريبة بدلاً من الثقة والأمانة، وقد انتشرت - للأسف - تلك الأخلاق السيئة انتشاراً عظيماً، وإذا كان الحسن البصري - رحمه الله – يقول عن زمنه: " لو كان للمنافقين أذناب لضاقت بكم الطرق "، فكيف لو رأى زماننا ؟!!