ثقافة كتابيّة أم شفاهيّة في غاية الحدّة ! ؟
بقلم : أصيل الشابي

في ثقافة شفاهيّة يميل الناس إلى سماع ما يقوله الآخرون، وفي ما يتعلّق بما هو مقروء يميلون إلى استبداله بما هو مسموع، وبتلك الطريقة يجدون الوقت للمتابعة والاستفسار والتعليق، وتعلق بأذهانهم أسماء الذوات والأشياء.
هذا الميل إلى المعرفة الشفاهيّة لاحظته بالفعل، وكنت أسأل نفسي في كلّ مرّة لم تتحوّل المعرفة من سياق كتابي إلى سياق شفاهي، أو كيف تسحب على تلك الهيئة من طبيعتها المدوّنة إلى طبيعة أخرى مغايرة، كنت أسأل نفسي وأنا واع بأنّ ما يكتب يخضع بالضرورة للأحاديث والتعليقات الكلاميّة، وأنّ ما يقال قد يقع في أيّة لحظة من اللحظات في شباك الكتابة، فالمعرفة لم تكن قطّ مسيّجة هنا أو هناك، وإنّما ما يبعث على السؤال هو تعويض سياق بسياق تعويضا شبه كليّ.
يمكن تسمية ذلك بالكسل الذي يتجسّد حيال القراءة، القراءة التي عادة ما تتحقّق في ضوء جملة من الشروط كالعزلة والتركيز والتأمّل، هذه الشروط تجعل بعضهم يشعر وهو يقرأ بالوقوع تحت وطأة شيء ثقيل يضعه، تحديدا، بمنأى عن الآخرين أو عن أحاديثهم المثيرة والمغرية التي يمكن قبولها بسهولة والردّ عليها بمنتهى البساطة. لا أدري أيمكن تسمية هذا بالكسل أم لا، فالكسل يرتبط بامتلاك القدرة وعدم تسخيرها، وفي حالة كحالة القراءة لا أعرف إن كانت مثل تلك القدرة موجودة أم لا، لكن ربّما، خشية المبالغة، قد تكون كلمة الكسل هي الأنسب خاصّة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار مدوّنة كلّ واحد منّا التي في رأسه، المدوّنة التي ألّفتها لدينا الكتابات المختلفة.
كنت دائما أقول إنّ برتقالة لا يمكنها تعويض ثمرة الليمون، فلا الأصفر خلق لحذف البرتقالي ولا البرتقالي خلق لحذف الأصفر، فعيوننا وذائقتنا أعمق بكثير من الوقوع في الخلط بين هذا وذاك، ولكنّ المعرفة تكون لبعضهم أكثر قربا وحميميّة لمّا تنطق بها الألسنة وتضيؤها العيون وتشيد بها السحنة، لمّا تلتقطها الأسماع مشبوبة بحرارة الأنفاس والأمزجة، هذه المعرفة المنسلخة عن العزلة يمكن تقويمها باستمرار على هذا النحو أو ذاك، يمكن بناؤها بالتعاون ونضمها جماعيّا في ظلّ المتعة.
الإشكال هنا كيف يطمئنّ هؤلاء إلى أنّ الحديث، وهذه الكلمة الأخيرة هي ما أبحث عنه لأنّها تعبّر عن دفء الكلام المتبادل، يمكن أن يعوّض القراءة القابلة بالبديهة للتأمّل على عشرات الوجوه، فالكتب موضوعة أساسا للتأمّل وإعادة التأمّل، وهي قادرة إذا لم يوجد ذلك على انتظار من يجيء يوما ليخترق سمكها، لا يمكن هنا القول إنّ الأصفر هو البرتقالي حتّى وإن حجب اللون بالظلمة، فالمذاق والرائحة لا يمكنهما الخطأ.
يمكن تأييد فكرة الكسل في مواجهة القراءة بالجهد الذي تتطلّبه، جهد يملي الفصل بيني وبين الآخرين للحظات تقصر أو تطول تكون فيها الحدود بيني وبينهم في قبضة اليد، وتكون الستائر المسدلة شفّافة غير مرئيّة وفي الوقت فاعلة ومطمئنة. وأستطيع من ثمّة أن أوجّه انتباهي كما يوجّه راحته في اتّجاه بعينه، ثمّ يشرع في مواجهة بنى في غاية الانزلاق، هذا الانزلاق يمكن تقويمه في الحديث بما يقوله هذا وذاك، بما يقال هنا في هذه اللحظة أو هناك في تلك اللحظة، ممّا يجعل الحيرة تتبدّد باستمرار.
لا يمكن رغم ذلك الذهاب إلى أنّ القراءة مملّة فكثيرون يستمتعون بها، ولكنّ المتعة ربّما تكون قد اقترنت بالتقبّل، ربّما قد أوجدت خارج العقل في وضعيّات الاسترخاء والتلذّذ.. الكسل ذاته بوجه ما. المتعة، في الواقع، كما في الألعاب في قاعات الألعاب وأمام الأجهزة المعدّة للتسلية تفتقد في البداية إلى الفهم، فهم ما نفعله ونتابعه بعد ذلك إلى نهايته ممسكين بالخيط الذي يظلّ يتحرّك بين أصابعنا إلى نهاية اللعبة التي هي نتيجة لأفعالنا، ثمّ تخرج المتعة لاحقا من ذواتنا لتحيط بنا.
إنّ متعة القراءة هي بالتأكيد مختلفة عن متعة السماع، إنّها مضطرّة إلى الانقسام على نفسها في نقطة ما، نقطة التحوّل من سياق إلى آخر، لهذا فإنّ تحويل القراءة إلى محادثة هو انزلاق إلى أماكن أخرى مختلفة إذا القصد منه تعويض شيء بشيء، فالإشكال كما قلت في البداية هو هذا الاكتفاء بما يقال عن الكتابة بينما الكتابة هي المختلف الذي يقتضي أن يواجهه الفرد بنفسه.
الأصفر هو الأصفر والبرتقالي هو البرتقالي، واللون مساحة واسعة للاختلاف، مساحة واسعة للتمايز. لا يمكننا المغالطة في ذلك، لا يمكننا فعل ذلك البتّة، في أحد أعداد أخبار الأدب كتب الأستاذ جمال الغيطاني عن رواية صحراء التتار للإيطالي دينو بوتزاتي، فأبدى إعجابه الكبير بذلك العمل، ثمّ حاول تلخيصه. ما استوقفني لم يكن العمل وإنّما وعي كاتب المقال الشديد بالتمايز بين عالم الكتابة التي واجهها هو وحديثه عنها وإلحاحه على أن تتمّ القراءة قبل كلّ شيء، يقول " ما أثق منه أنّني عرفتها (الرواية) بنفسي، لم يخبرني بها أحد " ويواصل " بعد قراءتي أصبحت من أقرب الأعمال الأدبيّة إلى قلبي، لم أتوقّف عن التعريف بها، وإعارتها إلى من أحب " إنّها المتعة بأتمّ معنى الكلمة، متعة مندمجة في سياق كتابي وصادرة عنه، متعة قابلة للتجدّد، يقول عن نفس الرواية " أنّ صدور ترجمة جديدة أو طبعة جديدة لكتاب نحبّه، فرصة لكي نستعيده مرّة أخرى، يخالجني شعور كأنّني أقرأه لأوّل مرّة ما دام الورق مختلفا والغلاف ".
القارئ هنا لا يستبدل سياقا بسياق، وإنّما يعمّق ذات السياق، إنّه يبرهن على قدرة الذات على ابتكار متعتها في حالة القراءة، إنّه يدعو الأفراد إلى تجريب هذا الابتكار بأنفسهم لا عبره هو. مثل هذه الدعوة في مجتمع شفاهي وفي ثقافة شفاهيّة لا تذهب بعيدا، أعرف كثيرين سمعوا ويسمعونه إلى الآن، ولكنّهم لا يعيرونه قراءة والشيء نفسه بالنسبة إلى محمود درويش وغيره، الميل إلى سماع الكلمات وعدم ممارستها رغم حداثتها له أسبابه، ولعلّ أهمّها أنّ الثقافة الشفاهيّة مازالت قويّة قوّة حقيقيّة ومؤثّرة تأثيرا حقيقيّا الأمر الذي قد يجعلنا نعتقد أن الأصفر ليس سوى البرتقالي أو أنّ البرتقالي ليس سوى الأصفر.
جريدة الصحافة التونسيّة