ا أنا ذا أفتح الصفحات الصفراء، أنثر ما فيها منذ الساعة السادسة والنصف من صباح يوم خميس التاسع من نيسان 1936 إطلالة غسّان كنفاني الأولى على زيتون عكا..
يومها حمل رقماً على شهادة ميلاده 2755، ويومها أيضاً كان والده سجيناً في معتقل الصرفند، لأنه خرق مع صحبه نظام منع التجول المفروض على عكا، وحرّك مع صحبه أيضاً عبر قرع الطبول من مئذنة جامع الجزّار، وصيحات الله أكبر الهادرة جماهير عكا والقرى المجاورة..
ما إن أُفرج عنه حتى اعتُقل مرة ثانية، هذه المرّة لدفاعه المجّاني بصفته محامياً منذ 1926 عن المعتقلين من الثوار في يافا، ثم أفرج عنه بكفالة شرط إثبات وجوده ثلاث مرات يومياً أمام «الميجر هارنجتون» الحاكم العسكري البريطاني. ولم تلبث السلطات أن اكتشفت أنه مع المحاميين أمين عقل وإبراهيم نجم قادة الثورة في يافا.. أصدرت بحقّهم مذكّرات اعتقال قد تؤدي إلى أحكام بالإعدام، لكنّهم تمكّنوا «ثلاثتهم» من الهرب، وتمّكن والدي من السفر إلى سورية، واللجوء لحماية المجاهد محمد الأشمر الذي تعامل معه من قبل ومن بعد بتوريد السلاح لتأمين استمرار الثورتين.
هكذا كان المناخ، وفي هذا الزخم درجت خطوات غسّان الأولى.
وما إن أتّم عامه الثاني حتى أدخل إلى روضة الأستاذ وديع سرّي في يافا حيث ابتدأ بتعلّم اللغة الإنكليزية والفرنسية، إلى جانب اللغة العربية، ثم إلى مدرسة الفرير واستمر فيها حتى عام 1948.
كتب والدي رحمه الله في مذكّراته بما يتعلّق بغسّان ملخّصاً اقتطف منه:
(غسّان طفل هادئ يحب أن يكون وحده في غالب الأوقات. مجتهد ويميل إلى القراءة، يحب الرسم حباً جمّاً، مهمل وغير مرتّب ولا يهتم بملابسه وكتبه وطعامه، وإذا ذهبنا إلى البحر، وغالباً ما نفعل، «فقد كان بيتنا قريباً من الشاطئ» يجلس وحده، يصنع زورقاً من ورق، يضعه في الماء ويتابع حركته باهتمام.
قال لي مرة وكان عمره سبع سنوات: بابا أنا أحب الألمان أكثر من الإنكليز!
سألته: لماذا ؟ قال:
ـ لأن الإنكليز يساعدون اليهود ضدّنا.!)
من هذا المدخل أصّور حقيقة المناخ الذي عاش فيه غسّان وسط عائلة مثقفة ووطنية ذات وضع متميز اجتماعيا ومادياً سواء من جهة الأب أو الأم، وأقرر كذلك أن غسّان عاش طفولة مستقّرة هادئة وعاديّة وعندما جاءت أحداث 25 نيسان 1948 يوم الهجوم الكبير على عكا، هذا اليوم الذي عاشه غسّان بكل تفاصيله، بأحداثه المأساوية التي جرت أمام عينيه، «فقد كان بيت جدّي لأمي حيث أقمنا بعد رحيلنا من يافا» ملاصقاً للمستشفى الوطني الذي كان يستقبل في كل لحظة الجرحى والشهداء.
ذكر والدي في مذكّراته: (بتاريخ 26/4/1948 صحونا صباحاً على صوت الرصاص والقذائف التي تطلق باتجاه بيوتنا بكثافة من جهة محطة القطار، فخرج ولدي غازي وأحمد السالم وفاروق غندور وأخي صبحي يحملون بواريدهم ويطلقون الرصاص من بيت الدرج باتجاه العصابات الصهيونية المهاجمة، خرجتُ لأستطلع الأمر، حيث رأيت بعينيّ جثة رجل عربي لم أتبين من هو ملقاة في وسط الشارع. وكان ولدي غسّان حول أقاربه يجمع أغلفة الرصاص الفارغة الساخنة، ويدسّها في جيب بنطاله، في المساء لاحظت بعض الحروق على كفيّه، ورأيت في عينيه نظرة لم أرها من قبل، ارتمى على صدري، لاحظت أنه مقبل على البكاء، فبكينا سويّاً).