الفيلم السياسي في السينما العربية
تمثل الذكاء الهوليوودي , في استخدام الفيلم السينمائي , لاهداف سياسية من خلال مجموعة كبيرة من الاعمال المثيرة مثل افلام جيمس بوند ...!! ولكن هذا الذكاء خفت حدته وانطفأ بريقه , مع انتشار افلام الموجه الجديدة التى قادتها السينما الفرنسية , في طرح الموضوع السياسي على بساط البحث السينمائي , بكل تفاصيله الدقيقة , التي بهرت الناس وجذبتها الى الفيلم الفرنسي مع بداية السبعينات . حيث تأثر الكثير من مخرجي السينما في العالم الثالث بالموجة الفرنسية وبدا ذلك واضحا في اعمال السينمائيين العرب , الذين حاولوا ان يفهموا المعالجة الشمولية لقضايا الوطن والامة من خلال الفيلم السينمائي . وكان هذا يعني جرأة سابقة لاوانها , فبدت وكأنها لغز غير مفهوم حين عرض فيلم " زائر الفجر " من بطولة ماجدة الخطيب وعزت العلايلي وسعيد صالح فلم يكن فيلما سياسيا معاصرا , بقدر ما كان معالجة بوليسية غير واضحة الا ان المعاناة الفكرية والقلق الانساني لبطلة الفيلم كان يوحي بانها مطاردة سياسيا , فلم يكن هناك اتهام جنائي اخر يعالجه الفيلم سوى الاتهام الثقافي والسياسي , وكان للضجة التى اثارها انتاج فيلم " زائر الفجر " والنجاح الذي حققه , اثره في جذب السينمائيين لتقديم فيلم سياسي مباشر , وكان فيلم " الكرنك " من اخراج علي بدرخان وبطولة نور الشريف وسعاد حسني وشويكار وفايز حلاوة وقصة نجيب محفوظ , اكثر الافلام انتقادا لبعض الاوضاع السياسية الفاسدة التي درسها الفيلم , من خلال احد النماذج السياسية المنتمية الى الصف الثاني من مراكز السلطة , حيث يشير الفيلم الى هذا النموذج بأنه المسؤول عن البلبة , في ظل انشغال المسؤولين بالقضايا الكبرى , وهذا ايضا ما أوضحه فيلم " وراء الشمس " لمحمد راضي وبطولة نادية لطفي ورشدي اباظة ومحمد صبحي ومنى جبر وشكري سرحان , حيث عشنا تصويرا مباشرا لما كان يحدث في السجن العربي , على ايدي نماذج من رجال الصف الثالث في السلطة لجلب الاعترافات بالقوة , ارضاء لرؤسائهم في الصف الثاني الذين كانوا يتصرفون طبقا لمصالحهم الشخصية فقط , مستغلين الثقة التي حصلوا عليها , وقد سخر " عادل امام " في فيلم
"احنا بتوع الاتوبيس " ومعه عبد المنعم مدبولي , من نفس الاجراءات البوليسية في السجون الحربية ..
واذا تعمقنا في تلك الافلام (زائر الفجر او الكرنك او احنا بتوع الاتوبيس او وراء الشمس ) سنجد انفسنا اما اجراءات بوليسية بحتة تتحدث عن تجارب شخصية , فردية , وحجم تأثيرها محدود بنسبة ضئيلة من مجموع الناس , الذين وضعتهم الظروف في مواجهة مع هذه الاجراءات التى تمثل الوجه العام لاغلب دول العالم الثالث دون استثناء ...!!
وعادة ما تمر هذه الدول , في مرحلة انتقالية وتاريخية , من عمرها السياسي ببعض القرارات السياسية التي تمس القلة من الناس بالقليل من الضرر ولكنها تعود بالفائدة على الغالبية العظمى من الناس في نفس
الوقت ...
والخطأ يحدث دائما وابدا في الاجراءات البوليسية التى تنفذ هذه القرارات لا يمكن ادانة القرارات لمجرد ان بعض الاشخاص اساءوا التطبيق ...!!
وهذا بالضبط ما يمكن ان نفهمه فى الافلام السابقة الذكر , وما يمكن تلخيصه من الفيلم الاخير لفاتن حمامة " ليلة القبض على فاطمة " , اخراج هنري بركات , حيث اننا نجد انفسنا امام شخص فرد اساء استغلال سلطاته ضد شقيقته , دون علم المسؤولين بحيث اننا نراه يحاكم ويعاقب في نهاية الفيلم بعد افتضاح امره للمسؤولين والرمزية في فيلم " ليلة القبض على فاطمة " مرفوضا تماما , لان القصة واقعية , وقد نشرتها الكاتبة " سكينة فؤاد " قبل عدة سنوات , وعرضت في مسلسل اذاعي , كما انتجت في مسلسل تليفزيوني , والكاتبة للقصة غير مسؤولة عن استخدام الرمزية والايحاء السياسي ان كان في الفيلم السينمائي او في المسلسل التليفزيوني ...!! لان اساءة اى شخص لسلطته ومسؤوليته تدخل في محاسبته , هو شخصيا , دون ان يتحمل الوطن كله تبعات انانيته وذاتيته فمن غير المعقول ان يتحمل المجموع , ميل احد النماذج لجمع المال والثروة باسم زوجته في فيلم " وراء الشمس " مثلا , كما انه من غير المنطقي ان نحمل كبار المسؤولين , اخطاء ادارة السجون , في أي بلد من البلدان , كما رأينا في فيلم " احنا بتوع الاتوبيس " , والا فاننا ننجنى على حركة التاريخ الذي سيشهد بعد مئات السنين , بان النعمة مست الجميع في مرحلة التحول العظيم .
لكن الوضع يختلف منطقيا حين نجد انفسنا امام فيلم " وقيدت ضد مجهول" , حيث الرمزية السياسية واضحة للعيان , وتشمل ادائه كاملة , لا تتعلق بفرد او بضعة افراد , تعدد ما يتعلق بوطن باكمله , كما تجد انفسنا امام واقع مجتمعي يعيد الى الاذهان , تسلط القوي على الضعيف , استقلال الغني للفقير , وانهيار النظام والقانون , لخدمة بعض الاشخاص , كما راينا في فيلم " الغول " من بطولة عادل امام وفريد شوقى , وهو يحمل نفس الفكره التى دار حولها فيلم " على من نطلق الرصاص " بطولة فردوس عبد الحميد عزت العلايلى وسعاد حسنى وجميل راتب , ونفس الفكرة التى قدمها هشام ابو النصر فى فيلم " قهوة المواردى " حيث كل شى يتغير الى الوراء , وياخذ الناس الى جحيم الالبوتيكات , وغلاء الاسعار , ولتحكم الفرد الواحد في مجموع الناس البسطاء , ويعلو الصبي الصغير على الرجل الحكيم القدير في زعزعة واضحة للكيلن الاجتماعى , لدرجة تصلى الى ان تبيع الام ابنتها في حفل زفاف مادي , ويموت الانسان الشريف ...!!
ثم نجد انفسنا امام عهد جديد , وممثل جديد هو " ممدوح عبد العليم " يقدمه ابو النصر رمزا للقاء والصفاء في نهاية فيلم "قهوة المواردي " , الذي اوجز المشكلة السياسية ببساطة شديدة متسائلا عن الافضل للجميع ثراء فرد واحد ام ثراء المجموع .
وفي موقف يتسم بالموضوعية السياسية للتركيبة الثقافية والاجتماعية نجد انفسنا امام نمط ثالث من الفيلم السياسي , تفوق على كل ما عاداه من افلام سياسية مباشرة , حيث قدم حسين كمال فيلمه الشهير "ثرثرة فوق النيل " وعالج فيه مجموعة من الشخصيات المثقفة كما جاء ذكرها في القصة الاصلية لنجيب محفوظ الاديب , والصحفي , والاداري , والممثل السينمائي , ورئيس الارشيف تجمعوا في عوامة على النيل , وانتقدوا سخرية لاذعة اوضاع العالم السياسي من اقصاه الى ادناه , بسلبية واضحة ,شاركهم فيها نماذج نسائية تمثل الزوجة اللعوب والطالبة الساذجة , والموظفة الفاتنة , والصحفية الملتزمة بقضايا الشعب والبلد حيث يسير الفيلم بنا من موجة السلبية المفرطة , الى موجة ايجابية حادة تقودها الصحفية الجادة بزيارة الى مدن القناة التي اصابها الخراب بعد الحرب فكان هذا الفيلم شهادة سياسية اتسمت بالحياد في الاتهام , وقال الفيلم اننا جميعا مسؤولون عما حدث سنة 1967 من الغفير الذي يتستر على المجون رغم تدينه الى المدير الذي ينسى نفسه وسط الدخان في العوامة … ويبدو ان "ماجدة الخطيب " عشقت هذه الادوار , فشاركت احمد زكي وتيسير فهمي وكمال الشناوي بطولة فيلم " العوامة 70 " وهو فيلم انتقادي , ايضا , على غرار " ثرثرة فوق النيل " مع اختلاف النهج الفكري , حيث دارت فكرة " ثرثرة فوق النيل " حول سلبية المثقفين والاداريين من واقع البلاد بينما دارت فكرة " العوامة 70 " حول الحرب الدائرة بين المشتغلين لاقتصاد البلد وبين المثقفين من الصحفيين وبين هؤلاء وهؤلاء نماذج مختلفة تتفاوت فيها السلبية والايجابية بينهم …
والفيلم السياسي الثالث الذي تحمل المسؤولية الى الجميع ويشير الى المشتغلين على اختلاف فئاتهم وطبقاتهم هو الفيلم الرائع "المذنبون " من اخراج سعيد مرزوق وبطولة مجموعة كبيرة من الممثلين على رأسهم : " عماد حمدي " البطل الحقيقي لفيلم الثرثرة , والبطل الحقيقي لفيلم المذنبون ..!! " وسهير رمزي " التي تفوقت في هذا الفيلم , ولم تتفوق في سواه .. و "صلاح ذو الفقار " الذي اجاد باقتدار يحسد عليه دوره كمدير عام لاحدى المؤسسات التي يستغلها لاغراضه الشخصية والانانية
و "حسين فهمي " الذي مثل ابن الباشاوات الحزين , اما " توفيق الدقن " فهو كعادته يعيش مع كل ادواره , فكان متميزا كمدير لاحدى الجمعيات التعاونية التي يستغلها لصالحه الشخصي , و "يوسف شعبان " الطبيب الذي يجري بعض العمليات الجراحية الممنوعة شرعا وقانونا , حتى نصل في نهاية المسار الى صاحب النفوذ الذي يفرض سلطانه على كل كبيرة وصغيرة بما فيها تلك الممثلة التي يتجمع حولها كل المذنبين في حق المجتمع والبلد ..
وهذا الفيلم الناضج فكريا وفنيا , استطاع ان يضع اليد على الجرح في ازمة الحضارة والتخلف ضمن العمل السياسي والاقتصادي والاجتماعي وكان شموليا لدرجة اثارت اعجاب الجميع نقادا ومشاهدين على اختلاف اذواقهم ومستوياتهم ويقول : ان العيب ليس في الفرد ولكن العيب فينا جميعا , عندما نصل الى درجة المسؤولية والسلطة فنستغلها ونفس مصالح الناس وحاجاتهم , حيث تفقد القرارات العظيمة