(1)
لماذا قلت: عند الأديب الملتزم بالإسلام، ولم أقل: عند الأديب المسلم؟
قلت ذلك حتى يتضح المراد من أول وهلة.
كيف؟
إذا قلت: عند الأديب المسلم- فكل من ولد لأبوين مسلمين يعد نفسه مسلما حتى لو كان علمانيا أو ملحدا أو مقدسا لكل شيء إلا الإسلام وأصوله وما يتصل به، بل قد يسمي نفسه مفكرا إسلاميا، وقد يسميه الناس بذلك.
وهذا النوع لا أعنيه.
لماذا؟
لأنه متشبع بما يضاد ما سأقوله.
إذا: من أخاطب؟
إنني أخاطب ذلك الأديب الذي يحاول القضاء على العلمانية في الأدب بتعميق القيم الإسلامية في أدبه، ويبحث عن وسائل تحقيق ذلك بعيدا عن الشبهة التي يرددها من يتشبع بالنموذج الأدبي العلماني: أدب الوعظ.
هذا هو مستهدف مقالي.
فماذا أريد أن أقول؟
(2)
إن الأدب فعل من أفعال البشر التي تنحصر تحت الأحكام الشرعية الخمسة من حرام وواجب ومكروه ومستحب ومباح؛ فهو قد يكون في سياق حراما وقد يكون في سياق آخر واجبا وقد يكون في سياق ثالث مكروها وقد يكون في سياق رابع مستحبا وقد يكون في سياق خامس مباحا.
ماذا يجعل السياق يختلف؟
إنها القيم التي يتغياها الأديب، وإنها الوسائل التي ينتهجها لتحقيق تلك القيم.
وهل يختلف الأديب الذي يتخذ الإسلام منهجا عن غيره في ذلك؟
نعم.
كيف؟
إن الأدب انعكاس لصورة الأديب؛ لأنه يضع قناعاته النفسية والفكرية والحياتية في أعماله؛ فإذا كان متشبعا بالإسلام انعكس على إنتاجه، وإن كانت الأخرى فالموجود الأدبي الغالب هو النتاج.
وكيف يكون ذلك؟
(3)
يكون ذلك بالمنطلق الفكري.
وما منطلق الأديب الفكري الذي يتغيا الإسلام؟
إنه منطلق يتمثل قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن: 1 - 4]، فيعلم أن البيان الذي يمثله الأدب نعمة من الله ومنة تستوجب الشكر الذي يقتضي صرفها في طاعة.
ويتمثل قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1 - 5]، فيعلم أن القراءة مادة الإبداع والإبداع الذي يعكسه بأدبه مرتبط بمنهج الله تعالى؛ فهو يقرأ ويكتب متمثلا مقام الإحسان الذي بينه الرسول في الحديث الذي رواه البخاري وغيره: {قَالَ: مَا الْإِحْسَانُ؟ قَالَ: أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ}.
كذلك يعرف ذلك الأديب أنه مسئول عن وقته وعمره وعلمه كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه الترمذي وصححه الألباني: {لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ}.
ويستحضر ما يملأ النموذج الإسلامي للمسلم الملتزم بالإسلام في كل الحياة تحقيقا لقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162، 163].
ولنا أن نسأل: كيف يؤثر هذا المنطلق على أدوات الأديب؟ وهل يؤدي به إلى اختراع أدوات جديدة؟ أم هل ينحصر الأمر في توظيف الأدوات الموجودة توظيفا يتلاءم مع المنطلق السابق؟
(4)
سنرجئ أمر اختراع أدوات فنية جديدة إلى سياق آخر، وسنحصر الكلام في هذا المقال على استثمار الأدوات المتاحة وفق منطلقه الفكري الإسلامي.
كيف يكون ذلك؟
سنعرض لأدوات فنية رئيسة هي الآتي:
كل أحداث الحياة تصلح مادة للأدب حسب النوع الأدبي، لكن الأديب الملتزم إسلاميا لا يختار موضوعا حراما.
كيف؟
لا يبني عمله الأدبي على مومس يستعرض من خلالها الحياة ويحكم على البشر والأحداث، ويجعلها محبوبة إلى القارئ لإلفه إياها لأنها المتحدثة والبطلة للعمل الأدبي، ومعذورة لديه بأسبابها الإنسانية التي قد تكون محض شهوة.
ولا يبني عمله الأدبي على إنسان مقهور محطم يائس وتكون تقنيات تعامله مع هذه المعايشة سيجارة وكأس خمر وغانية، وينسى ربه ودعاءه وسلوكيات المؤمن في المصيبة.
ولا يجعل موضوعه تمجيد ما هو غير إسلامي والحط مما هو إسلامي كما فعل علاء الأسواني في روايته "شيكاغو" التي كانت فيها المحجبة ساقطة في الفاحشة والملتحي منافق مراء أما الشيوعي والنصراني فهما النموذجان الناصعان المخلصان.
ولا يبني عمله الأدبي على انتهاك ما هو مقدس ديني اعتمادا على كون الحكومات لا يعنيها أمر الدين بقدر ما تعنيها الأمور المتصلة بالحكم والسلطة كما فعل صاحب رواية "وليمة لأعشاب البحر".
و... و... إلخ.
والسابق يكفي مثالا والمتابع يمكنه أن يقرأ ويصنف ويحلل.
الصراع هو قوام الحركة الأدبية للأحداث على تفاوت في ظهوره، والأديب الملتزم الإسلام منهجا يظهر التزامه في عنصر الصراع في سببه ومسيرته وإنهائه.
كيف؟
لن يدير الأديب الملتزم إسلاميا صراعا حول الإيقاع بامرأة في شهوة فاسق يظل يحكي ويحيك الحيل، ولن يجعل لحظات الضعف الإنساني موضوعا للصراع يبني عليها حبكته الفنية فيظل البطل يسيطر على الضحية خوف الفضيحة وتظل هي خاضعة للسبب ذاته، ولن يجعل الجنس سببا للصراع، ولن ... ولن ... إلخ.
لن يحصر الأديب مصادر ثقافة أبطاله في الثقافة الغربية ولا يرى الأدب إلا ذلك، بل سيجعل القرآن والسنة وسيرة الصحابة وأعلام الحضارة الإسلامية المصادر الأولى الأساسية، ثم ينوع بما يلائم ذلك من الثقافة الغربية فلسفة أو نقدا أو غير ذلك.
ويظهر ذلك في عادات شخصياته وسلوكياتها في حياتها الأسرية والعملية والاجتماعية والثقافية، فلا تجد رجل أعمال يقيم غداء عمل تشرب فيه الخمر، ولا تجد تاجرا يجري عقدا يعلم فيه حراما، ولا تجد مثقفا يدير حوارا حول المقدس من دون علم، و... إلخ.
عند رسم شخصيات عمله سيستحضر هدي القرآن في التعبير عن أشد اللحظات خصوصية بما يُعرِّفها ويصون سامعها عما يدنس الطهر.
كيف؟
قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ } [الأعراف: 189].
فهو يتأمل جملة {تَغَشَّاهَا} ويستحضرها ويتمثلها فلا يتجاوز عند رسم شخصياته رسما خارجيا أو داخليا؛ فلن يظهر الفحش في العبارة، ولن يسرف في وصف النساء الجسدي؛ لأنه يعلم أن الوصف المطلوب هو ما يخدم سياق العمل الأدبي، ولن تكون الشهوة وإثارتها هدفا له.
5، 6، 7، 8، 9- الحلم، وتيار الوعي، والحوار الداخلي "المونولوج"، والمذكرات، والرسائل
لن يحمله كون الحلم خارج السيطرة، وكون تيار الوعي غير منظم، وكون الحوار الداخلي غير معلوم عند شخصيات العمل الأدبي الأخرى، وكون المذكرات يكتبها الإنسان في عدم وجود آخرين، وكون الرسائل فعل شخصي محصور بين المرسل والمرسل إليه- على أن يقترب من الحرام؛ لأنه يعلم أن أدبه فعل من أفعال الوعي الخاص به.
لن يدير حوارا بين رجل وامرأة في خلوة، ولن يشيع جو الاختلاط، ولن يشعر القارئ أن الأدب ابن بيئة المعصية فقط، ولن يسف بحجة مواءمة طبيعة الشخصية.