قصة "الشيطان يحترق

أسند رأسه إلى الوسادة كما لم يفعل من قبل،أحس أن شيئا ما غير طبيعي،فلأول مرة يشعر بأن دبيب نمل يسري في جسده،طنين حاد في دماغه لم يعرف مصدره،أراد النهوض من مكانه لكنه شعر كأن أعضاءه شلت بكاملها.
رأت زوجته هذا القلق الذي سكن أجفانه المتعبة فقالت له:
ـ امنح لنفسك القليل من الراحة،إنس حطام الدنيا،لقد قيدتك الحياة وأصبحت عبدا لها.
كره هذه الزوجة التي تردد على مسامعه كتب وعظها،وأسفار نصائحها.
هي تذكره بالآخرة،وهو يريد الدنيا،هي تود أن يستشعر السعادة والطمأنينة ليعيش لها،وهو لاه عن عبادة الله بالأموال التي تراكمت في الابناك،والودائع التي لاحدود لها،والضيعات التي فاضت بالخيرات،لكن شح نفسه كان أكبر من أن يمسح دمعة محزون،أو يروي غلة عطشان،أو يربت على كتف يتيم.
كلما اتسعت أملاكه،وكثرت أمواله،كلما ضاق صدره،وأصبح فؤاده يحترق كل يوم أمام ناظريه، تحت مقلتيه برزت بقع زرقاء نبتت كالفطرنوقال الذين له علم بالكتاب" البقه الزرقاء دليل على أن صاحبها يمتلك مالا حراما والعياذ بالله"
نصحته زوجته بأن يزور طبيبا مختصا لكي يفتي في صحته،وتعود له بشاشته ونضارته،هو يرفض الطبيب لأنه يذكره بالموت.
دفع زوجته بمنكبيه،وأسرع متجها الى آلة الحصاد التي تنتظره،عشرات الأطنان من القمح والشعير والذرة ستدخل مخازنه،غلات العنب والتين والمشمش والبطيخ سوف يصدرها إلى أوروبا.
هاتفه الخلوي لا يتوقف عن الرنين،فمدير مزرعته يخبره بأن الثيران قد كبرت،وأنه آن الآوان لبيعها في السوق أو لجمعية الجزارين،ومعمله الكبير المتواجد بالعاصمة قد در عليه ملايين الدولارات،ومجلس الإدارة يطالبه باجتماع للنظر في الأموال التي لم تجد لها مكانا داخل أبناك البلد،وهل سيختار سويسرا أم لندن لكي يودع فها هذه الآلاف المؤلفة من الدولارات.
مديره حساباته المالية في العاصمة الإقتصادية يزف إليه البشرى بأن الصفقة التي عقد عليها آماله قد وافق عليها مجلس المدينة،وأن المزاد العلني الذي أبرم لتصفية حسابات شركة الإسمنت والحديد قد فاز بها.
رآه الكثيرون وهو يكلم نفسه،مثله لا يحناج الى حاسوب لتخزين تقارير حساباته البنكية،مل شيء كان يحصيه في دماغه.
قالت له زوجته وهي ترى شحوب وجهه:
ـ إن بقيت على هذا الحال ستصاب بجلطة في الدماغ.
ركلها كالبغل وندت عنه قهقهة شيطانية،وهو يغمز الخادمات بطرف عينيه.
كانوا ينادونه ب" الحاج" أعجبه هذا اللقب وهوالذي لم يعرف اين تتموقع الكعبة ولا المسجد الحرام،ولم يسبق أن وطئت قدميه عتبة المسجد.
حتى البيت الكبير الذي يسكنه خال من الذرية،فقد حرمه الله من الأموال،بقي مه زوجته،هو لم يفكر في الأولاد،فهو يعتبر الضيعات ومخازن الحبوب والرياضات الخضراء والفنادق هم أبناؤه،وكان يردد على الجميع لازمته المعهودة" من وضع عصاه يضرب بها" يقصد أن الأبناء حين يضعون ايديهم على مال الأب ،فهم بلاشك سيخربون كل شي،وسيأنون على الأخضر واليابس،وليس من المستبعد أن يستصدروا شهادة جنون ضد الأب ويقيمون عليه الحجر والوصاية.
لم يكن الحاج" سهيل" يثق في أحد،كان لا يأكل طعام أحد،ولا يحضر مأدبة أو مناسبة،فهو قد غبر الدنيا كثيرا،قبل ان يجمع هذا المال الكثير،كان يخاف أن يدس له السم كما دس لعظماء العالم فماتوا شر ميتة.
اختلف الكثيرون حول هذه الثروة التي جمعها الحاج " سهيل" فهناك من يدعي أن الحاج اغتنى من بيع الممنوعات،وقالوا آخرون أنه" في ليلة مظلمة وجد بجانب البحر قاربا مليئا بصناديق مغلقة وثقيلة،ولما فتحها وجدها ممتلئة بالذهب والمال الكثير،فحمل على حماره الى كوخه الحقير.
تناسلت الحكايات وتعددت حول ثروته،لكن أغلب سكان القرية الكبيرة أعجبوا بذاء الحاج" سهيل" الذي لم تطأ قدمه باب مدرسة،واستطاع اسثتمار كل هذه الأموال في مشاريع كان جلها ناجحا.
أوحى الكثيرون للحاج بأن يتقدم للإنتخابات وبالفعل أدلى بدلوه ونجح،وحصل على الحصانة البرلمانية.
نهته زوجته أن يتوقف عن هذا الضلال،فهو غير مؤهل لدخول البرلمان،ركلها كسابق عهده وتابع مشواره حياته.
في ليلة شتوية،عاد للمنزل أحس أن الأرض تميد به،أخذته سنة من النوم،رآى رجلين بملابس بيضاء،حقق فيهما النظر،بالكاد تعرف عليهما.
كان الأول رجلا فقيرا سبق للحاج أن دهسه بسيارته فأراده قتيلا في الحال،طلب منه هذا الأخير أن يرافقه،فزع الحاج فزعا أكبر،واستحلفه أن يتركه وشأنه،فهو مازال ينتظر موافقة أحد المقاولين لكي يشتري منه معملا لقطع الغيار.
زاغت نظرات الحاج وهو يرى الشخص الثاني يتقدم منه،حدق فيه النظر وإذا هو جاره" عيسى " الذي أخذ منه أرضه الفلاحية غصبا وقوة لكي ينشئ فوقها معملا لإنتاج اللحوم البيضاء(الدجاج الابيض).
طلب منه الرجل الثاني بأن يرافقه لأن الجماعة في انتظاره،التمس منه الحاج أن يعفيه من الذهاب فهو لم يكمل بناء اسطبلات كبيرة لأبقاره.
رأى الحاج تصميم والحاح الرجلين على مرافقته لهما،استيقظ مرعوبا،طلب من زوجته جرعة ماء يبل بها عطشه،ولما عادت وزوجته وجدته جثة هامدة وعيناه شاخصتان للسماء